الآيات 52 - 54
﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَالْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ ءَامنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَامَعَ الشَّـاهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ *﴾
التّفسير
استقامة الحواريين:
كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح بموجب ما بشّرهم به موسى، قبل أن يولد.
ولكنّه عندما ظهر، وتعرّضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني إسرائيل للخطر، لم يبق معه إلاَّ نفر قليل، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدّي قبولهم دعوة المسيح والتقيّد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم.
بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلّة الكافية، أدرك أنّ جمعاً من بني إسرائيل يصرّون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والإنحراف (فلمّا أحسّ(1) عيسى منهم الكفر)، فنادى في أصحابه و (قال مَن أنصاري إلى الله) فاستجاب لندائه نفر قليل.
كانوا أطهاراً سمّاهم القرآن بـ "الحواريّين".
لبّوا نداء المسيح ولم يبخلوا بشيء في سبيل نشر أهدافه المقدّسة.
أعلن الحواريُون استعدادهم لتقديم كلّ عون للمسيح، وقالوا: (نحن أنصار الله آمنّا بالله واشهد بأنّا مسلمون).
لاحظ أنّ الحواريين لم يقولوا: نحن أنصارك.
بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم، ولكن لا يشمّ من كلامهم أيّ رائحة للشرك، قالوا: نحن أنصار الله، ننصر دينه، ونريدك شاهداً على هذه الحقيقة، لعلّهم قد شمّوا منذ ذلك اليوم رائحة الإنحراف في المستقبل وأنّ هناك من يستدعي الوهيّة عيسى من بعده، فسعوا ألاَّ يكون في كلامهم ما يمكن أن يتذرّعوا به.
ضمناً نلاحظ أن الحواريين عبّروا في كلامهم عن كونهم مسلمين، وهذا يدلّ على أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء (عليهم السلام).
وهنا ميّز المسيح (عليه السلام) أتباعه المخلصين من الأعداء والمنافقين كيما يضع لدعوته برنامجاً دقيقاً وخطة مدروسة كما صنع نبي الإسلام (ص) ذلك في بيعة العقبة.
وبعدأن قبل الحواريّون دعوة المسيح إلى التعاون معه وأتّخاذه شاهداً عليهم في إيمانهم، أتّجهوا إلى الله يعرضون عليه إيمانهم قائلين: (ربّنا آمنّا بما أنزلت).
ولكن لمّا كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها، فقد اتّبعوا ذلك بقيامهم بتنفيذ أوامر الله واتّباع رسوله المسيح، وقالوا مؤكّدين: (واتّبعنا الرسول).
عندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لابدّ أن ينعكس ذلك على عمله، فبدون العمل يكون ادّعاؤه الإيمان تقوّلاً، لا إيماناً حقيقياً.
بعد ذلك طلبوا من الله قائلين (فاكتبنا مع الشاهدين).
والشاهدون هم أُولئك الذين لهم صفة قيادة الأُمم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيّئة.
وبعد أن انتهى الحواريّون من شرح إيمانهم، أشاروا إلى خطط اليهود الشيطانية، وقالوا: إنّ هؤلاء- لكي يقضوا على المسيح، وعلى دعوته، ويصدّوا انتشار دينه- وضعوا الخطط الماكرة.
إلاَّ أن ما رسمه الله من مكر فاق مكرهم وكان أشدّ تأثيراً (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).
بحوث
1- من هم الحواريون؟
"حواريّون" جمع حوري من مادة "حَوَر" بمعنى الغسل والتبييض، وقد تطلق على الشيء الأبيض.
لذلك يطلق العرب على الطعام الأبيض "الحواري".
و"حور" جمع حوراء وهي البيضاء البشرة.
أمّا سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريّين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة، ولكن الأقرب إلى الذهن، وهو الوارد في أحاديث أئمّة الدين، هو لأنّهم فضلاً عن طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب.
وهذا ما أكّده حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) في "عيون أخبار الرضا"..؟!
2- الحواريّون في القرآن والإنجيل
تكلّم القرآن على الحواريّين في سورة الصف، الآية 14، مشيراً إلى إيمانهم.
ولكن يتبيّن ممّا نقرأه في الإنجيل بشأن الحواريّين أنّهم جميعاً ارتكبوا بعض الزلل بالنسبة للمسيح.
أمّا أسماؤهم كما جاءت في إنجيل متّى ولوقا، الباب السادس، فهي:
1- بطرس،2- اندرياس، 3- يعقوب، 4- يوحنّا، 5- فيلوبس، 6ـبرتولولما، 7- توما، 8- متّى، 9- يعقوب بن حلفا، 10- شمعون "الغيور"، 11ـيهوذا أخو يعقوب، 12- يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح.
يذكر المفسّر المعروف المرحوم الطبرسي في "مجمع البيان" أنّ الحواريّين كانوا يرافقون المسيح في رحلاته.
كلّما عطشوا أو جاعوا رأوا الماء والطعام مهيّأًأمامهم بأمر الله، فكانوا يرون في ذلك فخراً لهم أيّ فخر، وسألوا المسيح:أهناك من هو أفضل منّا؟ فقال: نعم، أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل منكسبه.
وعلى أثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء أجر، وانشغلوا بذلك; فكان ذلك درساً عملياً للناس بأنّ العمل ليس عيباً أو عاراً.
3- ما المراد بالمكر الإلهي
في القرآن آيات مشابهة لهذه ينسب فيها المكر إلى الله(2).
كلمة "المكر" بالمصطلح المعاصر تختلف كثيراً عن معناها اللغوي.
فالمكر بالمعنى المعاصر هو وضع الخطط الشيطانية الضارّة.
ولكن معناها بلغة العرب هو البحث عن العلاج لأمر مّا، وقد يكون حسناً أو سيّئاً.
في كتاب "المفردات" للراغب نقرأ: المكر: صرف الغير عمّا يقصد- خيراً كان أم شرّاً -.
وفي القرآن وردت كلمة "المكر" مقرونة بكلمة "الخير"، إذ يقول (والله خير الماكرين)، كما وردت مع "السيّىء": (ولايحيق المكر السيّىء إلاَّ بأهله)(3).
وعليه يكون المقصود من الآية هو أنّ أعداء المسيح وضعوا الخطط الشيطانية للوقوف بوجه هذه الدعوة الإلهيّة.
ولكن الله لكي يحفظ حياة نبيّه ويصون الدعوة مكَرَ أيضاً فأحبط كلّ ما مكَروه.
1- التعبير بـ "أحسّ" مع أن الكفر أمر باطني لايدرك بالحواس قد يكون أن إصرارهم على الكفر بلغ مرتبة من الشدّة وكأنه أصبح محسوساً (الميزان - ذيل الآية مورد البحث).
2- انظر الآية 30 من سورة الأنفال، أو الآية 50 من سورة النمل وغيرهما.
3- فاطر: 43.