الآيتان 5 - 6

﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ / هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاَْرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـه إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

التّفسير

علم الله وقدرته المطلقة:

هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة التي قرأنا فيها أنّ الله تعالى حيٌّ وقيّوم وهو مدبّر الكون بأجمعه وسيعاقب الكافرين المعاندين (حتّى لو لم يظهروا كفرهم وعنادهم) ومن البديهي أنّ هذه الإحاطة والقدرة لتدبير العالم بحاجة إلى علم غير محدود وقدرة مطلقة، ولهذا أشارت الآية الأُولى إلى علم الله تعالى، وفي الآية الثانية إلى قدرته المطلقة.

في البداية تقول الآية الشريفة (إنّ الله لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء).

فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شيءٌ من الأشياء في حين أنّه حاضرٌ وناظرٌ في كلّ مكان، فلا يخلو منه مكان، وبما أنّ وجوده غيرمحدود، فلا يخلو منه مكان معين، ولهذا فهو أقرب إلينا من كلّ شيء حتّى من أنفسنا، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه الله تعالى عن المكان والمحل، فإنّه محيطٌ بكل شيء، وهذه الإحاطة والحضور الإلهي بالنسبة لجميع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوري) لا (العلم الحصولي)(1).

ثمّ تبيّن الآية التالية واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة، بل هي في الحقيقة إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارزٌ لعلم الله وقدرته المطلقة حيث تقول الآية (هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء) ثمّ تضيف (لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم).

إنّه لأمرٌ عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر الله الإنسان وهو في رحم أُمّه صوراً جميلة ومتنوّعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.

وهذه الآية تؤكّد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى الله القادر الحكيم الذي يستحقّ العبادة، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح (عليه السلام) ويعبدونها، ولعلّ هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدّم في بدايةالسورة من أنّ المسيحيّين أنفسهم يوافقون على أنّ المسيح كان جنيناً في بطن أُمّه مريم، ثمّ تولّد منها، إذن فهو مخلوق وليس بخالق فكيف يكون معبوداً؟!

بحوث

1- مراحل تطوّر الجنين من روائع الخلق إنّ عظمة مفهوم هذه الآية تجلّت اليوم أكثر من ذي قبل نتيجة للتقدّم الكبير

في علم الأجنّة.

فهذا الجنين يبدأ بخلية، لا شكل لها ولا هيكل ولا أعضاء ولا أجهزة.

ولكنّها تتّخذ أشكالاً مختلفة كلّ يوم وهي في الرحم، وكأنَّ هناك فريقاً من الرسّامين المهرة يحيطون بها ويشتغلون عليها- ليلَ نهار وبسرعة عجيبة- ليصنعوا من هذه الذرّة الصغيرة وفي وقت قصير إنساناً سويّاً في الظاهر، وفي جوفه أجهزة دقيقة رقيقة متعقّدة ومحيّرة.

لو أنّ فيلماً صوّر مراحل تطوّر الجنين- وقد صوّر فعلاً- وشاهده الإنسان يمرّ من أمام عينيه لأدرك بأجلى صورة عظمة الخلق وقدرة الخالق.

والعجيب في الأمر أنّ كلّ هذا الرسم يتمّ على الماء الذي يضرب به المثل في عدم احتفاظه بما يرسم عليه.

من الجدير بالذكر أنّه عندما يتمّ اللقاح ويُخلق الجنين للمرّة الأُولى يسرع بالإنقسام التصاعدي على هيئة ثمرة التوت التي تكون حبّاتها متلاصقة، ويطلق عليه اسم "مرولا".

وفي غضون هذا التقدّم تُخلق "المشيمة" وتتكامل، وتتّصل من جهة قلب الأُم بوساطة شريانين ووريد واحد، ومن الجهة الأُخرى تتّصل بسرّة الجنين الذي يتغذّى على الدم القادم إلى المشيمة.

وبالتدريج وعلى أثر التغذية والتطور واتجاه الخلايا نحو الخارج يتجوّف باطن "المرولا"، وعندئذ يطلق عليه اسم "البلاستولا"، ولا تلبث هذه حتى يتكاثر عدد خلاياها، مؤلّفة كيساً ذا جدارين، ثمّ يحدث فيه إنخفاض يقسم الجنين إلى قسمي الصدر والبطن.

إلى هنا تكون جميع الخلايا متشابهة ولا اختلاف بينها في الظاهر.

ولكن بعد هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتصوّر، وتتشكّل أجزاؤه بأشكال مختلفة بحسب وظيفتها المستقبلية، وتتكون الأنسجة والأجهزة، وتقوم كلّ مجموعة من الخلايا ببناء أحد أجهزة الجسم وصياغته، كالجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية، وجهاز الهضم، وغيرها من الأجهزة، حتّى يصبح الجنين بعد هذه المراحل من التطوّر في مخبئه الخفي في رحم أُمّه إنساناً كامل الصورة.

وسوف ندرج- بمشيئة الله- شرحاً كاملاً لتطوّر الجنين ومراحل تكامله في تفسير الآيه 12 من سورة "المؤمنون".

2- (أرحام) جمع (رحم) يعني في الأصل محل نموّ الجنين في بطن الأُمّ، ثمّ أطلق على جميع الأقرباء الذين يشتركون في أُمّ واحدة المتولّدون من أُمّ واحدة، وبما أنّ حالة من المحبّة والعطف والحنان ترتبط بين هؤلاء الأفراد أطلقت هذه المفردة على كلّ عطف وحنان (رحمة)، ويرى البعض أنّ المفهوم من هذه الكلمة بالعكس، أي أنّ المفهوم الأصلي لها هو رقّة القلب والعطف والمحبّة، ولكن بما أنّ الأقرباء والأرحام يشتركون في هذه الصفة فيما بينهم أطلق على المكان الذي تولّدوا منه كلمة (رحم).


1- العلم الحضوري: يعني أن يكون المعلوم ذاته حاضراً عند العلم. أمّا في العلم الحصولي فإنّ الحاضر عند العالم هو صورة المعلوم ورسمه، فمثلاً أنّ علمي بنفسي علم حضوري لأنّ نفسي ذاتها حاضرة في نفسي، أمّا بالنسبة للموجودات الأُخرى فعلمنا بها حصولي، لأنّ صورتها فقط هي الحاضرة في أذهاننا.