الآيات 86 - 89
﴿كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيَمـانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ *أُوْلَئكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعنَةَ اللهِ وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَـالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *﴾
سبب النّزول
كان "الحارث بن سويد" من الأنصار، إرتكب قتل شخص بريء اسمه "المجذر بن زياد"، فارتدّ عن الإسلام خوفاً من العقاب، وفرّ من المدينة إلى مكّة.
ولكنّه في مكّة ندم على فعلته، وراح يفكّر فيما يصنعه.
وأخيراً استقرّ رأيه على أن يبعث بأحد أقاربه في المدينة يسأل رسول الله (ص) عمّا إذا كان له سبيل للرجوع.
فنزلت هذه الآيات، تعلن قبول توبته بشروط خاصّة.
فمثُل الحارث بن سويد بين يدي رسول الله (ص) وجدّد إسلامه، وظلّ ملتزماً وفيّاً لإسلامه حتّى آخر رمق فيه.
غير أنّ أحد عشر شخصاً ممّن ارتدّوا عن الإسلام معه بقوا مرتدّين(1).
في تفسير الدرّ المنثور وفي تفاسير أُخرى، سبب نزول للآيات المذكورة لا يختلف كثيراً عمّا أوردناه.
التّفسير
كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص "مرتد" تقول الآية: (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرسول حقّ وجاءهم البيّنات).
فالآية تقول: إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا؟ لأن هؤلاء قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة: (والله لا يهدي القوم الظالمين).
المراد من "البينات" في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد من "الظالم" هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى.
ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين.
ثمّ تضيف الآية: (أُولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.
"اللعن" في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط، من هنا فلعن الله هو إبعاد الشخص عن رحمته، أمّا لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد المعنوي، وقد يكون الطلب من الله تعالى بابعادهم عن رحمته.
هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يصبحون مورد إستنكار كلّ عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.
(خالدين فيها لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون).
تُضيف الآية هنا أنّهم فضلاً عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.
ولاشكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.
وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأن هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم،فتقول: (إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم).
إنّ هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن، وبعد الإشارة إلى التوبة- تشير إلى التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة "وأصلحوا" تبيّن أنّ التوبة لا تعني مجرّد الندم على ما مضى والعزم على تجنّب إرتكاب الذنوب في المستقبل، بل شرط قبولها هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية.
لذلك نجد في كثير من الآيات انّ التوبة يرافقها العمل الصالح، مثل: (إلاَّ من تاب وعمل صالحاً)(2) وإلاَّ فإنّ التوبة لن تكون كاملة.
فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا رحمة الله ومغفرته (فإن الله غفور رحيم).
بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.
هل تقبل توبة المرتد؟
يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم ثمّ عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الإرتداد.
فثمّة "المرتدّ الفطري" وهو المرتد الذي ولد من أبوين مسلمين، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين، ثمّ قبل الإسلام وعاد عنه بعد ذلك.
وهناك "المرتدّ الملّي" وهو الذي لم يولد من أبوين مسلمين.
توبة المرتدّ الملّي تقبل، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنّه ليس مسلماً بالمولد، لكن حكم المرتدّ الفطري أشد.
هذا المرتدّ- وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه- يُحكم بالإعدام إن ثبت إرتداده.
وتوزّع أمواله على ورثته المسلمين، وتنفصل عنه زوجته، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقّه.
لكن هذه الشدّة تخصّ- كما قلنا- المرتدّ الفطري، وبشرط أن يكون رجلاً.
قد تعجّب بعضهم لهذا التشدّد، وربّما اعتبر نوعاً من الفظاظة القاسية البعيدة عن الرحمة، الأمر الذي لا يتّسق مع روح الإسلام.
غير أنّ لهذا الحكم فلسفة أساساً، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام ضدّ نفوذ المنافقين والأجانب، وللحيلولة دون تفكّكها واضمحلالها.
إنّ الإرتداد ضرب من التمرّد على نظام البلد الإسلامي، وحكمه الإعدام في أنظمة الكثير من قوانين العالم اليوم.
إذ لو أُجيز لمن يشاء أن يعتنق الإسلام متى شاء وأن يرتدّ عنه متى شاء، لتحطّمت الجبهة الداخلية سريعاً، ولانفتحت أبواب البلد أمام الأعداء وعملائهم، ولساد المجتمع الإسلامي الهرج والمرج.
وبناءً على ذلك فإنّ هذا الحكم حكم سياسي في الواقع، ولابدّ منه لحماية الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وللضرب على أيدي العملاء والأجانب.
أضف إلى ذلك أنّ من يتقبّل الإسلام بعد التحقّق والتدقيق، ثمّ يتركه ليعتنق ديناً آخر، لا يمتلك دوافع سليمة ومنطقية، وهو بذلك يستحقّ أشدّ العقوبات.
أمّا تخفيف هذا الحكم بالنسبة للمرأة، فلأنّ جميع العقوبات تخفّف بشأنها.
1- تفسير الدر المنثور: ج 2 ص 48، نقلاً عن معجم الأوسط: ج 8 ص 296 حديث 7607.
2- مجمع البيان: ج 1 و 2 ص 471.