الآيات 113 - 115
﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئكَ مِنَ الصَّـالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْر فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ *﴾
سبب النّزول
يقال: لما أسلم "عبدالله بن سلام" وهو من علماء اليهود وجماعة منهم، إنزعجت اليهود، وبخاصة أحبارهم من هذا الحادث، وصاروا بصدد إتهامهم بالخيانة، وعيبهم بالشر فقال أحبارهم: "ما آمن بمحمّد إلاَّ شرارنا" وهم بذلك يهدفون إلى إسقاطهم من أعين اليهود حتّى لا يقتدى بهم الآخرون.
فنزلت الآيات أعلاه للدفاع عن هذه الفئة المؤمنة.
التّفسير
الإسلام وخصيصة البحث عن الحقّ:
بعد كلّ ذلك الذم لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن- كما هو شأنه دائماً- يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كلّ من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحقّ، ولهذا يقول: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)(1).
أجل ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان، وهذا هو أُسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه على أساس إعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحقّ والعدل والخير، لا غير.
ثمّ إنه يستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا في "عبدالله بن سلام" وجماعته الذين أسلموا معه، بل شمل هذا المدح (40) من نصارى نجران و (32) من نصارى الحبشة و /8/ أشخاص من أهل الروم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة "أهل الكتاب" وهو كما نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.
ثمّ إنّه سبحانه قال: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملاً للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملاً، وإن كانوا قد إرتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما إقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.
والمراد من كلمة "الكفر" هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلاً الإعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.
كيف (والله عليم بالمتقين) وكأن هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي: أن المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي (ص) حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة، ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للإضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبداً قليلة كانت أو كثيرة.
1- الشعراء: 88 و 89.