الآيات 156 - 158
﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الاَْرْضِ أَوَكَانُواْ غُزَّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لاَِ لَى اللهِ تُحْشَرُونَ *﴾
التّفسير
استغلال المنافقين:
كانت حادثة "أُحد" تحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر المسلمين وذلك من جهتين:
أولاً: لأنها كانت تعتبر خير مرآة تعكس حقيقة المسلمين في تلك المرحلة، وتساعدهم على رؤية نقاط ضعفهم، فإصلاحها وإزالتها، ولهذا السبب ركز القرآن على أحداث هذه الواقعة وملابساتها وقضاياها ذلك التركيز الكبير وأولاها ذلكم الإهتمام البالغ، فنحن نرى كيف نستفيد منها دروساً وعبراً كثيرة وكبيرة، في الآيات القادمة كما في الآيات السابقة.
ومن جهة أُخرى هيأت أحداث هذه الواقعة أرضية وفرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية، ومن أجل هذا نزلت آيات عديدة لإبطال مفعول هذه المحاولات وتفشيل هذه المساعي الماكرة، من جملتها الآيات المذكورة أعلاه.
فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أولاً إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية، وتحذير المسلمين منهم فتقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).
هذه الكلمات وإن كانوا يطلقونها في ستار من التعاطف وتحت قناع الإشفاق، إلاّ أنهم لم يكونوا- في الحقيقة- يقصدون منها إلاّ تسميم روحية المسلمين، وإضعاف معنوياتهم، وزعزعة إيمانهم، فينبغي ألا تقعوا تحت تأثيرها، وتكرروا نظائرها من العبارات.
(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم).
أنكم أيها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلة الغاوية، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضاً، وستمتنعون أيضاً عن الخروج إلى ميادين الجهاد والسفر والرحيل من أجل الله وفي سبيله، وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنوية عالية، وعزم أكيد ودون تردد ولا كلل، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين، أبداً.
ثمّ إن القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم بثلاث أجوبة منطقية هي:
1- إن الموت والحياة بيد الله على كلّ حال، وأن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئاً، وأن الله يعلم بأعمال عباده جميعها: (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير).
2- ثمّ إنكم حتّى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل- كما يحسب المنافقون- فإنكم لم تخسروا شيئاً، لأن رحمة الله وغفرانه أعظم وأعلى من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الاستمرار في الحياة من الأموال والثروات (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون).
وأساساً لا تصحّ المقارنة بين هذين الأمرين فأين الثرى من الثريا، ولكنه أمر لا مفر منه عند مخاطبة تلك العقول المنحطة التي تفضل أياماً معدودة من الحياة الفانية وجفنة من الثروة الزائلة على عزة الجهاد وفخر الشهادة.
إنه ليس من سبيل أمام هؤلاء إلاّ أن يقال لهم: إن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل الله، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار من طريق حياتهم الموبوءة، المزيجة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.
3- وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإن الموت لايعني الفناء والعدم حتّى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الاستيحاش، إنه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون).
إن الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في اثناء السفر، في مصاف الشهادة في سبيل الله، لأن المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل الله ولأجل الله كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي، وذلك لأن الأسفار في تلك العصور كانت محفوفة بالمشاكل، ومقترنة بالمصاعب والمتاعب، وكانت تلازم في الأغلب الأمراض التي تؤدي في أكثر الأحيان إلى الموت، ولذلك لم يكن ذلك الموت بأقل فضلاً من القتل والشهادة في ميادين الجهاد وسوح النضال.
وأما ما إحتمله بعض المفسّرين من أن الأسفار المذكورة في هذه الآية هي الأسفار التجارية فهو بعيد جداً عن معنى الآية، لأن الكفّار لم يتأسفوا قط لهذا الأمر بل كان هذا هو نفسه وسيلة من وسائل الحصول على الثروة وتكريسها، هذا مضافاً إلى أن هذا الموضوع لم يكن له أي تأثير في إضعاف روحية المسلمين بعد معركة أُحد، كما وان عدم تنسيق المسلمين مع الكفّار في هذا المورد لم يوجد ولم يسبب أية حسرة للكفّار، ولهذا فإن الظاهر هو أن المراد من الموت في أثناء السفر في هذه الآية هو الموت في السفر الذي يكون بهدف الجهاد في سبيل الله، أو لغرض القيام بغير ذلك من البرامج الإسلامية.