الآيتان 217 - 218
﴿يَسْئلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرُ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَـاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأُوْلَئكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ / إنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجـاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(
سبب النّزول
قيل إنّ رسول الله (ص) بعث سرية(1) من المسلمين وأمر عليهم عبدالله ابنجحش الأسدي- وهو ابن عمّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)- وذلك قبل بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم النبيّ المدينة، فانطلقوا حتّى هبطوا نخلة- وهي أرض بين مكّة والطائف- فوجدوا بها عمرو بن الحضرميّ في قافلة تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الأخرة، وكانوا يرون أنه من جمادي وهو رجب- من الأشهر الحرم- فاختلف المسلمون أيقتلون الحضرميّ ويغنمون ماله، لعدم علمهم بحلول الشهر الحرام، أم يتركونه احتراماً لحرمة شهر رجب، وانتهى بهم الأمر أن شدّوا على الحضرميّ فقتلوه وغنموا ماله، فبلغ ذلك كفّار قريش فطفقوا يعيّرون المسلمين ويقولون إنَّ محمّداً أحلّ سفك الدماء في الأشهر الحرم، فنزلت الآية الاُولى.
ثمّ نزلت الآية الثانية حين سأل عبدالله بن جحش وأصحابه عمّا إذا كانوا قد أدركوا أجر المجاهدين في انطلاقتهم أو لا(2)؟!
التّفسير
القتال في الأشهر الحُرُم:
كما مرّ بنا في سبب النّزول ويُشير إلى ذلك السياق أيضاً فإنّ الآية الاُولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والإستثنائات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية (يسألونك عن الشهر الحرام قتالٌ فيه) ثمّ تُعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر (قل قتال فيه كبير) أي إثم كبير.
وبهذا يُمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة الّتي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحُرم (رجب، ذي القعدة، ذي الحجّة، محرم).
ثمّ تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلوا من الإستثنائات، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة لإستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرّغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحُرم، ولكنّ الصد عن سبيل الله والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكينن فيه وأمثال ذلك أعظم إثماً وجرماً عندالله (وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عندالله)(3).
ثمّ تضيف الآية بأنّ إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل الله ودينه أعظم من القتل (والفتنة أكبر من القتل) لأنّ القتل ما هو إلاّ جناية على جسم الإنسان، والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه(4)، ثمّ إنّ الآية تحذّر المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنّهم لا يقنعون منكم إلاّ بترككم لدينكم إن استطاعوا (ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا).
فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بجزم وقوّة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحُرم، ثمّ تُنذر الآية المسلمين وتحذّرهم من الإرتداد عن دين الله (ومن يرتدد منكم عن دينه فيُمت وهو كافر فاُولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة واُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
فما أشدَّ عقاب المرتد عن الإسلام، لأنّ ذلك يُبطل كلّما قدّمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.
ومن الواضح أنّ الأعمال الصّالحة لها آثار طيّبة في الدنيا والآخرة، والمرتدّون سوف يُحرمون من هذه البركات بسبب إرتدادهم، مضافاً إلى محو جميع معطيات الإيمان الدنيويّة للفرد حيث تنفصل عنه زوجته وتنتقل أمواله إلى ورثته فور إرتداده.
الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول: (إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله اُولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم).
أجل، فهذه الطائفة الّتي يتحلّى أفرادها بهذه الصّفات الثلاث المهمّة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأً بسبب جهلهم وعدم أطّلاعهم (كما صدر ذلك من عبدالله بن جحش الوارد في سبب النزول) إلاّ أنّ الله تعالى يغفر لهم زلّتهم بلطفه ورحمته(5).
بحث
الإحباط والتكفير:
(حبط) في الأصل كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى أنّ الحيوان قد يأكل كثيراً حتّى تنتفخ بطنه، وبما أنّ هذه الحالة تؤدّي إلى فساد الغذاء وعدم تأثيره الإيجابي في الحيوان استُعملت هذه الكلمة بمعنى البطلان وذهاب الأثر، ولذلك ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّ معنى هذه الكلمة هو البطلان، ومن ذلك ما ورد في آية (16) من سورة هود حيث أوردت هذه الكلمة مساوقة للبطلان (اُولئك الّذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون).
وأمّا (الإحباط) فكما يقول علماء العقائد والمتكلّمون أنّها تعني إبطال ثواب الأعمال السابقة بسبب ارتكاب الذنوب اللاّحقة، ويقابله "التكفير" بمعنى زوال العقوبات وآثار الذنوب السابقة بسبب الأعمال الصالحة بعد ذلك.
وهناك بحث بين علماء العقائد في صحّة الإحباط والتكفير بالنّسبة لثواب الأعمال الصالحة وعقوباتها وعقاب الأعمال الطالحة والمشهور بين المتكلّمين الإماميّة كما يقول العلاّمة المجلسي هو بطلان الإحباط والتكفير، غاية الأمر إنهم يرون أنّ تحقق الثواب مشروط أن يستمر الإنسان على إيمانه في الدنيا إلى النهاية، والعقاب مشروط كذلك بأن يرحل من هذه الدنيا بدون توبة، ولكنّ العلماء المعتزلة يعتقدون بصحّة الإحباط والتفكير بالنّظر إلى ظواهر بعض الآيات والروايات(6).
ويرى الخواجة نصر الدين الطوسي في كتاب (تجريد العقائد) بطلان القول بالإحباط، واستدلّ على ذلك بالدليل العقلي والنقلي، أما الدليل العقلي فهو أنّ الإحباط نوع من الظلم (لأنّ الشخص الّذي قلّت حسناته وكثرت ذنوبه سيكون بعد الإحباط بمنزلة من لم يأت بعمل حسن إطلاقاً وهذا نوع من الظلم بحقّه)، وأمّا الدليل النقلي فالقرآن يصرّح (فمن يعلم مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره)(7)(8).
بعض علماء المعتزلة مثل (أبوهاشم) ذهب إلى إقتران الإحباط والتكفير بشكل متوازن، بهذا المعنى أنّه جمع بين العقاب والثواب في ميزان واحد وبعد حدوث الكسر والإنكسار بينهما يتمّ الحصول على النتيجة النهاية.
ولكنّ الحقّ هو أنّ الإحباط والتكفير من الاُمور الممكنة، ولا تستلزم الظلم مطلقاً، وتدل على ذلك الآيات والرّوايات الصّريحة، والظاهر أنّ ما ذهب إليه المنكرون هو نوع من الإلتباس اللّفظي.
وتوضيح ذلك: تارةً يعمل الإنسان سنوات طويلة بمشّقة كبيرة ويُنفق رأس مال كثير، ولكنّه قد يخسر كلّ تلك الأفعال بخطأ بسيط، فهذا يعني أنّ حسناته السابقة قد اُحبطت، وعلى العكس من ذلك فيما لو كان قد خسر كثيراً في السابق لإرتكابه بعض الأخطاء والحماقات، ولكنّه يجبر ذلك بعمل عقلائيٍّ واحد، فهذا نوع من أنواع التكفير (التكفير نوع من أنواع التغطية والجبران) وكذلك يصدق هذا الأصل في المسائل المعنوية أيضاً.
1- مجمع البيان: ج 1 ص 309، كذلك تفسير روح المعاني: ج 2 ص 91، والتفسير الكبير: ج ص 232.
2- السرية: هي الحرب الإسلامية التي لم يشترك فيها رسول الله (ص)، وقيل إنّها مجموعة من الجيش تتكون من 5 إلى 300 رجل.
والسرية من "السري" أي الشيء النفيس، وإنّما سمّيت بذلك لأن أفرادها ممتازون.
وقال المطرزي: السرية من "السرى" وهو المشي ليلاً، لأنّ هذه المجموعة كانت تستتر بالليل في حركتها، وذهب إلى ذلك أيضاً ابن حجر في الملتقطات.
3- سيرة ابن هشام: ج 2 ص 252.
4- "صدٌّ" مبتدأ، "كفر" و "اخراج أهله" معطوف عليه، و "اكبر" خبرها وهو ما ذهب إليه الطبرسي في "مجمع البيان" والقرطبي في تفسير "الجامع".
5- قدمنا بحثاً مفصلاً عن معنى "الفتنة" في ذيل الآية (191) من هذه السورة المبحوثة.
6- أشرنا إلى معنى "المرتد الفطري والحلي" في ذيل الآية (106) من سورة النحل، وسيأتي الكلام عنه في ذيل الآية (89) من سورة آل عمران من هذا المجلد.
7- بحار الأنوار: ج 5 ص 332.
8- الزلزلة: 7 و 8 .