الآيات 98 - 101

﴿قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَـاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللهُ بِغَـافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيَمـانِكُمْ كَـافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَـاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم *﴾

سبب النّزول

يستفاد من مؤلفات الشيعة والسنّة وما ذكروه في سبب نزول هذه الآية أن "شأس بن قيس" وكان شيخاً من اليهود (قد اسن)، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من الفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم- إذا اجتمع ملؤهم بها- من قرار، فأمر شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثمّ أذكر يوم "بعاث" وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا ما يتقاولون فيه من الأشعار.

وكان يوم "بعاث" يوماً اقتتلت فيه الأَوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأَوس على الخزرج، وكان يرأس الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو أسيد بن حضير، ويرأس الخزرج يومئذ عمرو النعمان البياضي، فقتلا جميعاً.

ففعل ذلك الشاب ما أراده "شأس" فتكلّم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحيين، وتقاولا، وراح أحدهما يهدد الآخر، وكادت نيران الإقتتال تتأجج بينهم من جديد.

فبلغ ذلك رسول الله (ص) فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، وقال: " يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم"؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول الله (ص) سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله "شأس بن قيس"، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الأربع، الأوليان في شأس بن قيس وما صنع.

والآخريان لانذار المسلمين وتحذيرهم.

التّفسير

مفرقو الصفوف ومثيرو الخلاف:

بعد أن فعل بعض العناصر اليهودية الحاقدة فعلتها وكادت أن تشعل نيران العداوة بين المسلمين نزل- كما عرفت في سبب النزول- قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) والمخاطب في هذه الآية هم أهل الكتاب ويقصد منهم هنا اليهود، فالله سبحانه يأمر نبيه في هذه الآية أن يسألهم معاتباً عن علّة كفرهم بآيات الله في حين أن الله يعلم بأعمالهم.

والمراد من آيات الله المذكورة في هذا المقام إما الآيات الواردة في التوراة حول الرسول الأكرم (ص) وعلائم نبوته، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي نزلت على نبي الإسلام، وتحققت على يديه، وكشفت عن حقانيته، وصدق دعوته، وصحّة نبوته.

ثمّ جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن، تبغونها عوجاً وأنتم شهداء) أي قل يا رسول الله لهم لائماً ومندداً: إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحقّ، فلماذا تصرون على صرف الآخرين عنه، وصدهم عن سبيل الله، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما تدخلون من الشبه على الناس، في حين ينبغي- بل يتعين- أن تكونوا أول جماعة تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في كتبكم وتشهدون عليه.

فإذا كان الأمر كذلك فلِمَ هذه الوساوس والمحاولات لإلقاء الفرقة وإضلال الناس، وإزاحتهم عن سمت الحقّ، وصدهم عن السبيل الإلهي القويم؟ ولم تحملون أثقالاً إلى أثقالكم، وتتحملون إلى إثم الضلال جريمة الإضلال؟، لماذا؟

هل تتصورون أن كلّ ما تفعلونه سيخفى علينا؟ كلاّ...

(وما الله بغافل عمّا تعملون) إنه تهديد بعد تنديد، وإنه إنذار بعد لوم شديد.

ولعلّ وصفه سبحانه بعدم الغفلة في هذا المقام لأجل أن اليهود كانوا- لإنجاح محاولاتهم- يتكتمون ويتسترون، ويعمدون إلى حبك المؤامرات في الخفاء، لينجحوا في التأثير على المغفلين والبسطاء بنحو أفضل، وليجنوا المزيد من الثمار، ولهذا قال لهم سبحانه إذا كان بعض الناس ينخدعون بوساوسكم ومؤامراتكم لغفلتهم فإن الله يعلم بأسراركم، وخفايا أعمالكم، وما هو بغافل عمّا تعملون، فعلمه محيط بكم، وعقابه الأليم ينتظركم.

وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد، والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن، الصادين عن سبيل الله القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة الإنخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم، والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم، وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم، وأن نتيجة كلّ ذلك هو الإبتعاد عن الإيمان، والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).

أجل إن نتيجة الإنصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن العدو يسعى في المرحلة الاُولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والإقتتال، ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتّى يخرجكم عن الإسلام مرّة واحدة، ويعيدكم إلى الكفر تارة اُخرى.

من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر- في الآية- هو "الكفر الحقيقي، والإنفصال الكامل عن الإسلام" كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر- في حدّ ذاتها- شعبة من شعب الكفر، وعلامة من علائمه، وأثراً من آثاره، لأن الإيمان لا يصدر منه إلاَّ المحبة والمودة والتآلف، وأما الكفر فلا يصدر منه إلاَّ التقاتل والعداوة والتنافر.

ثمّ يتساءل- في عجب واستغراب- (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفّاراً والنبي(ص) بين ظهرانيكم، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المحيية؟

إن هذه العبارة ما هي- في الحقيقة- إلاَّ الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي إتصال دائم...

ومع آياته صحبة دائمة، إن العجب إنما هو- في الحقيقة- من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟

إنه حقّاً يدعو إلى الدهشة والإستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور، ولاشك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا الضلال ـإن ضلوا- لأنهم لم يضلوا إلاَّ عن بيّنة، ولم ينحرفوا إلاَّ بعد بصيرة...

ولا شكّ أن عذابهم سيكون شديداً جدّاً لذلك.

ثمّ في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين- إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء، وأرادوا الإهتداء إلى الصراط المستقيم- أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم).

هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة، لأن الله سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له (قل)ولكنه عندما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الآخريين يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه (قل) وهذا يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين، وأنهم- دون غيرهم- لائقون بأن يخاطبهم الله مباشرة، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحداً.