الآيات 139 - 143
﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾
سبب النّزول
لقد وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة، ولكن يستفاد من مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة "أُحد".
وفي الحقيقة تعتبر هذه الآيات تحليلاً ودراسة لنتائج غزوة "أُحد" وأسبابها لكونها تمثل دروساً كبيرة للمسلمين، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم، لأن هذه الغزوة- كما أسلفنا- انتهت بسبب تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشدّدة بالبقاء في الثغرة، بنكسة المسلمين، واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين، ومن جملتهم "حمزة" عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة، عند القتلى، وجلس عند كلّ واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له، ثمّ دفن جميع الشهداء عند "أُحد" في جو من الحزن العميق، فكان المسلمون بحاجة- في هذه اللحظاتـ إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الإنكسار، ويقوي قلوبهم ويفيدهم درساً في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها- فنزلت الآيات المذكورة هنا.
التّفسير
دراسة نتائج غزوة أُحد:
في الآية الأُولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الإنتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو- كما في اللغة- كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.
على أن عبارة (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل.
إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.
ثمّ إنه سبحانه يقول: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) و بذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.
و"القرح" جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي.
فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال- في بدر- حيث قتل منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم، وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم فـ (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، فلماذا الوهن ولماذا الحزن إذن؟
ويذهب بعض المفسّرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد لم تكن مثل الجراح التي لحقت بالمسلمين، هذا أولاً، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانياً، ألا وهي قوله سبحانه: (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء).
ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالإنتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول، وكلّ ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة فى معركة واحدة وما يتبعها من الآثار اُمور دائمة ثابتة باقية، بل لابدّ من الإنتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى إنتصار، فالحياة صعود ونزول، و أحداثها في تحول مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها.
(وتلك أيام(1)نداولها بين الناس) لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.
ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: (وليعلم الله الذين آمنوا) أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّاً عن أدعياء الإيمان.
وبعبارة اُخرى: إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أُمة من الأُمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الإنتصارات وحدها تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.
ثمّ إنه في قوله: (ويتخذ منكم شهداء) يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.
إن الأُمة التيلا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.
ويمكن أن يكون المراد من "الشهداء" هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى قوله (ويتخذ منكم شهداء) أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم ـشهوداً- لتعرفوا كيف أن عدم الإنضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة، وينتهي إلى النكسة المؤلمة.
وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الإنتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.
ثمّ إنه تعالى يختم هذا الإستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: (والله لا يحب الظالمين) فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.
الحوادث المرة ميدان تربية:
أجل، إن لمعركة "أُحد" وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: (وليمحص(2) الله الذين آمنوا) أي أن الله أراد- في هذه الواقعة- أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف.
إذ يجب لتحقيق الإنتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الإختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما- قال الإمام علي (عليه السلام): "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال".
ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الإنتصارات الظاهرية.
والجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن اُستاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي (ص) في المنام فقال له: "رأيت النبي (ص) ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفاً مع أصحابه من أُحد وهو يقول: "لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة" أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالإحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الإستعداد وتسديد النظر(3).
وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون فى خضم المحن والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملاً.
وإلى هذا أشار بقوله: (وليمحق(4) الكافرين).
فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا- في دوامة الحوادث- من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لابدّ أولاً من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير.
أي التطهر ثمّ التطهير.
وفي الحقيقة كما أن القمر- مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به- يفقد نوره شيئاً فشيئاً أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلاّ عندما تنسحب الشمس من الأُفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والإعوجاج والإنحراف.
فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وإرتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين إنزياح الكفر والشرك وإندثار معالمها وآثارهما عن ساحة الحياة الإجتماعية.
هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأُولى منها المقدمة والثانية النتيجة.
ثمّ إنه يفيدنا القرآن درساً من واقعة "أُحد" في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد إختياركم لاسم المسلم، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟
لو كان الأمر كذلك لكان هيناً جداً، ولكن ليس كذلك حتماً، فإنه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئاً.
وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.
مزاعم جوفاء
ثمّ إنه كان هناك جماعة من المسلمين- بعد معركة "بدر" واستشهاد فريق من أبطال الإسلام- يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون: ليتنا نلنا الشهادة في "بدر"، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلاً، فسرعان ما وقعت معركة أُحد الرهيبة المؤلمة، فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة، وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذباً وتظاهراً ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتّى فروا خوفاً وجبناً، وظنا بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبخهم وتعاتبهم إذ تقول: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)فلماذا فررتم وهربتم من الشيء الذي كنتم تتمنونه طويلاً وكيف يفر المرء من محبوبه، وهو يراه وينظر إليه؟
دراسة سريعة لعلل الهزيمة في "أُحد":
لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات تكشف كلّ واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة أُحد، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه النكسة المرة، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت، وهذه العوامل هي:
1- الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الإنتصار، وإن الله- لذلك سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للإنتصار من إختيار الخطة الصحيحة، والإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.
2- عدم الإنضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل، والذب عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.
3- حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام إلى الإنصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع الأسلحة حتّى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، وكان هذا هو العامل الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأُمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.
4- الغرور الناشىء عن الإنتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته، ويستصغرون شأنه.
هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة الساخنة، وتتبخر في أتونها.
1- المنار: ج 4 ص 46.
2- المحق: النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.
3- ولقد جاء في بعض كتب التاريخ أن هذه الإصابات لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جراء هجمات أفراد عديدين من العدو.
4- "كأيّن" أي ما أكثر، ويقال أنها اسم مركب - أصلاً - من كاف التشبيه وأي الإستفهامية فظهرتا في صورة الكلمة الواحدة التي فقد عندها معنيا الجزئين، واكتسبت معنى جديداً هو "ما أكثر".