تأويل أحاديث الخطأ في القرآن

فهذا موقف هؤلاء من هذا القسم من الأحاديث والآثار، وعليه آخرون ممن لم نذكر كلماتهم هنا اكتفاءً بمن ذكرناه... وقد اغتاظ من هذا الموقف جماعة واستنكر بشدّة... ومن أشهرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي تحامل على الزمخشري ومن كان على رأية قائلاً بعد الحديث عن ابن عبّاس " كتبها وهو ناعس ": " وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته - إلى أن قال - وهي والله فرية بلا مرية، وتبعه جماعة بعده، والله المستعان.

وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه) أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه.

وهذه الأشياء - وإن كان غيرها المعتد - لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق "(1).

أقول: لكنّ العجب من ابن حجر لماذا أحال التأويل اللائق إلى غيره وقد كان عليه أن يذكره بنفسه وهو بصدد الدفاع عن الأحاديث الصحاح؟!

نعم، نظر بعضهم في تأويله وذكرت وجوه، فقال الداني بالنسبة إلى ما روي عن عثمان - على فرض صحّته -: " وجهه أن يكون أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم ".

وأجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها بأنّ المراد: " أخطأوا في الإختيار وما هو الأولى للجمع عليه من الأحرف السبعة، لا أنّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.

فمعنى قول عائشة: " حرّف الهجاء " القي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة، وكذا معنى قول ابن عبّاس: " كتبها وهو ناعس " يعني: فلم: فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولى من الآخر. وكذا سائرها "(2).

وأتعب السيوطي نفسه في هذا المقام، فإنّه بعد أن أورد الآثار بيّن وجه الإشكال فيها وتصدّى لتأويلها... ولننفل عبارته كاملة لننظر هل جاء " بما يليق "؟!

قال: " هذه الآثار مشكلة جدّاً، وكيف يظنّ بالصحابة أولاً: أنّهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن، وهم الفصحاء اللدّ؟! ثمّ كيف يظنّ بهم ثانياً: في القرآن الذي تلقّوه من النبي - (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كما انزل، وحفظوه وضبطوه واتقنوه؟! ثم كيف يظنّ بهم ثالثاً: اجتماعهم كلّهم على الخطأ وكتابته... ثمّ كيف ظنّ بهم رابعاً: عدم تنبّههم ورجوعهم عنه؟!

ثمّ كيف يظنّ بعثمان: أنّه ينهى عن تغييره؟! ثمّ كيف يظنّ أنّ القراءة استمرّت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلفاً عن سلف؟! هذا ممّا يستحيل عقلاً وشرعاً وعادة.

وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة:

أحدها: أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، فإذا كان الّذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهو الخيار فكيف يقيمه غيرهم؟! وأيضاً: فإنّه لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدّة مصاحف.

فإن قيل: إنّ اللحن إن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها على ذلك، أو في بعضها. فهو اعتراف بصحّة البعض، ولم يذكر أحد من الناس أنّ اللحن كا في

مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلاّ فيما هو من وجوه القراءة، وليس ذلك باللحن.

الثاني: على تقدير صحّة الرواية، فإنّ ذلك محمول على الرمز والإشارة.

الثالث: أنّه مؤوّل على أشياء خالف لفظها رسمها... وبهاذا الجواب وما قبله جزم ابن اشتة في كتاب " المصاحف ".

وقال ابن الأنباري في كتاب (الردّ على من خالف مصحف عثمان) في الأحاديث المرويّة عن عثمان في ذلك: " لا تقوم بها حجّة، لأنّها منقطعة غير متّصلة، وما يشهد عقل بأنّ عثمان وهو إمام الامّة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبيّن فيه خللاً ويشاهد في خطّه زللاً فلا يصلحه، كلاّ والله ما يتوهّم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز، ولا يعتقد أنّه أخّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه.

ومن زعم - أنّ عثمان أراد بقوله: أرى فيه لحناً: أرى في خطّه إذا أقمناه بألسنتنا كا الخطّ غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب - فقد أبطل ولم يصب، لأنّ الخطّ منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخّر فساداً في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتبٍ ولانطق، ومعلوم أنّه كان مواصلاً لدرس القرآن، متقناً لألفاظه، موفقاً على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي...

ثم قال ابن أشتة. أنبأت محمد بن يعقوب، أنبأنا أبو داود سليمان بن الاشعث، أنبأنا أحمد بن مسعدة، أنبأنا إسماعيل، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر، قال: لمّا فرغ من المصحف اتي به عثمان فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه، وبه يتّضح معنى ما تقدّم، فكأنّه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى فيه شيئاً كتب على لسان قريش، كما وقع لهم في (التابوة) و(التابوت)، فوعد بأنّه سيقيمه على لسان قريش، ثمّ وفى بذلك عند العرض والتقويم، ولم يترك فيه شيئاً. ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك. ولله الحمد.

وبعد، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء عن حديث عائشة.

أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة يطابقه، فقد أجاب عنه ابن أشته - وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية - بأنّ معنى قولها " أخطأوا " أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه، لا أنّ الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز...

وأقول: هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها، وأمّا والقراءة على مقتضى الرسم فلا.

وقد تكلّم أهل العربية عن هذه الأحرف ووجّهوها أحسن توجيه، أمّا قول: (إنّ هذان لساحران) ففيه أوجه... وأمّا قوله: (والمقيمين الصلاة) ففيه أيضاً أوجه... وأمّا قوله: (والصابئون) ففيه أيضاً أوجه... "(3).

فهذا ما يتعلّق ب- " كلمات الصحابة والتابعين... ".


1- فتح الباري 8: 301.

2- الإتقان 2: 329.

3- الاتقان 2: 320 - 326.