الآيتان 21 - 22
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُون بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم * أُوْلَئكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَّـاصِرِينَ﴾
التّفسير
علامات الطغيان:
تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول الله (ص) ولا يستسلمون للحق، ففي الآية الاُولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: (إنّ الّذين يكفرون...
).
وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الّذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكلّ واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كلّ صوت يدعو إلى الحقّ.
التعبير بـ (يكفرون) و (يقتلون) جاء بصيغة الفعل المضارع وهو إشارة إلى
أنّ كفرهم وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط كان من جملة برنامجهم في الحياة فيرتكبون هذه الأعمال بصورة دائمة ومستمرّة (لأن الفعل المضارع يدلّ على الإستمراريّة).
وبطبيعة الحال إنّ هذه الأعمال كانت تصدر عادةً من اليهود حيث نلحظ إستمرارهم بهذه الأعمال في زماننا الحاضر بشكل آخر، ولكنّ هذا لا يمنع من عموميّة مفهوم الآية أيضاً.
ثمّ أنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على إرتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية (فبشرّهم بعذاب أليم).
ثمّ تقول: (اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.
والثالث أنّ الآية تقول: (وما لهم من ناصرين) فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.
وسبق وأن قلنا في تفسير الآية 61 من سورة البقرة أنّ هذه الآية تشير إلى تاريخ اليهود المضطرب، فهم فضلاً عن إنكارهم آيات الله تجرّؤا على قتل الأنبياء، كما كانوا يقتلون أتباع الأنبياء من المجاهدين، ولكنّ هذا العمل لايختصّ بهم وحدهم، بل يصحّ بالنسبة إلى جميع الأقوام التي فعلت وتفعل فعلهم.
بحوث
1- وضعت الآية الداعين إلى العدالة والآمرين بالمعروف في مصافّ الأنبياء.
وترى الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل هؤلاء، على مستوى واحد، وهذا منتهى اهتمام الإسلام بنشر العدالة في المجتمع.
ويتبيّن من الآية الثانية شدّة العقوبات التي ستنزل بالذين يقتلون أمثال هؤلاء الرجال الصالحين.
وقد سبق أن قلنا إنّ "الحبط" لا يشمل جميع الذنوب، بل للذنوب الكبيرة التي تذهب بآثار الأعمال الصالحة(1) وأخيراً عدم قبول أيّة شفاعة بحقّهم، كدليل على عظم ذنوبهم.
2- المقصود من (بغير حقّ) ليس إمكان جواز قتلهم بحق، بل المقصود هو القول بأنّ قتل الأنبياء كان دائماً ظلماً وبغير حقّ.
فعبارة "بغير حقّ" قيد توضيحيّ للتوكيد.
3- يستفاد من عبارة (فبشّرهم بعذاب أليم) أنّها تشمل الكفّار المعاصرين للنبيّ (ص) أيضاً، مع أنّنا نعلم أنّ هؤلاء لم يقتلوا احداً من الأنبياء.
وقد أشرنا من قبل إلى السبب وقلنا إذا رضي أحد بفعال قوم وسلوكهم وأفكارهم، فإنّه يكون شريكاً لهم في أعمالهم الخيّرة والسيّئة.
ولمّا كانت هذه الجماعة المعاصرة للنبيّ من الكفّار- وخاصّة اليهود- تؤيّد أعمال أسلافهم وجرائمهم، فهم يشاركونهم فيما ينتظرهم من العقاب أيضاً.
4- "البشارة" هي إخبار الرجل خبراً سارّاً يبسط أسارير وجهه.
واستعمال هذه الكلمة في الإخبار بالعذاب في هذه الآية وفي غيرها إنّما هو نوع من التهديد والإستهزاء بأفكار المذنبين.
وهذا أشبه بما هو متداول بيننا اليوم، إذ نقول- مستهزئين- لمن أساء الفعل: حسناً، سوف نكافؤك على ذلك.
5- ورد في حديث عن أبي عبيدة الجراح أنّه قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن أيّ الناس أشدّ عذاباً في الآخرة؟
فقال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرأ (ويقتلون
النبيّين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) ثمّ قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكره الله تعالى: (فبشرهم بعذاب إليهم)(2).
1- انظر تفسير الآية 217 من سورة البقرة بخصوص "حبط".
2- مجمع البيان: ج 1 و ج 2 ص 423.