الآيات 83 - 85

﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ *﴾

التّفسير

الإسلام أفضل الأديان الإلهيّة:

مرّت بنا حتّى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية.

وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام.

تبدأ الآية بالتساؤل: (أفغير دين الله يبغون) أيريد هؤلاء ديناً غير دين الله؟

وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلّها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا.

(وله أسلمَ مَن في السماوات والأرض).

يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول: كلّ مَن في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره (طوعاً وكرهاً).

هذا الإستسلام والخضوع يكون "طوعاً" أو إختيارياً أحياناً، إزاء "القوانين التشريعية"، ويكون "كرهاً" أو إجبارياً أحياناً أُخرى، إزاء "القوانين التكوينية".

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ لله نوعين من الأمر في عالم الوجود.

فبعض أوامره يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت- فرضاً- يكتب لها الفناء والزوال.

هذا نوع من "الإسلام والتسليم" أمام أمر الله.

وبناءً على هذا فإنّ أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلّمة، لأنّ كلاًّ منها قد أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة.

والنوع الآخر من أوامر الله هي "الأوامر التشريعية" وهي القوانين التي ترد في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء.

إنّ التسليم أمامها تسليم "طوعي" أو إختياري.

فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنّما هم وحدهم المسلمون.

إنّ مخالفة هذه القوانين والشرائع لا تقلّ- على كلّ حال- عن مخالفة القوانين التكوينية، لأنّ مخالفتها تبعث على الإنحطاط والتخلّف والعدم.

ولمّا كانت "أسلم" مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إنّ فريقاً يسلم طوعاً ـكالمؤمنين- وفريقاً يسلم كرهاً- كالكافرين- أمام القوانين التكوينية.

وهكذا نجد أنّ الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله.

فلماذا إذاً لا يسلمون لجميع قوانين الله ودينالحقّ؟

هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسّرين، وإن لم يتعارض مع ما قلناه آنفاً، وهو: أنّ المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء يسيرون نحو الله بملء إختيارهم.

أمّا غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلاَّ عندما تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسّلون إليه، فمع أنّهم في الظروف العادية يشركون به، فإنّهم في الشدائد والملمّات لا يتوجّهون إلاَّ إليه.

ويتضح ممّا تقدّم أن "مَن" في جملة (من في السماوات والأرض) تشمل الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فبالرغم من كونها تستعمل عادة للعقلاء، إلاَّ أنها قد تكون عامّة للتغليب.

و "طوعاً" إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و "كرهاً" إشارة إلى الكفّار وغير العقلاء.

(قل آمنّا بالله وما أُنزل علينا...).

في هذه الآية يأمر الله النبيّ والمسلمين بأنّهم، فضلاً عن إيمانهم بما أُنزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكلّ الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا: إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم بالله.

إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعاً كانوا قادة إلهيّين، وهم جميعاً بُعثوا لهداية الناس.

إنّا نسلم بأمر الله من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين.

(ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه).

"يبتغ" من "الإبتغاء" بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الأُمور المحمودة وفي الأُمور المذمومة.

هنا يختتم البحث المذكور باستنتاج نتيجة كلّيّة، وهي أنّ الدين الحقيقي هو الإسلام، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام، وأمّا بمفهومه الخاصّ فهو الانتقال إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان، فتقول الآية: أنه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الإعتبار احترام سائر الشرايع الإلهيّة المقدسة.

فكما أن طلاّب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، فإنه لا يقبل منهم سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية، فكذلك الإسلام.

وأمّا الذين يتّخذون غير هذه الحقيقة ديناً، فلن يقبل منهم هذا أبداً، ولهم على ذلك عقاب شديد (وهو في الآخرة من الخاسرين) ذلك لأنّه تاجر بثروة وجوده مقابل بضع خرافات وتقاليد بالية، وعصبيّات جاهلية وعنصرية، ولا شكّ أنّه هو الخاسر في هذه الصفقة.

وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده، وجد نتيجة ذلك حرماناً وعذاباً وعقاباً يوم القيامة.

وذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا، وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وانذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً) الآية أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا ربّ أنا الصلاة فيقول: إنّك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول: إنّك على خير، ثمّ يجيء الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنّك على خير، ثمّ تجيء الأعمال كلّ ذلك يقول الله: إنّك على خير، ثمّ يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله: إنّك على خير; بك اليوم آخذ، وبك أُعطي.

قال الله في كتابه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(1).

فيما يتعلّق باختلاف "الإسلام" عن "الايمان" سوف يأتي شرحه في تفسير الآية 14 من سورة الحجرات إن شاء الله.


1- في "لما آتيتكم"يعتبر بعضهم "ما" موصولة ومبتدأ، واللام موطئة للقسم، وجملة "لتؤمننّ به" خبر. وقال فريق آخر "ما" شرطية زمانية وجزاؤها "لتؤمننّ به ولتنصرنّه". وهذا الإحتمال الثاني أقرب إلى معنى الآية.