الآيات 149 - 151

﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ فَتَنقَلِبوُاْ خَـاسِرِينَ * بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ *سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـاناً وَمَأْوَئهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ *﴾

التّفسير

تحذيرات مكررة:

هذه الآيات- كسابقاتها- نزلت بعد معركة "أُحد" وبهدف تقويم وتحليل الحوادث التي وقعت أو لابست تلكم المعركة، ويشهد بهذا وضع هذه الآيات والآيات السابقة.

إن ما يبدو للنظر هو أن أعداء الإسلام أخذوا- بعد معركة أُحد- يسعون في إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة، والمغلفة أحياناً بلباس النصيحة، والتحرّق على ما آل إليه المسلمون، وكانوا بالإستفادة من الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين، يحاولون زرع بذور النفور من الإسلام بينهم.

ولا يستبعد أن يكون اليهود والنصارى قد ساعدوا المنافقين في هذه الخطة الحاقدة، كما حدث في المعركة نفسها حيث كان لهم حظ في الترويج للشائعة التي أطلقت حول مقتل النبي (ص) بهدف إضعاف معنويات المقاتلين المسلمين.

الآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين) فهي تحذر المسلمين من إطاعة الكفّار وتقول: إن إطاعة الكفّار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.

إن إطاعة الكفّار في وساوسهم وتلقيناتهم، والإصغاء إلى دعاياتهم تعني العودة إلى النقطة الأُولى ألا وهي الكفر والفساد والسقوط في حضيض الإنحطاط، وفي هذه الصورة يكونون قد إرتكبوا إثماً كبيراً ستلازمهم تبعاته، وآثاره الشريرة، فأية خسارة أكبر من أن يستبدل الإنسان الإيمان بالكفر، والنور بالظلام، والهدى بالضلال والسعادة بالشقاء؟!

ثمّ إنه سبحانه يؤكد بأن لهم خير ناصر وولي وهو الله: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين).

إنه الناصر الذي لا يغلب، بل لا تساوي قدرته أية قدرة، في حين ينهزم غيره من الموالي، ويندحر غيره من الأسياد.

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب).

ففي هذا المقطع من الآية يشير إلى نجاة المسلمين بعد معركة أُحد، وخلاصهم بأعجوبة، وهو بذلك- كما أسلفنا- يشير إلى واحد من موارد حماية الله للمسلمين وغضبه على الكفّار، ويطمئن المسلمين إلى المستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم، ويؤمّلهم في التأييدات الإلهية القادمة.

فالوثنيون المكيون- كما سبق أن قلنا في قصة معركة أُحد- مع أنهم أحرزوا في تلك المعركة إنتصاراً ملفتاً للنظر، واستطاعوا أن يبددوا الجيش الإسلامي ولو ظاهراً، رأوا أن يعودوا إلى ساحة المعركة، ويأتوا على البقية الباقية من القوّة الإسلامية، بل ولم يترددوا مطلقاً في إغارة على المدينة المنورة، والقضاء على شخص النبي الكريم (ص) الذي كان قد بلغهم عدم صحة الخبر بمقتله في تلك المعركة.

إلاّ أن الله سبحانه قد ألقى في قلوبهم رعباً عجيباً، وخوفاً بالغاً صرفهم عن نيتهم تلك.

على أن هذا الخوف الذي لم يكن له ما يبرره أبداً سوى أنه من خواص الكفر والوثنية والإعتقاد بالخرافة قد شمل وجودهم كلّه حتّى أنهم- كما نقرأ ذلك في الأحاديث- كانوا عند عودتهم من "أُحد" وإقترابهم من مكة أشبه ما يكونون بجيش منهزم مندحر، رغم ما قد حققوه من إنتصار شبه ساحق.

وهذا هو ما تلخصه الآية إذ تقول: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب)أي أننا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفّار في أعقاب معركة "أُحد" ورأيتم نموذجاً منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.

والجدير بالذكر أن الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفّار كالتالي: (بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً).

لقد كانوا قوماً أهل خرافة، لا يتبعون دليلاً، ولا يلتمسون برهاناً، ولهذا كثيراً ما كانت المحقرات من الأشياء تعظم في عيونهم وأفكارهم، فيتخذون الحجر والمدر والخشب معبودات وآلهة لهم، يضعفون أمام الحوادث ضعفاً عجيباً ويستكينون لها استكانة مذلة لأنهم سرعان ما يخطئون في حساباتهم وتقديراتهم، فإذا ما حدث حادث طفيف- في حياتهم- كما لو سمعوا مثلاً بأن المسلمين المهزومين عادوا مع جراحاتهم وجرحاهم إلى ساحة المعركة لملاحقة الأعداء، عظم ذلك في عيونهم وكبر فى نظرهم، وحسبوا له أعظم حساب، وخافوا من ذلك أشد الخوف، وهي بعينها الحالة التي يعاني منها المستكبرون في عالمنا الراهن وعصرنا الحاضر، حيث إننا نشاهد كيف يخافون من أصغر حادث، فيتصورون الذرة جبلاً والحبة قبة، وذلك لأنهم لا يركنون إلى ركن وثيق، ولم يختاروا لأنفسهم كهفاً حصيناً، من إيمان صحيح وعقيدة مستقيمة.

لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم فـ: (مأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) وما أسوأه من مثوى ومآل.

الإنتصار بسبب خوف العدو:

تفيد روايات كثيرة أن النبي (ص) كان يمتاز في جملة ما يمتاز به أنه كان ينتصر على أعدائه بسبب خوفهم وإلقاء الرعب في قلوبهم(1).

إن هذا الموضوع يشير- في نفس الوقت- إلى أحد عوامل الإنتصار في المعارك والحروب وخاصة في مثل هذا اليوم الذي تعتبر فيه معنويات المقاتلين من أهم الأُمور العسكرية، ومن أهم القضايا في شؤون التكتيك الحربي.

ولهذا فإن لمعنوية المقاتلين المرتفعة من التأثير في تحقيق النصر ما ليس للسلاح من حيث الكمية والكيفية.

من هنا بالغ الإسلام في رفع معنويات المقاتلين، فمضى يقوي فيهم روح الإيمان والحبّ للجهاد، والإعتزاز بالشهادة، والإتكال على الله القادر المنان وبهذا بلغ بالمجاهدين المسلمين أعلى قمم الاستقامة والثبات، والشجاعة والبسالة في حين كان المشركون وعبدة الأوثان، الذين لم يكونوا يعتقدون إلاّ بأصنام صم بكم لا تضر ولا تنفع، ولا يؤمنون بمعاد وقيامة وحياة بعد الموت، كانوا يعانون من نفسية ضعيفة منهزمة مهزوزة، فكان هذا التفاوت بين النفسيتين هو أحد العوامل المؤثرة لإنتصار المسلمين عليهم.


1- "الحس" القتل على وجه الإستئصال، وسمي القتل حساً لأنه يبطل الحس.