الآيات 38 - 40

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ ِ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائَكَةُ وَهُوَ قَآئمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَة مِنَ اللهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّن الصَّـالِحِينَ * قَالَ رَبّ ِ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنَىِ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ *﴾

التّفسير

قلنا إنّ زوجة زكريّا وأُمّ مريم كانتا أُختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت أُمّ مريم بلطف من الله هذه الذرّية الصالحة، ورأى زكريّا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضاً ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده.

وعلى الرغم من كبر سن زكريّا وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلاً، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملاً بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الأُبوّة، لذلك راح يتضرّع إلى الله (قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّية طيّبة إنّك سميع الدعاء).

لم يمض وقت طويل حتّى أجاب الله دعاء زكريّا.

(فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب).

وفيما كان يعبد الله في محرابه، نادته ملائكة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل أنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات:

أوّلاً: سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان: (مصدّقاً بكلمة من الله).

و"كلمة الله" هنا وفي مواضع أُخرى من القرآن سيرد شرحها- تعني المسيح(عليه السلام)- وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به.

وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هذا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.

وثانياً: سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس (وسيّداً)، كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا.

(وحصوراً).

"الحصور" من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة، أو الذي يمتنع عن الزواج، وإلى هذا ذهب بعض المفسّرين، كما أُشير إليه في بعض الأحاديث.

والرابعة والخامسة من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون "نبياً" (وجاءت هذه الكلمة بصيغه النكرة لدلالة على العظمة) وأنّه من الصالحين.

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك، فقال (ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر)

فأجابه الله تعالى (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.

بحوث

1- هل العزوبة فضيلة؟

هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول: إذا كان "الحصر" هو العزوف عن الزواج، فهل هذا مَحمَدة يمتاز بها الإنسان، بحيث يوصف بها يحيى؟

في الجواب نقول: ليس هناك ما يدلّ على أنّ "الحصر" المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقاً به من حيث أسانيده.

فلا يُستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا، وفي صفات الزاهدين.

ثانياً: من المحتمل أن يكون يحيى- مثل عيسى- قد عاش في ظروف خاصّة اضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته، فاضطرّ إلى حياة العزوبة.

وهذا لا يمكن أن يكون قانوناً عامّاً للناس.

فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنّه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوّث.

إنّ قانون الزواج قانون فطري، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه.

وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاُخرى.

2- يحيى وعيسى

"يحيى" من الحياة وتعني البقاء حيّاً، وقد اختيرت هذه الكلمة اسماً لهذا النبيّ العظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والإرتباط بالله.

هذا الاسم قد إختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في الآية 7 من سورة مريم (يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبلُ سمّياً) ومن هذا يتبيّن أيضاً أنّ أحداً لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.

قلنا فيما سبق أنّ زكريّا طلب من ربّه الذرّية بعد أن شاهد ما نالته مريم من عطاء معنوي سريع.

وعلى أثر ذلك وهب الله له ولداً شبيهاً بعيسى بن مريم في كثير من الصفات: في النبوّة وهما صغيران، وفي معنى اسميهما (عيسى ويحيى كلاهما بمعنى البقاء حيّاً)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث: الولادة، والموت، والحشر و جهات اُخرى.

3- في هذه الآية يصف زكريّا شيخوخته بقوله (وقد بلغني الكِبَر) ولكنه في الآية 9 من سورة مريم يقول (وقد بلغت من الكِبَر عتياً).

فالعبارة الأُولى تعني أنّ الكِبَر قد وصلني والثانية تعني أنّي وصلت الكِبَر، ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير يعود إلى أنّ الإنسان- كلّما تقدّم نحو الكِبَر- يتقدّم الكَبر والموت نحوه أيضاً.

كما قال عليّ (عليه السلام) "إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى"(1).

4- "الغلام" الفتى الذي طرّ شاربه.

و "عاقر" من "عُقر" بمعنى الأصل والأساس.

أو بمعنى الحبس.

ووصف المرأة التي لا تلد بأنّها عاقر يعني أنّها وصلت إلى عقرها وانتهت، أو أنّها حبست عن الولادة.

وقد يسأل سائل: لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة الله التي لا تنتهي؟

يتّضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الأُخرى.

كان يريد أن يعرف كيف يمكن لامرأة عاقر- خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس- أن تحمل وتلد؟ ماالذي يتغيّر فيها؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسّطات العمر؟ أم أنّها ستحمل بصورة اُخرى؟

ثمّ إنّ الإيمان بقدرة الله غير "الشهود والمشاهدة".

زكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود، مثل إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد، ولكنّه طلب المشاهدة.

كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان.

وأنّه لأمر طبيعيّ أن يفكّر الإنسان، إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفيّة حصول ذلك، ويودّ لو أنّه رأى دليلاً حسّياً على ذلك.


1- نهج البلاغة: الكلمات القصار: 28.