الآيات 1 - 4

﴿الم / اللهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ / نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقّ ِ مُصَدِّقاً لِمّاَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالاِْنجِيلَ / مِن قَبْلُ هُدىً لِلّنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَـاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام﴾

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين: إنّ ثمانين آية ونيفاً من هذه السورة قد نزلت في وفد مسيحيّي نجران(1) الذي قدم المدينة للتحقيق في أمر الإسلام.

كان الوفد يتألّف من ستّين شخصاً، فيهم أربعة عشر شخصاً من أشراف نجران وشخصيّاتها.

ثلاثة من هؤلاء الأربعة عشر كانت لهم صفة الرئاسة، وإليهم يرجع المسيحيّون لحلّ مشاكلهم.

أحدهم يدعى "عاقب" ويسمّى "عبدالمسيح" أيضاً، كان زعيم قومه المطاع بينهم.

والثاني يدعى "السيّد" ويسمّونه "ايهم" أيضاً، وهو المسؤول عن تنظيم برنامج الرحلة ومعتمد المسيحيّين.

والثالث "أبو حارثة" وكان عالماً وصاحب نفوذ، وبنيت كنائس عديدة باسمه.

وحفظ عن ظهر قلب جميع كتب المسيحيّين الدينية.

دخل هؤلاء المدينة وهم بملابس قبيلة بني كعب، وجاؤوا إلى مسجد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

كان النبيّ (ص) قد انتهى من صلاة العصر مع المسلمين.

وأثار هؤلاء إنتباه المسلمين بملابسهم اللامعة الملوّنة الزاهية حتّى قال بعض صحابة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): ما رأينا مبعوثين بهذا الجمال!

وعندما وصلوا إلى المسجد كان موعد صلاتهم قد أزف، فقرعوا نواقيسهم بحسب طقوسهم واتّجهوا نحو الشرق وشرعوا يصلّون، فحاول بعض أصحاب النبىّ (ص) أن يمنعهم، إلاَّ أنّ رسول الله (ص) طلب من الصحابة أن يتركوهم وشأنهم.

وبعدالصلاة أقبل "عاقب" و "السيّد" على رسول الله (ص) وبدءا يحادثانه، فدعاهم الرسول (ص) إلى الدخول في الإسلام والإستسلام لله.

قالا: قد أسلمنا قبلك.

قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.

قالا: إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى.

فقال لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلاَّ ويشبه أباه؟

قالوا: بلى.

قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟

قالوا: بلى.

قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء ويحفظه ويرزقه؟

قالوا: بلى.

قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟

قالوا:لا.

قال: ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟

قالوا: بلى.

قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلاَّ ما علّم؟

قالوا: لا.

قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث.

قالوا: بلى.

قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أُمّه كما تحمل المرأة، ثمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي كما يغذّي الصبيّ، ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث؟

قالوا: بلى.

قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية(2).

التّفسير

تفسير الحروف المقطّعة بالعقول الإلكترونية:

فيما يتعلّق بالحروف المقطّعة في القرآن، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة، فلا موجب لتكرار ذلك.

وما ينبغي عرضه هنا هو النظرية المثيرة التي تقدّم بها مؤخّراً عالم مصري نورد هنا خلاصة لها لأهميّتها، لا شكّ أنّ الحكم على صحتها أو بطلانها يستلزم بحوثاً دقيقة يقع عبؤها على الأجيال القادمة.

إنّما نوردها كنظرية لاغير(3).

مجلة "آخر ساعة" المصرية المعروفة نشرت تقريراً عن تحقيقات عجيبة قام بها عالم مصري مسلم بخصوص تفسير بعض آيات القرآن المجيد بوساطة العقول الإلكترونية أثارت إعجاب الناس في مختلف أنحاء العالم.

تلك التحقيقات التي أجراها الدكتور "رشاد خليفة" العالم الكيمياويّ المصري خلال ثلاث سنوات متواصلة، أثبتت أنّ هذا الكتاب السماويّ العظيم ليس من نتاج عقل بشري، وأنّ الإنسان غير قادر على الإتيان بمثله.

أجرى الدكتور رشاد تحقيقاته في مدينة "سانت لويس" بمقاطعة "ميسوري" الأمريكية واستخدم في تحقيقاته العقول الإلكترونية لفترات طويلة مع أنّ أُجرتها في كلّ دقيقة 10 دولارات تبرّع بها المسلمون المقيمون هناك.

كان كلّ جهد الاُستاذ المذكور ينصبّ على معرفة معاني الحروف المقطّعة في القرآن، مثل "ق، الم، يس".

لقد استطاع بحسابات معقّدة أن يثبت وجود علاقة قوية بين هذين الحروف والسورة التي تقع في صدرها (فتأمّل).

لقد استعان بالعقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات الخاصّة لمعرفة أعداد حروف السور ونسبة وجود كلّ حرف منها، لا لتفسير القرآن.

ولولا هذه الأجهزة ما استطاع أحد أن يجري تلك الحسابات على الورق.

والآن نوجز الإكتشافات الذي توصّل إليه العالم المصري: يقول الدكتور رشاد: نعلم أنّ القرآن يضمّ 114 سورة، منها 86 سورة نزلت في مكّة و 28 سورة في المدينة، ومن بين مجموع سور القرآن 29 سورة تبدأ بحروف مقطعة.

من الجدير بالذكر أنّ مجموع هذه الحروف يبلغ نصف حروف الهجاء العربية، وهي (أ- ح- ر- س- ص- ط- ع- ق- ك- ل- م- ن- هـ- ي) وقد يصفونها بالحروف النيّرة.

يقول الدكتور: منذ سنوات وأنا أحبّ أن أعرف معنى هذه الحروف التي تبدو في الظاهر أنّها مقطّعةوتتصدّر بعض السور.

وعلى الرغم من رجوعي إلى تفاسير مشاهير المفسّرين فلم أعثر لديهم على جواب مقنع، فاستعنت بالله واتّكلت عليه وبدأت بحثي:

خطر لي مرّة أنّه ربما تكون هناك علاقة بين هذه الحروف وحروف كلّ سورة تتصدّرها.

غير أنّ دراسة الحروف النيّرة الأربعة عشر كلّها ضمن حروف سور القرآن المائة وأربعة عشر واستخراج نسبة كلّ حرف والحسابات الكثيرة الأُخرى لم تكن من الأُمور التي يمكن إجراؤها دون الإستعانة بالعقول الإلكترونية.

لذلك شرعت أوّلاً بتعيين تلك الحروف منفردة في جميع سور القرآن، ثمّ تعيين مجموع حروف كلّ سورة، وأعطيتها جميعاً إلى العقل الإلكتروني مع رقم كلّ سورة (لغرض القيام بالحسابات المعقّدة المطلوبة فيما بعد).

لقد استغرق هذا العمل مع مقدّماته سنتين من الزمان.

ثمّ عملت على العقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات مدّة سنة كاملة.

كانت النتائج لامعة جدّاً، وكشف الستار لأوّل مرّة في تاريخ الإسلام عن حقائق مذهلة أكّدت إعجاز القرآن (إضافة إلى أُمور أُخرى) من الناحية الرياضية ونسبة حروف القرآن.

لقد أوضحت لنا حسابات العقل الإلكتروني نسبة وجود كلّ من الحروف الأربعة عشر في كلّ سورة من سور القرآن المائة وأربعة عشر.

فمثلاً بالحسابات وجدنا أن نسبة حرف القاف، وهو أحد الحروف النورانية في القرآن في سورة "الفلق" تحوز أعلى نسبة (700/6%) وتحوز المرتبة الأولى بين سور القرآن، طبعاً بإستثناء سورة "ق".

بعدها تأتي سورة "القيامة" التي يبلغ فيها عدد حروف القاف بالنسبة إلى حروف السورة (907/3%)، ثمّ تأتي سورة "والشمس" ونسبتها (906/3%).

ونلاحظ من ذلك أنّ الفرق بين سورة "القيامة" وسورة "والشمس" يبلغ(001/0%).

وهكذا استخرجنا هذه النسبة في 114 سورة لهذا الحرف ولسائر الحروف النورانية الأُخرى، وبذلك ظهرت نسبة مجموعة حروف كلّ سورة إلى كلّ حرف من الحروف النورانية.

وفيما يلي النتائج المثيرة التي توصّل إليها التحقيق:

1- نسبة حرف "ق" في سورة "ق" أكثر من نسبتها في أية سورة أُخرى بدون إستثناء.

أي أنّ الآيات التي نزلت طوال 23 سنة- وهي فترة نزول القرآن- في 113 سورة استعملت فيها القاف بنسبة أقل، إنّه مثير ومدهش أن يكون إنسان قادر على مراقبة تعداد كلّ حرف من الحروف التي يستعملها على مدى 23 سنة، وفي الوقت نفسه يعرب بكلّ طلاقة وبدون أي تكلّف عمّا يريد بيانه.

لاشكّ أنّ أمراً كهذا خارج عن نطاق قدرة الإنسان، بل أنّ مجرّد حساب ذلك يتعذّر على أعظم العقول الرياضية بدون الإلتجاء إلى العقل الإلكتروني.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ سور القرآن وآياته ليست وحدها الموضوعة وفق حساب معيّن، بل حتّى حروفه موضوعة بحساب ونظام خاصّ لا يقدر عليه سوى الله تعالى.

كذلك دلّت الحسابات على أنّ حرف "ص" في سورة "ص" له هذه الخاصيّة نفسها، أي نسبة وجوده في هذه السورة أكثر من نسبة وجوده في أية سورة أُخرىمن سور القرآن.

كما أنّ حرف "ن" في سورة "ن والقلم" يمتاز بنسبة أعلى من وجوده في أية سورة أُخرى.

الإستثناء الوحيد هو سورة "الحجر" التي فيها نسبة الحرف "ن" أكثر من سورة "ن والقلم".

ولكن ما يلفت هو أنّ سورة "الحجر" تبدأ بالحروف "الر".

وسنجد أنّ السور التي تبدأ بحروف "الر" يجب أن تعتبر بحكم السورة الواحدة.

فإذا فعلنا ذلك نصل إلى النتيجة المطلوبة أي أنّ عدد حرف "ن" في هذه السور سوف يكون أقلّ مما في سورة "ن والقلم".

2- حروف "المص" في بداية سورة الأعراف إذا حسبنا حروف الألف والميم والصاد في هذه السورة نجدها أكثر ممّا هي في أية سورة أُخرى.

كذلك "المر" في بداية سورة "الرعد".

و "كهيعص" في بداية سورة "مريم"، إذا حسبت الأحرف الخمس كان عددها في هذه السورة أكثر ممّا هي في السور الأخرى.

وهنا تواجهنا ظاهرة جديدة، فالحرف الواحد ليس هو وحده الذي يرد بحساب في السور، بل أنّ مجموعات الأحرف أيضاً تأتي هكذا بشكل مدهش.

3- كان الكلام حتّى الآن يدور على الحروف التي تتصدّر سورة واحدة من سورة القرآن، أمّا الحروف التي تتصدّر سوراً متكرّرة، مثل"الر،ألم" فإنّها تتّخذ شكلاً آخر، فالحسابات الإلكترونية تقول إنّ مجموع هذه الحروف الثلاث، مثلاً "أل م" إذا حسبت في مجموع السور التي تتصدّرها، وتستخرج نسبتها إلى مجموع حروف هذه السور، نجد أنّ هذه النسبة أكبر من نسبة وجودها في السور الأُخرى من القرآن.

هنا أيضاً تتّخذ المسألة شكلاً مثيراً وهو أنّ حروف كلّ سورة من سور القرآن ليست هي وحدها التي تقع تحت الضبط والحساب.

بل أنّ مجموع حروف السور المتشابهة تقع تحت حساب متشابه أيضاً.

وبهذه المناسبة يتّضح أيضاً لماذا تبدأ عدّة سور مختلفة بالحروف "الم" أو "الر" وهذا لم يكن من باب المصادفة والإتّفاق.

يقوم الدكتور رشاد بحسابات أعقد على السور التي تتصدّرها "حم" لا نتطرّق إليها إختصاراً.

ويصل الأستاذ المذكور من خلال دراساته هذه إلى حقائق وإستنتاجات أُخرى أيضاً نوردها للقرّاء الكرام:

1- لابدّ من الإبقاء على إملاء القرآن الأصلي

يقول الدكتور: إنّ هذه الحسابات تصحّ في حالة الإبقاء على الإملاء الأصلي في كتابة القرآن، مثل: اسحق وزكوة وصلوة، فلا نكتبها اسحاق وزكاة وصلاة، وإلاَّ فإنّ الحسابات تختل.

2- دليل على عدم تحريف القرآن

هذه التحقيقات تدلّ على أنّ أيّ تحريف- ولو في كلمة واحدة- لم يطرأ على القرآن من حيث الزيادة والنقصان، وإلاَّ لما ظهرت هذه الحسابات على هذه الصورة.

3- إشارات عميقة المعنى

في كثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطّعة نلاحظ أنّه بعد الحروف تأتي الإشارة إلى صدق القرآن وعظمته، مثل: (الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه)(4)، وهذا في نفسه إشارة ظريفة إلى علاقة هذه الحروف بإعجاز القرآن.

نتيجة البحث

نستنتج من هذا البحث أنّ حروف القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)على مدى 23 سنة تنتظم في حساب دقيق، فكلّ حرف من حروف الهجاء له مع مجموع حروف كلّ سورة نسبة رياضية دقيقة بحيث إنّ الحفاظ على هذا التنظيم والحساب يتعذّر على البشر بدون العقول الإلكترونية.

لاشكّ أنّ التحقيقات التي أجرها العالم المذكور ما زالت في بداية الطريق ولا تخلو من النقائص.

فيجب أن تتظافر جهود الآخرين للتغلّب عليها.

في الآية الثانية يقول تعالى:(الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيّوم).

سبق أن شرحنا هذه الآية في سورة البقرة في الآية 255.

الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام وتقول: إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحقّ والحقيقة، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والأنجيل) التي بشّرت(5) به وقد أنزلها الله تعالى أيضاً لهداية البشر: (نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والأنجيل من قبل هدىً للناس).

ثمّ تضيف الآية (وأنزل الفرقان).

وبعد إتمام الحجّة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية محلّ البحث بعد ذكر حقّانيّة الرسول الأكرم والقرآن المجيد: (إنّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذابٌ شديد).

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية (والله عزيز ذو إنتقام)(6).

(عزيز) في اللّغة بمعنى كلّ شيء صعب وغير قابل للنفوذ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كلّ أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القويّ والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه أو يستحيل التغلّب عليه، وكلّما أطلقت كلمة (عزيز) على الله تعالى يراد بها هذا المعنى، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه، وأنّ كلّ المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.

وفي الجملة الآنفة الذكر ولكي يعرف الكفّار أنّ هذا التهديد جادّ تماماً تذكّرهم الآية بأنّ الله عزيزٌ، أي أنّه قاهر وما من أحد يستطيع أن يقف بوجه تنفيذ تهديداته وأنّه في الوقت الذي يكون فيه غفوراً رحيماً يكون شديد العقاب بالنسبة لمن لا يستحقّون هذه الرحمة.

كلمة (الانتقام) تستعمل غالباً في مفهومنا الحالي في لجوء شخص لا يستطيع أن يتسامح مع الآخرين ويغفر لهم أخطاءهم إلى عمل مقابل قد يكون عنيفاً لا يأخذ حتّى مصلحته الخاصّة بنظر الإعتبار، وبديهيٌّ أنّ هذه الصفة مذمومة، إذ أنّ على الإنسان في كثير من الحالات أن يعفو ويغفر بدلاً من الإنتقام، ولكنّ (الإنتقام) في اللّغة ليس بهذا المعنى بل يعني إنزال ا لعقاب بالمجرم، ولا شكّ أنّ معاقبة المجرمين العصاة فضلاً عن كونها من الأُمور الحسنة فإنّه لايجوز التهاون فيها وإهمالها لأنّ ذلك يجانب العدالة والحكمة.

هنا لابدّ من ملاحظة ما يلي:

1- أصل (الحقّ) المطابقة والموافقة، لذلك يقال لما يطابق الواقع "الحق".

كما أنّ وصف الله بالحقّ ناشيء من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار.

وبعبارة أُخرى "الحق" هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

والباء في "الحق" في هذه الآية للمصاحبة،أي يا أيّها النبيّ لقد أنزل عليك الله القرآن مصحوباً بدلائل الحقّ.

2- "التوراة" لفظة عبرية تعني "الشريعة والقانون"، وأُطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران (عليه السلام).

وقد تطلق أيضاً على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة.

إنّ مجموعة كتب العهد القديم تتألّف من التوراة وعدد من الكتب الأُخرى.

والتوراة تتألّف من خمسة أقسام، كلّ قسم يسمّى "سفراً" وهي: "سفر التكوين" و"سفر الخروج" و "سفر لاوي" و "سفر الاعداد" و "سفر التثنية".

هذه الأقسام من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضاً من سير الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام.

أمّا الكتب الأُخرى فهي ما كتبه المؤرّخون بعد موسى (عليه السلام) في شرح أحوال الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران (عليه السلام).

بديهيّ أنّ هذه الكتب- عدا الأسفار الخمسة- ليست كتباً سماوية واليهود أنفسهم لا يدّعون ذلك.

وحتّى "زبور" داود الذي يطلقون عليه اسم "المزامير" هو شرح مناجاة داود ومواعظه.

أمّا أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنّها ليست من الكتب السماوية، بل هي كتب تاريخية دوّنت بعد موسى بن عمران (عليه السلام)، إذ فيها بيان موت موسى (عليه السلام)ومراسيم دفنه، وبعض الحوادث التي وقعت بعده، على الأخصّ الفصل الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أنّ هذا الكتاب قد كتب بعد موت موسى (عليه السلام).

يضاف إلى ذلك أنّ في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أُموراً فاضحة للأنبياء، وبعض الأقوال الصبيانية، ممّا يؤكّد زيف هذه الكتب.

والشواهد التاريخية تؤكّد أنّ التوراة الأصلية قد ضاعت، وأنّ أتباع موسى هم الذين كتبوا هذه الكتب بعده(7).

3- "الإنجيل" كلمة يونانية بمعنى "البشارة" أو "التعليم الجديد" وتطلق على الكتاب الذي نزل على عيسى بن مريم (عليه السلام).

ومن الجدير بالتنويه أنّ القرآن كلّما أورد اسم كتاب عيسى (عليه السلام) "الإنجيل" جاء به مفرداً وعلى أنّه قد نزل من الله.

وعليه فإنّ الأناجيل المتداولة بين أيدي المسيحيّين،وحتّى الأشهر منها، وهي الأناجيل الأربعة "لوقا، ومُرقُس، ومتّى، ويوحنا" ليست من الوحي الإلهي، وهذا ما لا ينكره المسيحيّون أنفسهم، إذ يقولون إنّ هذه الأناجيل قد كتبت بأيدي تلامذة السيّد المسيح (عليه السلام) بعده بمدّة طويلة.

ولكنّهم يزعمون أن أُولئك التلامذة قد كتبوها بإلهام من الله.

هنا يحسن بنا أن نتعرّف- ولو بإيجاز- على "العهد الجديد" والأناجيل وكتّابها:

إنّ أهم كتاب ديني عند المسيحيّين والذي يعتمدونه على أنّه كتاب سماوي هو المجموعة التي يطلق عليها اسم "العهد الجديد".

"العهد الجديد" الذي يبلغ نحو ثلث "العهد القديم" يتألّف من 27 كتاباً ورسالة تشمل موضوعات عامّة متناثرة ومختلفة، على النحو التالي:

1- إنجيل متّى(8): وهو الإنجيل الذي كتبه "متّى" أحد حواريّي المسيح (عليه السلام)الاثني عشر في سنة 38 ميلادية، وبعض يقول في سنة 50 أو 60 ميلادية(9).

2- إنجيل مُرقُس(10): بحسب ما جاء في كتاب "القاموس المقدّس" صفحة 792، لم يكن مُرقُس من الحواريّين، ولكنّه كتب إنجيله بإشراف "بطرس".

قتل مُرقُس سنة 68م.

3- إنجيل لوقا: كان "لوقا" رفيق سفر "بولس" الرسول.

كان "بولس" على عهد المسيح يهودياً متعصّباً، ولكنه اعتنق المسيحية بعده.

يقال إنّه توفي في سنة 70 م، وحسبما يقول مؤلّف "القاموس المقدّس" ص 772: "إنّ تاريخ كتابة إنجيل لوقا يعود إلى حوالي سنة 63 م".

4- إنجيل يوحنا: "يوحنا" كان من تلامذة المسيح (عليه السلام) ومن أصحاب "بولس".

يقول صاحب القاموس المذكور، اعتماداً على عدد من المحقّقين: إنّه أُلف في أواخر القرن الأول الميلادي(11).

يتّضح من محتويات هذه الأناجيل، التي تشرح عموماً حكاية صلب المسيح وما جرى بعد ذلك، أنّ جميع هذه الأناجيل قد كتبت بعد المسيح بسنوات وليست كتباً سماوية نزلت على المسيح (عليه السلام).

5- أعمال الرسل: "أعمال الحواريّين ودعاة الصدر الأوّل".

6- رسائل بولس الأربعة عشرة إلى جهات مختلفة.

7- رسالة يعقوب: "الرسالة العشرون من الرسائل السبع والعشرين في العهد الجديد".

8- رسالتا بطرس: "الرسالتنا 21 و 22 من العهد الجديد".

9- رسائل يوحنا: "الرسائل 23 و 24 و 25 من العهد الجديد".

10- رسالة يهودا: "الرسالة 26 من العهد الجديد".

11- مكاشفة يوحنا: "القسم الأخير من العهد الجديد".

إستناداً إلى المؤرّخين المسيحيّين وحسبما ورد في هذه الأناجيل والكتب والرسائل في العهد الجديد، فإنّ أيّاً منها ليس كتاباً سماوياً، بل هي كتب كتبت بعد المسيح (عليه السلام)، ونستنتج من ذلك أنّ الإنجيل الأصلي السماوي الذي نزل على المسيح (عليه السلام) قد فُقِد وليس له وجود الآن.

إنّما تلامذة المسيح أدرجوا بعضاً منه في أناجيلهم ومزجوه- مع الأسف- بالخرافات.

أمّا القول بأنّ على المسلمين أن لا يشكّوا في صحّة الأناجيل والتوراة الموجودة- على اعتبار أنّ القرآن قد صدقّها وشهد لها- فإنّه قول مردود،وقد أجبنا عليه في المجلّد الأوّل عند تفسير الآية: (وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم).

4- بعد ذكر التوراة والإنجيل، يشار إلى نزول القرآن، ولكنّه سمّي الفرقان، لأنّ لفظة "الفرقان" تستعمل في التفريق بين الحقّ والباطل وكلّ ما يميّز الحقّ عن الباطل يقال له "الفرقان".

ولذلك يسمّي القرآن حرب بدر "يوم الفرقان"(12)، ففي ذلك اليوم انتصر فريق صغير مفتقر لكلّ أنواع المعدّات الحربيّة على جيش كبير مسلّح ومتفوّق تفوّقاً كبيراً.

وكذلك يطلق على معجزات موسى (عليه السلام) العشر اسم "الفرقان" أيضاً(13).


1- "نجران" منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم "يعوق". ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: نجران اسم لعدد من المواضع.

2- تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 406.

3- مع الأسف أن هذا العالم الذي يعيش في أمريكا، وقع تحت تأثير المحيط الفاسد هناك وقد أنكر بصراحة بعض المسائل والأحكام الإسلامية المسلمة ما دعا ادعاءات باطلة.

4- البقرة: 2.

5- انظر الجزء الأول ص 146 في تفسير الآية 40 من سورة البقرة، شرح (مصدّقاً لما بين يديه).

6- ذكر بعض المفسّرين أن "ذو" لها معناً أقوى من "صاحب" ولذلك لا نجد في صفات الله أنها تذكر معنى كلمة صاحب بل تذكر دائماً مع كلمة "ذو" البحر المحيط: ج 2 ص 379.

7- انظر "الهدى إلى دين المصطفى" و "الرحلة المدرسية".

8- متّى: على وزن حتّى، بمعنى عطاء الله.

9- كتاب القاموس المقدّس: ص 782.

10- مُرقُس: على وزن قُنفُذ، وقيل على وزن أسهُم، جمع سهم.

11- القاموس المقدّس: ص 966.

12- الأنفال: 41.

13- البقرة: 53.