الآيات 15 - 17

﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْر مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرضْوَانٌ مِنَ اللهِ واللهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّـابرِيِنَ وَالصَّـادِقِينَ وَالْقَـانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرينَ بِالاَْسْحَارِ *﴾

التّفسير

هذه الآية توضّح الخطّ البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اُشير إليه في الآية السابقة.

تقول الآية: هل أُخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادّية المحدودة في الدينا، تلك الحياة فيها كلّ ما في هذه الحياة من النِعم لكنّها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين.

بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها: (تجري من تحتها الأنهار).

ونِعمها دائمة أبدية، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال: (خالدين فيها).

نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهنّ ولا أرواحهنّ نقطة ظلام وخبث: (وأزواج مطهّرة).

كلّ هذا بانتظار المتّقين.

وأسمى من ذلك كلّه، النِعم المعنوية التي تفوق كلّ تصورّ وهي (رضوان من الله).

نلاحظ أنّ الآية تبدأ بجملة: "أُونّبؤكم" الإستفهامية الموجّهة إلى الفطرة الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق، ثمّ إنّ الإستفهام ينصّ على "الإنباء" التي تستعمل للإدلاء بخبر مهمّ جدير بالاستيعاب.

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية الممزوجة بالمعصية، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كلّ نقص وعيب.

إلاَّ أنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتّعوا بها بصورة مشروعة.

هل في الجنّة لذائذ مادّية أيضاً؟

يظنّ بعضهم أنّ اللذائذ المادّية مقتصرة على الحياة الدنيا، وأنّ الحياة الأُخرى خالية منها، وأنّ جميع ما جاء في القرآن عن الجنّات والفواكه والمياه الجارية والأزواج الطاهرة إنّما هي كناية عن مقامات ونِعم معنوية من باب "كلّم الناس على قدر عقولهم".

ولكنّنا ينبغي أن نقول: إنّنا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني إستناداً إلى الكثير من آيات القرآن الصريحة، فلابدّ من وجود نِعم تناسب الجسم والروح وبمستوى أرفع وأعلى.

وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما: ما يناسب المعاد الجسمانى، وما يناسب المعاد الروحي.

في الواقع، إنّ الذين يعتبرون نِعم الآخرة المادّية كناية عن نِعم معنوية، إنّما يؤوّلون ظاهر آيات القرآن دون سبب، كما أنّهم ينسون المعاد الجسماني وما يقتضيه.

ولعلّ جملة (والله بصير بالعباد) التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه الحقيقة، أي أنّه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر، وما هي متطلّبات كلّ منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه.

(الذين يقولون ربّنا إنّنا...).

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتّقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بِنِعم الله العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة.

1- إنّهم يتوجّهون إلى الله بكلّ جوارحهم، والإيمان يضيء قلوبهم، ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كلّ أعمالهم، ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة، فيطلبون مغفرته والنجاة من النار: (فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).

2- مثابرون صابرون ذوو همّة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم لله وتجنّبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والإجتماعية (الصابرين).

3- صادقون ومستقيمون، وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر، ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث (والصادقين).

4- في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك (والقانتين)(1).

5- لاينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل الله، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع (والمنفقين).

6- في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله، وتلهج كلّ ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه (والمستغفرين بالأسحار).

بحوث

1- في تفسير هذه الآية، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: "من قال في آخر صلاة الوتر في السحر "استغفر الله وأتوب إليه" سبعين مرّة، وداوم على ذلك سنة كتبه الله من المستغفرين بالأسحار"(2).

2- "السحر" في أصل اللغة هو "التغطية والإخفاء".

ولمّا كانت ساعات الليل الأخيرة تغطّي كلّ شيء بستار خاصّ، فقد سمّيت بالسحر.

و"السحر"- بكسر السين- من المادّة نفسها، لأنّ الساحر يقوم بأعمال تخفى أسرارها على الآخرين.

وقد يطلق العرب اسم "السحر"- بوزن البشر- على الرئة لإختفاء ما فيها.

لماذا يشار إلى السحر من بين جميع ساعات الليل والنهار، مع أنّ الاستغفار وذكر الله مطلوبان في كلّ وقت؟ السبب هو ما تتميّز به ساعات السحر من هدوء وسكون وابتعاد عن الأعمال المادّية، وللنشاط الذي يشعر به المرء بعد استراحته ونومه، فيكون أكثر استعداداً للتوجّه إلى الله.

وهذا ما يسهل دركه بالتجربة، حتّى أنّ بعض العلماء يستثمرون وقت السحر لحلّ المسائل العلمية، إذا أنّ سراج الفكر وروح الإنسان أكثر تلألؤاً وسطوعاً في ذلك الوقت من أيّ وقت آخر.

ولمّا كانت روح العبادة والاستغفار هي التوجّه وحضور القلب، فإنّ العبادة والاستغفار في هذا الوقت أسمى من أيّ وقت آخر.


1- "قانتين" من مادة "قنوت" بمعنى الخضوع امام الله وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

2- تفسير البرهان: ج 1 ص 273.