الآيات 204 - 206

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ / وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ / وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإْثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾

سبب النّزول

ذُكر في سبب نزول هذه الآيات أمران:

1- أنّ هذه الآيات نزلت في (الأخنس بن شريف) وكان رجلاً وسيماً عذب البيان يتظاهر بالإسلام وحبّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان كلّما جلس عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أقسم بالله على إيمانه وحبّه للرّسول، وكان الرسول (ص) يغدق عليه من لطفه وحبّه كما هو مأمورٌ به، ولكنّ هذا الشخص كان منافقاً في الباطن وفي حادثة نزاع بينه وبين بعض المسلمين هجم عليهم وقتل أحشامهم وأباد زرعهم (وبهذا أظهر ما في باطنه من النّفاق)(1).

2- ومن المفسّرين من نقل عن ابن عباس أنّ الآية المذكورة نزلت في سريّه (الرجيع) حيث بعث رسول الله مجموعة من الدعاة إلى القبائل المتوطنّة أطراف المدينة، فدبّرت لهم مؤامرة لئيمة استشهدوا فيها(2).

ولكنّ سبب النّزول الأوّل أكثر انسجاماً مع مضمون الآيات، وعلى أيّ حال فالدرس الّذي تقدّمه الآية عام وشامل.

التّفسير

مصير المفسدين في الأرض:

الآية الاُولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام).

(ألد) تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة، وأصلها من (لديد) التي يراد بها طرفي الرقبة وكناية عن الشخص الّذي يغلب الأعداء من كلّ جانب، و (خصام) لها معنىً مصدري وهو الخصومة والعداوة.

ثمّ تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنيّة لعداوة مثل هذا الإنسان وهي: (وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).

أجل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يفضح هؤلاء ويكشف سريرتهم، لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبّة لما أفسدوا في الأرض مطلقاً ولما اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة، فبالرّغم من أنّ ظاهرهم المحبّة الخالصة إلاّ أنّهم في الباطن أشدّ الناس قساوة ووحشيّة.

واحتمل كثير من المفسّرين أنّ المراد بقوله (إذا تولّى) أي إذا حكم، لأنّ التولّي من الولاية بمعنى الحكومة، فيكون معنى الولاية حينئذ أنّ المنافقين إذا حكموا في الأرض أهلكوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بين عباد الله، وبسبب ظلمهم وجورهم تهلك الماشية وتتعرّض أموال ونفوس الناس للخطر(3).

(حرث) بمعنى الزّراعة، (نسل) بمعنى الأولاد، وتُطلق أيضاً على أولاد الإنسان وغير الإنسان، فعلى هذا يكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى إتلاف كلّ الموجودات الحيّة أعمّ من الأحياء النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة.

وذُكر لمعنى الحرث والنسل تفاسير اُخرى منها: أنّ المراد بالحرث هو النساء بقرينة الآية الشريفة (نساؤكم حرث لكم)(4) والمراد بالنسل هم الأولاد، أو يكون المراد من الحرث هنا الدين والعقيدة والنسل الناس (وهذا التفسير هو الوارد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) المذكور في مجمع البيان).

وعلى كلّ حال فإنّ التعبير (يهلك الحرث والنسل) كلام مختصر وجامع لكلّ المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.

والآية الاُخرى تُضيف (وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم)(5) فتشتعل في قلبه نيران التعصّب واللّجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.

فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة النّاصحين ولايهتم للإنذارات الإلهيّة، بل يستمر على عناده وإرتكابه للآثام والمنكرات مغروراً، فلا يكون جزاءه إلاّ النار، ولذلك يقول في نهاية الآية (فحسبه جهنّم وبئس المهاد).

وفي الحقيقة أنّ هذه هي أحد الصّفات القبيحة والذّميمة للمنافقين حيث أنّهم لا يستسلمون للحقّ بسبب التعصّب والتحجّر وقساوة القلب، وهذه الصفات الذّميمة تبلغ بصاحبه إلى أعلا درجات الإثم، فمن البديهي أنّ مثل هذه الأخشاب اليابسة المنحرفة لا تستقيم إلاّ بنار جهنّم.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الله عزّوجلّ وصف هؤلاء الأشخاص بخمس صفات في الآيات المذكورة آنفاً، الاُولى: أنّ كلامهم يخدع الإنسان، الثانية: أنّ قلوبهم ملوّثة ومظلمة، الثالثة: أنّهم ألدّ الأعداء، الرّابعة: أنّهم إذا سنحت الفرصة فلا يرحمون أحداً من الإنسان والحيوان والزرع، الخامسة: أنّهم وبسبب الغرور والتكبّر لا يقبلون أيّة نصيحة.


1- بالرغم من أن "أيام" جمع "يوم" وهو مذكر، إلاّ أنه وصف بـ "معلومات" و "معدودات" بصيغة المؤنث، وقيل أن ذلك لأن الأيّام مركبة من ساعات، ولعلّه إشارة إلى أنكم ينبغي أن تذكروا الله طيلة ساعات هذه الأيّام.

2- تفسير أبو الفتوح الرازي وغيره من التفاسير.

3- تفسير أبو الفتوح، ج 2، ص 140، قلّما روى هذا السبب النّزول.

4- تفسير الميزان، ج 2 ، ص 96 - وكذلك اُشير إلى هذا البحث في ذيل هذه الآية في تفسير مجمع البيان وأبو الفتوح الرازي، ولكن هذا الرأي لا يناسب سبب النّزول، وإن كان مفهوم الآية واسعاً.

5- البقرة، 233.