الآيات 72 - 74

﴿وَقَالَت طَّآئفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *﴾

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين القدامى إنّ اثني عشر من يهود خيبر وغيرهما وضعوا خطّة ذكيّة لزعزعة إيمان بعض المؤمنين، فتعاهدوا فيما بينهم أن يصبحوا عند رسول الله (ص) ويتظاهروا باعتناق الإسلام، ثمّ عند المساء يرتدّون عن إسلامهم، فإذا سئلوا لماذا فعلوا هذا، يقولون: لقد راقبنا أخلاق محمّد عن قرب، ثمّ عندما رجعنا إلى كتبنا وإلى أحبارنا رأينا أنّ ما رأيناه من صفاته وسلوكه لا يتّفق مع ما هو موجود في كتبنا، لذلك ارتددنا.

إنّ هذا سيحمل بعضهم على القول بأنّ هؤلاء قد رجعوا إلى كتبهم السماوية التي هم أعلم منّا بها، إذاً لابدّ أن يكون ما يقولونه صحيحاً.

وبهذا تتزعزع عقيدتهم.

هناك سبب نزول آخر، إلاَّ أنّ ما ذكرناه أقرب إلى معنى الآية.

التّفسير

مؤامرة خطيرة:

تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة أُخرى من خطط اليهود، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بُنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة.

من ذلك أنّ (طائفة من أهل الكتاب) اتّفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار ويرتدّوا عنه في آخره (ءامنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره).

لعلّ المقصود من أوّل النهار وآخره قصر المدة بين إيمانهم وارتدادهم، سواء أكان ذلك في أوّل النهار حقّاً أم في أيّ وقت آخر.

إنّما قصر هذه المدّة يوحي إلى الآخرين أن يظنّوا أنّ هؤلاء كانوا يرون الإسلام شيئاً عظيماً قبل الدخول فيه، ولكنّهم بعد أن أسلموا وجدوه شيئاً آخر قد خيّب آمالهم، فارتدّوا عنه.

لاشكّ أن مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء الإيمان، خاصّة وأنّ أُولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء.

فإيمانهم ثمّ كفرهم كان قادراً على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد.

لذلك كانوا يعتمدون كثيراً على خطّتهم الماهرة هذه، وقوله: (لعلهم يرجعون) دليل على أملهم هذا.

وكانت خطّتهم تقتضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهرياً، وأن يبقى إرتباطهم باتّباع دينهم.

(ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم).

ويستفاد من بعض التفاسير أنّ يهود خيبر أوصوا يهود المدينة بذلك لئلاّ يقع القريبون من رسول الله (ص) تحت تأثيره فيؤمنوا به حقّاً، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ النبوّة يجب أن تكون في العنصر اليهودي، فإذا ظهر نبيّ فلابدّ أن يكون يهودياً.

يرى بعض المفسّرين أنّ جملة (لاتؤمنوا) من الإيمان الذي يعني "الوثوق والإطمئنان" كما هو أصل الكلمة اللغوي.

وبناءً على ذلك يكون المعنى: هذه المؤامرة يجب أن تبقى مكتومة وسرّية، وأن لا يعلم بها أحد من غير اليهود، حتّى المشركين، لئلاّ تنكشف وتحبط، ففضح الله هذه المؤامرة في هذه الآيات وفضحهم، ليكون ذلك درس عبرة للمؤمنين، ودرس هداية للمعاندين.

(قل إنّ الهُدى هُدى الله).

هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.

في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود، يردّ الله عليهم ردّاً قصيراً ولكنه عميق المعنى.

فأوّلاً: الهداية مصدرها الله، ولا تختصّ بعنصر أو قوم بذاته، فلا ضرورة في أن يجيء النبيّ من اليهود فقط.

وثانياً: إنّ الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثّر فيهم هذه الخطط.

(أن يؤتى أحدٌ مثل ما أُوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم)(1).

هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة (ولا تصدّقوا) قبلها.

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا: "لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية، وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن يجادلكم يوم القيامة أمام الله ويدينكم، لأنكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم أصحاب النبوّة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال!".

بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها، من حيث علاقتهم بالله، ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال، على الأقوام الأخرى.

لذلك يردّهم الله في الآية التالية بقوله:

(قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم).

أي: قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الأُخرى، هي جميعاً من الله، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها.

إنّ أحداً لم يأخذ عليه عهداً ووعداً، ولا لأحد قرابة معه.

إنّ جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقّهما.

(يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(2).

هذا توكيد لما سبق أيضاً: إنّ الله يخصّ من عباده من يراه جديراً برحمته- بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة- دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنِعم العظيمة.

ويستفاد ضمناً من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي اذا شمل بعض الناس دون بعض، فليس ذلك لمحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

خطط قديمة تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنّها تكشف أسرار

اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل، فتيقّظ المسلمون ببركتها، ووعوا وساوس الأعداء المغرية.

ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضاً بطرق مختلفة.

إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطوّرة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب.

وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كلّ فرية، ويلجأون إلى كلّ السبل ويتلبّسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرّخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتّى الممثّل السينمائي.

إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها، ولا اعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم أُسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم.

إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.


1- في تفسير الآية 42 من سورة البقرة المشابهة لهذه الآية تحدّثنا عن هذا الموضوع - انظر الجزء الأوّل - .

2- جملة "ولاتؤمنوا" تعني انكم لا تصدقوا ان ينزل كتاب سماوي على احد كما نزل عليكم.