الآية 143 - 152

﴿مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143)﴾

وفي أصول الكافي: عدة من أصحابنا، عن محمد بن أحمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو، عن أبي المغرا الخصاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله (عز وجل) في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر، فقال الله (عز وجل): " يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " (1).

الحسين بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الله بن عبد الرحمان الأصم، عن الهيثم بن واقد، عن محمد بن مسلم، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: إن المنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، وإذا قام إلى الصلاة اعترض، قلت: يا بن رسول الله وما الاعتراض؟قال: الالتفات، وإذا ركع ربض، يمسي وهمه العشاء وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، إن حدثك كذبك، وإن ائتمنته خانك، وإن غبت اغتابك وإن وعدك أخلفك (2).

أبو علي الأشعري، عن الحسين بن علي الكوفي، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل المنافق مثل جذع أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنيانه فلم يستقم له في الموضع الذي أراد، فحوله في موضع آخر فلم يستقم، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنار (3).

مذبذبين بين ذلك: حال من واو " يراؤون " كقوله: " ولا يذكرون " أي ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أو لياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطنا مبينا (144) إن المنفقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)﴾

يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو واو " يذكرون "، أو منصوب على الذم والمعنى، مرددين بين الايمان والكفر، من الذبذبة، وهو جعل الشئ مضطربا، وأصله الذب بمعنى الطرد.

وقرئ بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم، أو دينهم.

أو يتذبذبون، كقولهم صلصل بمعنى تصلصل.

وقرئ بالدال الغير المعجمة، بمعنى أخذوا تارة في دبة وتارة في دبة أخرى، وهي الطريقة (4).

لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء: لا يصيرون إلى المؤمنين بالكلية، ولا إلى الكافرين كذلك يظهرون الايمان كما يظهره المؤمنون، ولكن لا يضمرونه كما يضمرون، ويضمرون الكفر كما يضمره الكافرون ولكن لا يظهرونه كما يظهرون.

ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا: إلى الحق والصواب، ونظيره قوله تعالى: " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " (5).

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين: فإنه صنيع المنافقين وديدنهم، فلا تتشبهوا بهم.

أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطنا مبينا: حجة بينة، فإن موالاة الكافرين دليل على النفاق، أو سلطانا يسلط عليكم عقابه.

إن المنفقين في الدرك الأسفل من النار: وهي الطبقة التي في قعر جهنم، لأنهم أخبث الكفرة، إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالاسلام وخداع للمسلمين.

وللنار دركات وللجنة درجات.

وإنما سميت طبقاتها دركات، لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.

وقرأ الكوفيون بسكون الراء، وهو لغة، كالسطر والسطر، والتحريك أوجه لأنه يجمع على إدراك.

وفي كتاب الاحتجاج: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حديث طويل، وفيه يقول (عليه السلام): معاشر الناس، سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، معاشر الناس، إن الله وأنا بريئان منهم، معاشر الناس، إنهم وأنصارهم وأشياعهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، ولبئس مثوى المتكبرين (6).

ولن تجد لهم نصيرا: يخرجهم منه.

وفي روضة الكافي: بإسناده إلى أبي عبد الله، حديث طويل يقول فيه (عليه السلام): واعلم أن المنكرين هم المكذبون وأن المكذبين هم المنافقون وأن الله قال للمنافقين - وقوله الحق - " ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا " (7).

﴿إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (147) * لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149)﴾

إلا الذين تابوا: عن النفاق.

وأصلحوا: ما أفسدوا من إصرارهم وأحوالهم في حال النفاق.

واعتصموا بالله: وثقوا به وتمسكوا بدينه.

وأخلصوا دينهم لله: لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه.

فأولئك مع المؤمنين: ومن عدادهم في الدارين.

وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما: فيساهمونهم فيه.

ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم: يتشفى به غيظا، أو يدفع به ضررا أو يستجلب به نفعا، سبحانه هو الغني المتعالي عن النفع والضرر.

وإنما يعاقب المصر على كفره، لان إصراره عليه كسوء مزاج يؤدي إلى مرض، فإذا زال بالايمان والشكر، ونقى نفسه عنه، تخلص من تبعته.

وإنما قدم الشكر، لان الناظر يدرك النعمة أولا، فيشكر شكرا مبهما، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به.

وكان الله شاكرا: مثيبا يقبل القليل ويعطي الجزيل.

عليما: بحق شكركم وإيمانكم.

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم: إلا جهر عن ظلم، بالدعاء على الظالم أو التظلم منه.

في مجمع البيان: المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): لا يحب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين (8).

وروى عن أبي عبد الله (عليه السلام): إنه الضيف ينزل الرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه أن يذكره بسوء ما فعله (9).

وفي تفسير العياشي عنه (عليه السلام) في هذه الآية: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم، فهي ممن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه (10).

وعنه (عليه السلام): الجهر بالسوء من القول، أن يذكر الرجل بما فيه (11).

وفي تفسير علي بن إبراهيم بعد ما يقرب مما ذكر في المجمع أولا: وفي حديث آخر في تفسير هذا إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذبه فقد ظلمك (12).

وقرئ " إلا من ظلم " على النباء للفاعل، فيكون الاستثناء منقطعا، أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله.

وكان الله سميعا: لما يجهر به من سوء القول.

عليما: بصدق الصادق وكذب الكاذب، فيجازي كلا بعمله.

إن تبدوا خيرا: طاعة وبرا.

أو تخفوه: تفعلوه سرا.

أو تعفوا عن سوء: لكم المؤاخذة عليه، وهو المقصود.

وذكر إبداء الخير ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150)﴾

وإخفائه تشبيب له ولذلك رتب عليه قوله: فإن الله كان عفوا قديرا: أي يكثر العفو عن العصاة، مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم لعدم كمال قدرتكم أولى بذلك، وهو حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتصار حملا على مكارم الأخلاق.

وفي تقديم العفو على القدير إشارة لطيفة إلى أن العافي من كمال عفوه، أن لا يشعر بقدرته حين العفو، ليتم إحسانه بالنسبة إلى المعفو عنه، ولا يصير كا لمن بعد الصدقة.

إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله: بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله.

ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض: نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، كما فعلته اليهود صدقوا بموسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمدا (صلوات الله عليهما)، وكما فعلت النصارى صدقوا عيسى ومن تقدمه، وكذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، هكذا قيل (13).

والأولى أن يفسر التفريق بالايمان بالله والايمان بالرسل، أو ببعضهم، ويجعل قوله: " ويقولون " بيانا للتفريق، ليناسبه قوله: ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا: طريقا وسطا بين الايمان والكفر، ﴿أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)﴾

ولا واسطة، إذ الحق لا يختلف، فإن الايمان بالله إنما يتم بالايمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلا وإجمالا، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال، كما قال: أولئك هم الكافرون: أي الكاملون في الكفر، لا عبرة بإيمانهم هذا.

حقا: مصدر مؤكد لغيره، أو صفة لمصدر الكافرين، يعني هم الذين كفروا كفرا حقا، أي يقينا محققا.

وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا: يهينهم ويذلهم.

وفي تفسير علي بن إبراهيم: قال: هم الذين أقروا برسول الله وأنكروا أمير المؤمنين (عليهما السلام) (14)، ومعناه: أن ذلك كفر ببعض الرسل، أي بما جاء به من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك الذين أقروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأمير المؤمنين وأنكروا ما قرراه من الشرع الظاهر وآمنوا بأمر آخر سموه باطنا، وسموا الايمان به إيمانا حقيقيا.

والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم: وآمنوا بجميعهم وجميع ما جاؤوا به.

وإنما دخل " بين " على " أحد " وهو يقتضي متعددا، لعمومه، من حيث أنه وقع في سياق النفي.

1- وفي الحديث: عليكم بالتحامي فإن الحرب سجال، أي مرة علينا، ومثله في خبر أبي سفيان وهر قل، والحرب بيننا سجال (مجمع البحرين: ج 5 س 393 لغة سجل).

2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 203 ب 46 ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في وجه دلائل الأئمة والرد على الغلاة والمفوضة لعنهم الله ح 5.

3- الكافي: ج 5 ص 85 كتاب المعيشة، باب كراهية الكسل ح 2.

4- الكافي: ج 5 ص 85 كتاب المعيشة، باب كراهية الكسل ح 3.

5- الكافي: ج 5 ص 86 كتاب المعيشة، باب كراهية الكسل ح 8.

6- من قوله (والمراءاة) إلى هنا مقتبس من تفسير البيضاوي: ج 1 ص 251، لاحظ تفسيره لآية 142 من سورة النساء.

7- الخصال: ص 121، باب الثلاثة العلامات الثلاث، قطعة من ح 113 بتقديم وتأخير بعض الجملات.

.

8- الخصال: ص 227، باب الأربعة أربع خصال يفسدن القلب وينبتن النفاق ح 63.

9- علل الشرائع: ج 2 ص 358 ب 74 علة الاقبال على الصلاة وعلة النهي عن التكفير وعلة النهي عن القيام إلى الصلاة على غير سكون ووقار، قطعة من ح 1.

10- معاني الأخبار: ص 142 باب معنى المنافق، ح 1.

11- الكافي: ج 2 ص 501 كتاب الدعاء، باب ذكر الله (عز وجل) في السر، ح 2.

12- الكافي: ج 2 ص 396 كتاب الايمان والكفر باب صفة النفاق والمنافق ح 3.

13- الكافي: ج 2 ص 396 كتاب الايمان والكفر، باب صفة النفاق والمنافق ح 5.

14- نقل القراءات المذكورة البيضاوي في تفسيره: ج 1 ص 251 لاحظ تفسيره لآية 143 من سورة النساء.