الآيات 146 - 148

﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىّ قَـاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ *فَـَاتَـهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَْخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ *﴾

التّفسير

المجاهدون السابقون:

بعد استعراض حوادث معركة "أُحد" في الآيات السابقة، جاءت الآيات الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبتهم بذكر تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين الأبطال، وتوبخ ضمناً أُولئك الذين فروا في "أُحد" وحدثوا أنفسهم بما حدثوا إذ يقول سبحانه: في الآية الأُولى من هذه الآيات: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون(1) كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) فأنصار الأنبياء إذا واجهوا المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان أبداً، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له، ومن البديهي أن الله تعالى يحب مثل هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال (وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين).

فهؤلاء عندما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات وعدم الإنضباط لم يفكروا في الإستسلام للأمر الواقع، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار أو الإرتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى الله يطلبون منه الصبر والثبات، والعون والمدد ويقولون (ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا * وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).

إنهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون تأخير، وهو ثواب مزدوج، أما في الدنيا فالنصر والفتح، وأما في الآخرة فما أعد الله للمؤمنين المجاهدين الصادقين: (فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة).

ثمّ إنه سبحانه يعد هؤلاء- في نهاية هذه الآية- من المحسنين إذ يقول: (والله يحب المحسنين).

وبهذا النحو يبين القرآن درساً حياً للمسلمين الحديثي العهد بالإسلام، من حياة الأُمم السابقة وسلوكهم مع أنبيائهم، وكيفية تعاملهم مع المشكلات الطارئة، وكيفية التغلب عليها، وهو درس من شأنه أن يربيهم ويعدّهم للحوادث المستقبلة، والمعارك القادمة.

وقفات اُخرى عند هذه الآيات ثمّ إن هناك في هذه الآيات نقاطاً هامة أُخرى جديرة بالتوجه والإلتفات نشير إليها فيما يلي:

1- الصبر- كما أشرنا إليه سابقاً- يعني الثبات والصمود، ولهذا جاء في هذه الآية في مقابل "الضعف والإستكانة" كما ويدل على ذلك كون الصابرين في رديف المحسنين إذ قال في الآية الأُولى: (والله يحب الصابرين) وقال في الآية الثالثة (والله يحب المحسنين) وهو إشعار بأن الإحسان لا يمكن إلاّ بالثبات والصمود والصبر، لأن المحسن تواجهه آلاف المشاكل، فإذا لم يكن مزوداً بالصمود والصبر والثبات والإستقامة لم يمكنه الاستمرار في عمله، بل سرعان ما يتركه في خضم المشكلات.

2- إن المجاهدين الحقيقيين هم الذين لا ينسبون الهزيمة إلى غيرهم، أو يسندونها إلى عوامل وأسباب خيالية ووهمية، بل يبحثون عنها في نفوسهم وذواتهم، ويحاولون- بصدق- التخلص منها من خلال تصحيح الأخطاء، وترميم الثغرات، بل لا يتلفظون بكلمة الهزيمة، إنما يعبرون عنها بالإسراف، والإفراط غير المبرر، تماماً على العكس منا اليوم حيث نسعى غالباً لأن نتجاهل هزائمنا بالمرة، وأن ننسبها إلى عوامل خارجية لا تمت إلى ذواتنا بصلة، ولا ترتبط بسلوكنا وأفكارنا، ولهذا فإننا لا نفكر في إصلاح الأخطاء، وإزالة نقاط ضعفنا.

3- لقد عبرت الآية الثالثة عن الجزاء الدنيوي بثواب الدنيا، ولكنها عبرت عن الجزاء الأخروي بحسن ثواب الآخرة، وهذه إشارة إلى أن ثواب الآخرة يختلف عن ثواب الدنيا إختلافاً كلياً، لأن ثواب الدنيا مهما يكن فهو ممزوج بالفناء والعدم، ويقترن ببعض المنغصات والمكروهات الذي هو من طبيعة الحياة الدنيا، في حين أن ثواب الآخرة حسن كلّه، إنه خير خالص لا فناء فيه ولا عناء، ولا إنقطاع فيه ولا إنتهاء، ولا كدورات فيه ولا منغصات، ولا متاعب ولا مزعجات.


1- راجع كتاب الخصال وتفسير مجمع البيان.