الآيات 169 - 171

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِّنَ اللهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمؤْمِنِينَ *﴾

التّفسير

الحياة الخالدة:

يرى بعض المفسرين أن الآيات الحاضرة نزلت في شهداء "أُحد" ويرى آخرون أنها نزلت في شهداء "بدر"، ولكن الحقّ هو أن إرتباط هذه الآيات بما قبلها من الآيات يكشف عن أنها نزلت في أعقاب حادثة "أُحد"، وإن كان محتواها، ومضمونها يعم حتّى شهداء "بدر" الذين كانوا 14 شهيداً ولهذا روي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنه قال: إنها تتناول قتلى بدر وأُحد معاً(1).

وقد روى ابن مسعود عن النبي (ص) أنه قال اطلع إليهم (أي أرواح شهداء أُحد وهي في الجنة) ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا.

ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أين يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة أُخرى فقال تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون قالوا: فتقرىء نبينا السلام وتبلغهم ما نحن فيه من كرامة فلا يحزنوا "فنزلت هذه الآيات"(2).

وعلى كلّ حال فإن الذي يبدو للنظر هو أن بعض ضعاف الإيمان كانوا- في مجالسهم وندواتهم بعد حادثة أُحد- يظهرون الأسف على شهداء أُحد، وكيف أنهم ماتوا وفنوا، وخاصة عندما كانت تتجدد عليهم النعمة فيتأسفون لغياب اُولئك القتلى في تلك المواقع، وكانوا يحدثون أنفسهم قائلين كيف ننعم بهذه النعم والمواهب وإخواننا وأبناءنا رهن القبور لا يصيبهم ما أصابنا من الخير، ولا يمكنهم أن يحظوا بما حظينا به من النعيم؟؟.

وقد كانت هذه الكلمات- مضافاً إلى بطلانها ومخالفتها للواقع- تسبب إضعاف الروح المعنوية لدى ذوي الشهداء.

فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كلّ هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء السامية، ومقامهم الرفيع وتقول: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً).

والخطاب- هنا- متوجه إلى رسول الله (ص) خاصة حتّى يحسب الآخرون حسابهم.

ثمّ يقول سبحانه معقباً على العبارة السابقة (بل أحياء عند ربهم يرزقون).

والمقصود من الحياة في الآية هي "الحياة البرزخية" في عالم ما بعد الموت، لا الحياة الجسمانية والمادية، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير

من الناس حياة برزخية أيضاً(3) ولكن حيث أن حياة الشهداء من النمط الرفيع جداً، ومن النحو المقرون بأنواع النعم المعنوية، هذا مضافاً إلى أنها هي محط البحث والحديث في هذا السياق القرآني لذلك خصوا بالذكر وخصت حياتهم بالإشارة في هذه الآية، دون سواهم ودون غيرها أيضاً.

إن حياتهم البرزخية محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأن حياة الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئاً يذكر بالنسبة إليها.

ثمّ إن الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية، وما يكتنفها ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم إبتهاجهم بما أوتوا هناك فتقول: (فرحين بما آتاهم الله من فضله).

ثمّ إن السبب الآخر لإبتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف الشهادة في المعركة إذيقول القرآن:(ويستبشرون بالذين لميلحقوابهممن خلفهم).

ثمّ يردف هذا بقوله: (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني أن الشهداء يحسون هناك وفي ضوء ما يرونه أن إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي خوف ممّا تركوه في الدنيا، ولا أي حزن من الآخرة ووقائعها الرهيبة.

على أنه من الممكن أن يكون لهذه العبارة تفسير آخر هو أن الشهداء بالإضافة إلى سرورهم وفرحهم لما يشاهدونه من الدرجات والمراتب الرفيعة لإخوانهم الذين لم ينالوا شرف الشهادة ولم يلحقوا بهم، لا يشعرون هم أنفسهم بأي خوف من المستقبل ولا أي حزن من الماضي(4).

ثمّ إنه سبحانه يقول: (يستبشرون(5) بنعمة من الله وفضل).

وهذه الآية- في الحقيقة- مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم. فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين:

الأُولى: من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها، لا بها فقط بل لما يتلقونه من الفضل الإلهي الذي هو التصعيد المتزايد المستمر للنعم الذي يشمل الشهداء أيضاً.

والثانية: من جهة أنهم يرون أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين...

لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة: (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)أجل، إنهم يرون بأم أعينهم ما كانوا يوعدون به ويسمعون بآذانهم.

إنها فرحة مضاعفة.

شهادة على بقاء الروح

تعد الآيات الحاضرة من جملة الآيات القرآنية ذات الدلالة الصريحة على بقاء الروح.

فهذه الآيات تتحدث عن حياة الشهداء بعد الموت والقتل.

وما يحتمله البعض من أن المراد بهذه الحياة هو معنى مجازي، وأن المقصود هو بقاء اسمهم، وخلود آثارهم، وأعمالهم وجهودهم بعيد جداً عن معنى الآية، وغير منسجم بالمرّة مع أي واحد من العبارات الواردة في الآيات الحاضرة، سواء تلك التي

تصرح بأن الشهداء يرزقون، أو التي تتحدث عن سرورهم من نواح مختلفة، هذا مضافاً إلى أن الآيات الحاضرة دليل بيّن وبرهان واضح على مسألة "البرزخ" والنعم البرزخية التي سيأتي الحديث عنها وشرحها عند تفسير قوله سبحانه: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)(6) إن شاء الله.

أجر الشهداء

لقد قيل عن الشهداء ومكانتهم وأهمية مقامهم الكثير الكثير، فكلّ الأمم، وكلّ الشعوب تحترم شهداءها وتقيم لهم وزناً خاصّاً ولكن ما يوليه الإسلام للشهداء في سبيل الله من الإحترام وما يعطيهم من المقام لا مثيل له أصلاً، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، فإن الحديث التالي نموذج واضح من هذا الإحترام العظيم، الذى يوليه الإسلام الحنيف للذين استشهدوا في سبيل الله، وفي ظل هذه التعاليم استطاعت تلك الجماعة المحدودة المتخلفة أن تكتسب تلكم القوّة العظيمة الهائلة التي استطاعت بها أن تركع أمامها أعظم الإمبراطوريات، بل وتدحر أعظم العروش.

وإليك هذا الحديث:

عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: بينما أميرالمؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال: كنت رديف رسول الله (ص) على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عمّا سألتني عنه فقال:

الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار.

فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة.

فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب...

ويكتب له (أي لكلّ شهيد وغاز) كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله...

وإذا ضاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم.

فإذا برزوا لعدوهم وأشرعت الأسنة وفوقت السهام، وتقدّم الرجل إلى الرجل حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة والتثبيت فينادي مناد: "الجنة تحت ظلال السيوف" فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف.

وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتّى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة.

فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيب الذي خرج من البدن الطيب، إبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويقول الله: أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني(7).


1- تفسير العياشي حسبما نقله تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 406.

2- الدر المنثور: ج 2 ص 95 - 96.

3- ينقسم أصحاب الحياة البرزخية - حسبما يذهب إليه بعض المحققين - إلى نوعين الصالحون جداً، والطالحون جداً.

4- الضمائر في "لاخوف عليهم ولا هم يحزنون" حسب التفسير الأول تعود إلى المجاهدين الباقين على قيد الحياة الذين لم يلحقوا بالشهداء، وعلى التفسير الثاني تعود إلى الشهداء أنفسهم.

5- الإستبشار يعني الإبتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبة. وليست بمعنى التبشير والإبشار.

6- المؤمنون: 100.

7- اقتباس من تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 252.