الآيات 133 - 136
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُها السَّمَـاوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّـاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ *﴾
التّفسير
السباق في مضمار السعادة:
بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهية وشوقتهم إليها جاءت الآية الأُولى من هذه الآيات تشبه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف الوصول إلى الرحمة الإلهية، والنعم والعطايا الربانية الخالدة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم).
(وسارعوا) تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول كلّ واحد- باستخدام المزيد من السرعة- أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة والأخلاق القبيحة.
إن القرآن الكريم يستفيد هنا- في الحقيقة- من نقطة نفسية هي أن الإنسان لا يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده، وكان العمل من النوع الروتيني، أما إذا اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة نجده يستخدم كلّ طاقاته، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف، ونيل تلك الجائزة.
ثمّ إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو "المغفرة" في الدرجة الأُولى فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلابدّ إذن من تطهير النفس من الذنوب أولاً، ثمّ الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه.
هذا هو الهدف أول.
وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو "الجنة" التي يصرح القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض (وجنة عرضها السماوات والأرض).
ثمّ إن هناك تفاوتاً قليلاً بين هذه الآية وبين الآية 21 من سورة الحديد (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
ففي هذه الآية ذكرت لفظة "المسابقة" مكان "المسارعة" كما ذكرت السماء بصورة المفرد المصدّر بألف ولام الجنس الذي يفيد العموم.
كما استعمل هنا كاف التشبيه فيكون معنى هذه الآية هو أن سعة الجنة مثل سعة السماء والأرض، ومعنى الآية المبحوثة هنا هو أن سعة الجنة هي سعة السماوات والأرض فيكون المعنيان سواء.
ثم إنه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله (أعدت للمتقين) فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد هيئت للذين يتقون الله ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره.
وينبغي أن نعلم أن المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد- كما عليه اهل اللغة- هو السعة.
وهنا سؤالان:
أولاً: هل الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان بالفعل، أم أنهما توجدان فيما بعد على أثر أعمال الناس؟
ثانياً: إذا كانت الجنة والنار موجودتين فعلاً فأين تقعان، وقد قال سبحانه بأن عرض الجنة عرض السماوات والأرض.
هل الجنة والنار موجودتان الآن؟
يعتقد أكثر العلماء المسلمين أن للجنة والنار وجوداً خارجياً وفعلياً، وأن ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه النظرية نذكر من باب النموذج ما يلي:
1- ذكرت في الآية الحاضرة وآيات قرآنية اُخرى لفظة "أعدت" وما شابه ذلك من مادة هذه اللفظة، وقد استعملت تارة بشأن الجنة وتارة بشأن النار(1).
فيستفاد من هذه الآيات أن الجنة والنار معدتان فعلاً، وإن كانتا تتوسعان فيما بعد على أثر أعمال الناس.
(تأمل).
2- نقرأ في الآيات 13 و 14 و 15 المرتبطة بالمعراج في سورة "والنجم" قوله سبحانه: (ولقد رآه نزلة أخرى * عن سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى)وهذا يشهد مرّة أُخرى بأن الجنة موجودة فعلاً.
3- يقول سبحانه في سورة "التكاثر" الآية 5 و 6 و 7 (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثمّ لترونها عين اليقين).
أي لو كان لديكم علم يقيني لشاهدتم الجحيم، بل لرأيتموها رأى العين.
ثمّ إن هناك روايات ترتبط بالمعراج، وروايات اُخرى تحمل شواهد على هذه المسألة(2).
أين تقع الجنة والنار؟
إذا ثبت أن الجنة والنار موجودتان بالفعل يُطرح سؤال ا خر هو: أين تقعان إذن؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال على نحوين:
الأول: إن الجنة والنار تقعان في باطن هذا العالم ولا غرابة في هذا، فإننا نرى السماء والأرض والكواكب بأعيننا، ولكننا لا نرى العوالم التي توجد في باطن هذا العالم، ولو أننا ملكنا وسيلة اُخرى للإدراك والعلم لأدركنا تلك العوالم أيضاً، ولوقفنا على موجودات اُخرى لا تخضع أمواجها لرؤية البصر، ولا تدخل ضمن نطاق حواسنا الفعلية.
والآية المنقولة عن سورة "التكاثر" وهي قوله سبحانه: (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم) هي الاُخرى شاهدة على هذه الحقيقة ومؤيدة لهذا الرأي.
كما ويستفاد من بعض الأحاديث أيضاً أنه كان بين الأتقياء والأولياء من قد زودوا ببصيرة ثاقبة، ورؤية نفاذة استطاعوا بها أن يشاهدوا الجنة والنار مشاهدةحقيقية.
ويمكن التمثيل لهذا الموضوع بالمثال الآتي:
لنفترض أن هناك في مكان ما من الأرض جهازاً قوياً للإرسال الإذاعي يبث في العالم- وبمعونة الأقمار الفضائية والأمواج الصوتية- تلاوات شيقة لآيات القرآن الكريم.
بينما يقوم جهاز قوي إذاعي آخر ببث أصوات مزعجة وصاخبة بنفس القوّة.
لا شكّ أننا لا نملك القدرة على إدراك هذين النوعين من البث بحواسنا العادية، ولا أن نعلم بوجودهما إلاّ إذا استعنا بجهاز استقبال فإننا حينما ندير المؤشر على الموج المختص بكل واحد من هذين البثين نستطيع فوراً أن نلتقط ما بثته كلّ واحدة من تينك الإذاعتين ونستطيع أن نميز بينهما بجلاء، ودون عناء.
وهذا المثال وإن لم يكن كاملاً من جميع الجهات إلاّ أنه يصور لنا حقيقة هامة، وهي أنه قد توجد الجنة والنار في باطن هذا العالم غير أننا لا نملك إدراكها بحواسنا، بينما يدركها من يملك الحاسة النفاذة المناسبة.
الثاني: إن عالم الآخرة والجنة والنار عالم محيط بهذا الكون، وبعبارة اُخرى: إن كوننا هذا يقع في دائرة ذلك العالم، تماماً كما يقع عالم الجنين ضمن عالم الدنيا، إذ كلنا يعلم أن عالم الجنين عالم مستقل له قوانينه وأوضاعه ولكنه مع ذلك غير منفصل عن هذا العالم الذي نحن فيه، بل يقع في ضمنه وفي محيطه ونطاقه، وهكذا الحال في عالم الدنيا بالنسبة إلى عالم الآخرة.
وإذا وجدنا القرآن يقول: بأن سعة الجنة سعة السماوات والأرض فإنما هو لأجل أن الإنسان لا يعرف شيئاً أوسع من السماوات والأرض ليقيس به سعة الجنة، ولهذا يصور القرآن عظمة الجنة وسعتها وعرضها بأنها كعرض السماوات والأرض، ولم يكن بد من هذا، فكما لو أننا أردنا أن نصور للجنين- فيما لو عقل- حجم الدنيا التي سينزل إليها، لم يكن لنا مناص من التحدث إليه بالمنطق الذي يدركه وهو في ذلك المحيط.
ثمّ إنه تبين من ما مرّ الجواب على السؤال الآخر، وهو إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟
لأنه حسب الجواب الأول يتضح أن النار هي الأُخرى تقع في باطن هذا العالم، ولا ينافي وجودها فيه وجود الجنة فيه أيضاً (كما تبين من مثال جهازي الإرسال).
وأما حسب الجواب الثاني (وهو كون عالم الجنة والنار محيطاً بهذا العالم الذي نعيش فيه) فيكون الجواب على هذا السؤال أوضح لأنه يمكن أن تكون النار محيطة بهذا العالم، وتكون الجنة محيطة بها فتكون النتيجة أن تكون الجنة أوسع من النار.
سيماء المتقين:
لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أُعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي:
1- إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدّة والرخاء، في السرّاء والضرّاء (الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء).
وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية فيجميع الظروف والأحوال.
ولاشكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس.
يمكن أن يقال: وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيراً؟
والجواب واضح تمام الوضوح:
أولاً: لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة.
وثانياً: لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله، ثروة كان أو علماً أو جاهاً أو غير ذلك من المواهب الإلهية الاُخرى.
وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا- بذلك- في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من "البخل".
إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حساباً مستقلاً وخاصاً، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه.
فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار- فقراء وأغنياء- قدم مبلغاً صغيراً لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الإجتماعية، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافاً إلى ما يجنونه من هذا العمل من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كلّ حال.
والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو "الإنفاق" لأن هذه الآيات تذكر- في الحقيقة- ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة.
هذا مضافاً إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى.
2- أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم: (والكاظمين الغيظ).
ولفظة "الكظم" تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلىء غضباً ولكنه لا ينتقم.
وأما لفظة "الغيظ" فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.
وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله.
ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية "كظم الغيظ" و "كبح جماح الغضب" الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين.
قال النبي الأكرم (ص) "من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً".
وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنوياً، وفي تقوية روح الإيمان لديه.
3- أنهم يصفحون عمن ظلمهم (والعافين عن الناس).
إن كظم الغيظ أمر حسن جداً، إلاّ أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لايقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن "كظم الغيظ" بخطوة أُخرى وهي "العفو والصفح" ولهذا أردفت صفة "الكظم للغيظ" التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.
ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.
4- أنهم محسنون: (والله يحب المحسنين).
وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من "العفو والصفح" وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.
وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسىء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.
وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولاً ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.
إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي.
ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية: إن الله تعالى يقول: (والكاظمين الغيظ) فقال لها: قد كظمت غيظي.
قالت: (والعافين عن الناس) قال: "قد عفوت وقد عفى الله عنك" قالت: (والله يحب المحسنين) قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله(3).
إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة.
5- إنهم لا يصرون على ذنب: (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم).
و"الفاحشة" مشتقة أصلاً من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش- في الأصل- يعني "تجاوز الحدّ" الذي يشمل كلّ ذنب.
هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافاً إلى الإتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنباً، (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله، ولم يصروا على ما فعلوا).
يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب مادام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة- لدى المتقين- حتّى تزول عنهم سريعاً ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.
إن المتقين يحسون إحساساً عميقاً بأنه لا ملجأ لهم إلاّ الله، فلابدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه (ومن يغفر الذنوب إلاّ الله).
وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافاً إلى "الفاحشة" "ظلم النفس" (أو ظلموا أنفسهم) ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة، و "ظلم النفس" إشارة إلى الذنوب الصغيرة.
ثمّ إنه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال:(ولميصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).
وقد نقل عن إلامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "الإصرار: أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار"(4).
وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال: "لما نزلت هذه الآية (وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا؟
قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين.
فقال: أنا لها بكذا وكذا.
قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.
فقال: لست لها.
فقال: الوسواس الخناس أنا لها.
قال: بماذا؟ قال: أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الإستغفار.
فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة"(5).
ومن الواضح أن النسيان ناشىء من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له.
ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا- في أقرب فرصة- إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.
هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة.
والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.
وكان ذلك إذ قال سبحانه: (أُولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم * وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).
لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن: مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون إنقطاع أبداً.
والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة الروحية والتكامل المعنوي) أولاً، ثمّ إلى المواهب المادية.
ثمّ إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله: (ونعم أجر العاملين) أي ما أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعاملين لا للكسالى، الذين يتهربون من مسؤولياتهم، ويتملصون من إلتزاماتهم.
1- راجع تفسير الدر المنثور، ونور الثقلين في ذيل هذه الآية.
2و 2 - تفسير العياشي في ذيل الآية.
3- النمل: 71.
4- الحج: 46.
5- العنكبوت: 20.