الآية 38 - 49

﴿هنا لك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39)﴾

هنا لك دعا زكريا ربه: في ذلك المكان أو في ذلك الوقت.

وهنا، وثم، وحيث، تستعار للزمان.

لما رأى كرامة مريم ومنزلتها من الله، أو لما رأى الفواكه في غير أوانها تنبه لجواز ولادة العاقر من الشيخ، فسأل ربه.

قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة: كما وهبتها لحنة العجوز العاقر.

إنك سميع الدعاء: مجيبه.

وفي عيون الأخبار: بإسناده إلى الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) في أول يوم من المحرم فقال: يا بن شبيب أصائم أنت؟فقلت: لا، فقال: إن هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا (عليه السلام) ربه عز وجل، فقال: " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " فاستجاب الله له، وأمر الملائكة فنادت زكريا " وهو قائم يصلي في المحراب أن اله يبشرك بيحيى مصدقا " فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله تعالى استجاب الله تعالى له، كما استجاب لزكريا (عليه السلام) (1).

وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن رجل عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من أراد أن يحبل له، فليصل ركعتين بعد الجمعة يطيل فيهما الركوع والسجود، ثم يقول: اللهم إني أسألك بما سألك به زكريا (عليه السلام)، إذا قال: " رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " (2) هب لي ذرية طيبة انك سميع الدعاء، اللهم باسمك استحللتها وفي أمانتك اخذتها، فإن قضيت في رحمها ولدا، فاجعله غلاما ولا تجعل للشيطان فيه نصيبا، ولا شركا (3).

وفي مجمع البيان: روى الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني من أهل بيت قد انقرضوا وليس لي ولد، فقال ادع الله وأنت ساجد " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " قال: فقلت: فولد علي والحسين (4).

فنادته الملائكة: أي من جنسهم، كقولهم: زيد يركب الخيل، فإن المنادى ملك، وقرأ حمزة والكسائي: فنادته بالإمالة والتذكير.

وهو قائم يصلي في المحراب: أي قائما في الصلاة، " يصلي " صفة " قائم "، أو خبر آخر، أو حال أخرى، أو حال عن الضمير في قائم.

وفي من لا يحضره الفقيه: وقال الصادق (عليه السلام): إن طاعة الله عز وجل خدمته في الأرض، وليس شئ من خدمته يعدل الصلاة، فمن ثم نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب (5).

أن الله يبشرك بيحيى: أي بأن الله.

وقرأ نافع وحمزة وابن عامر بالكسر على إرادة القول، أو لان النداء نوع منه.

وقرأ حمزة والكسائي يبشرك من الابشار، ويحيى أعجمي، وإن جعل عربيا، فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل.

مصدقا: حال من (يحيى).

بكلمة من الله: أي بعيسى، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى من دون أب، أو كتاب الله، سمي بها تسميته للكل باسم جزئه.

وسيدا: يسود قومه ويفوقهم بالعصمة، لأنه كان نبيا.

وحصورا: مبالغا في حبس النفس عن الشهوات والملاهي.

ونقل: أنه مر بصبيان فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خلقت (6).

وفي مجمع البيان: حصورا لا يأتي النساء، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (7).

ونبيا من الصالحين: ناشئا منهم، أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة.

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة: بإسناده إلى محمد بن إسماعيل القرشي، عمن حدثه، عن إسماعيل بن أبي رافع، عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وقد ذكر عيسى بن مريم (عليهما السلام) -: فلما أراد الله أن يرفعه أوحى إليه أن استودع نور الله وحكمته وعلم كتابه شمعون بن حمون الصفا، خليفته على المؤمنين، ففعل ذلك، فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر الله عز وجل ويهتدي بجميع مقال عيسى (عليه السلام) في قومه من بني إسرائيل ويجاهد الكفار، فمن أطاعه وآمن به وبما جاء به كان مؤمنا، ومن جحده وعصاه كان كافرا حتى استخلص ربنا تبارك وتعالى وبعث في عاده نبيا من الصالحين وهو يحيى بن زكريا، فمضى شمعون وملك عند ذلك أرد شير بن بابكان أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي ثماني سنين من ملكه قتلت اليهود يحيى بن زكريا (عليه السلام) فلما ﴿قال رب أنى يكون لي غلم وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والأبكار (41)﴾

أراد الله عز وجل أن يقبضه أوحى إليه أن يجعل الوصية في ولد شمعون ويأمر الحواريين وأصحاب عيسى بالقيام معه، ففعل ذلك، وعندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتى قتله الله، وعلم الله ونوره وتفصيل حكمته في ذرية يعقوب ابن شمعون ومعه الحواريون من أصحاب عيسى (عليه السلام)، وعند ذلك ملك بختنصر مائة سنة وسبعا وثمانين سنة، وقتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريا، وخرب بيت المقدس، وتفرقت اليهود في البلدان (8).

قال رب أنى يكون لي غلم: استبعادا من حيث العادة، أو استعظاما وتعجبا، أو استفهاما عن كيفية حدوثه.

وقد بلغني الكبر: أدركني كبر السن.

قال البيضاوي: وكان له تسع وتسعون سنة، ولا مرأته ثمان وتسعون (9).

وامر أتى عاقر: لا تلد، من العقر وهو القطع، لأنها ذات عقر من الأولاد.

قال كذلك الله يفعل ما يشاء: " كذلك الله " مبتدأ مؤخر وخبر مقدم للقرينة أي الله على مثل هذه الصفة.

و " يفعل ما يشاء " بيان له، أي ما يشاء من العجائب، وهو انشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر.

و " كذلك " خبر مبتدأ محذوف، أي الامر كذلك.

و " الله يفعل ما يشاء " جملة أخرى لبيان أنه يفعل ما يريده من العجائب، أي أنت وزوجك كبير وعاقر، والله يفعل ما يشاء من خلق الولد.

ويحتمل أن يكون " كذلك " مفعولا مطلقا ل? " يفعل " ويكون ذلك إشارة إلى ما تعجب منه، أي الله يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل، أي إنشاء الولد من الفاني والعاقر، أو إشارة إلى ما بينه من حالتهما، أي الذي يفعل ما يشاء من خلق الولد كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر.

قال رب اجعل لي آية: علامة أعلم بها أن ذلك الصوت من الله، ويكون عبادة يتدارك بها ما دخله من تلك الهبة، وذلك لأنه إذا جعل له آية وأوحى إليه الآية من الله عبادة وشكرا للموهبة يعلم أن صوت الملائكة بأمر الله ووحيه، ويخضع لله تعالى شكرا لنعمه.

وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله، فأوحى إليه أن آية ذلك يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام.

قال: فلما أمسك لسانه ولم يتكلم، علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله، وذلك قول الله: " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " (10).

وعن حماد، عمن حدثه، عن أحدهما (عليه السلام) قال: لما سأل ربه أن يهب له ذكرا فوهب له يحيى، فدخله من ذلك، فقال: " رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " فكان يومى برأسه، وهو الرمز (11).

قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام: أي الله أوحى إليه أن آيتك وعبادتك ألا تكلم الناس في ثلاثة أيام وتخلص المدة لذكر الله شكره قضاء لحق النعمة.

إلا رمزا: إشارة برأسك، وأصله التحرك، ومنه الراموز للبحر، والاستثناء منقطع، وقيل: متصل، والمراد بالكلام ما دل على الضمير.

هذا إذا قرأ (يمسك) في الخبر الأول على البناء للفاعل وإرجاع ضميره إلى زكريا.

وأما إذا قرأ على البناء للمفعول، أو يجعل فاعل الامساك هو الله سبحانه، فالحل ما نقله البيضاوي من أن المعنى: " اجعل لي آية " علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار، " قال " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا (12).

وقرئ رمز كخدم جمع رامز، ورمز كرسل جمع ورمز كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله: متى ما تلقني فردين ترجف * روانف أليتيك وتستطار (13) واذكر ربك كثيرا: في أيام الامساك عن الكلام مع الناس، وهو مؤكد لما قبله، مبين للغرض منه.

قال البيضاوي: وتقييد الامر بالكثير، يدل على أنه ليس للتكرار (14).

وفيه أنه لعل التقييد لتأكيد ما يفيده الامر، فلا يدل على المدعي.

وسبح بالعشي: من الزوال إلى الغروب، وقيل: من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل.

والابكار: من طلوع الفجر إلى الضحى.

وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار.

﴿وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)﴾

وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين: قال البيضاوي: كلموها شفاها كرامة لها، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كان معجزة لزكريا، أو أرهاصا لنبوة عيسى (عليه السلام) فإن الاجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة لقوله: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا " (15) وقيل: ألهموها انتهى (16).

ويمكن أن يقال من قبل منكر الكرامة: لا يكون الكرامة لمن لم يكن فيه نص بالكرامة، وأما من حصل له التخصيص بالتنصيص كمريم وفاطمة (صلوات الله عليهما) فهو بمنزلة الاستثناء والمقصود أنه لا يجوز الكرامة لمن سواه كوقوع المعجزة للأنبياء والأئمة فإنهم يتخصصون بها، ولا يلزم من وقوع شئ لاحد جواز وقوعه لكل أحد شرعا وإن لم يمتنع عليه عقلا، والمجوز وقوعه لكل أحمد بوقوعه لبعض، التبس عليه معنى الجواز فتبصر.

قيل: الاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة، وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب، والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها، وتخصيصها بالكرامات السنية كالولد من غير أب وتبرئتها عما قذفته اليهود بإنطاق الطفل، وجعلها وابنها آية للعالمين (17).

والأظهر أن الاصطفاء الأول، اصطفاءها من ذرية الأنبياء، والثاني اصطفاءها لولادة عيسى (عليه السلام) من غير فحل وتطهيرها، طهرها من أن بكون في آبائها وأمهاتها وفي نفسها سفاح.

و قيل: وتطهيرها مما يستقذر من النساء.

وينافيه ظاهر ما سبق في الخبر من قوله: فلما بلغت ما يبلغ النساء من الطمث.

وأما ما رواه العياشي في تفسيره عن الحكم بن عيينة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله في الكتاب: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " اصطفاها مرتين، والاصطفاء إنما هو مرة واحدة، قال: فقال: يا حكم إن لهذا تأويلا وتفسيرا، فقلت له: ففسره لنا أبقاك الله، فقال: يعني اصطفاءه إياها أولا من ذرية الأنبياء المصطفين المرسلين، وطهرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمهاتها سفاحا، واصطفاها بهذا في القرآن " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " شكرا لله (18).

فالظاهر أن السائل قد خفي عليه الاصطفاء الأول، وانحصر الاصطفاء عنده في الثاني، وسأل فبينه (عليه السلام) له وسكت عن الثاني لظهوره عنده.

وفي مجمع البيان: و " واصطفاك على نساء العالمين " أي على نساء عالمي زمانك، لان فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيدة نساء العالمين، وهو قول أبي جعفر (عليه السلام).

وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين، وقال أبو جعفر (عليه السلام) معنى الآية: واصطفاك من ذرية الأنبياء وطهرك من الفساح واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل وزوج (19).

يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين: قيل أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب، أو ليقترن " اركعي " بالراكعين، للايذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين (20).

وقيل: يحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع (21).

وقيل: المراد بالقنوت إدامة إطاعة، كقوله: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما (22)، وبالسجود الصلاة كقوله: وادبار السجود (23) وبالركوع الخشوع والاخبات (24).

وفى كتاب علل الشرائع: بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إنما سميت فاطمة (عليها السلام) محدثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين (25).

وفي أصول الكافي: بإسناده إلى علي بن محمد الهرمزي عن أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: لما قبضت فاطمة (عليها السلام) دفنها أمير المؤمنين (عليه السلام) سرا وعفا على موضع قبرها ثم قال: فحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي (26).

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي نهج البلاغة: من كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية جوابا: ومنا خير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب (27).

وفي من لا يحضره الفقيه: روى المعلى بن محمد البصري، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله بن الحكم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن عليا وصيي.

خليفتي، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي (28)، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي أمالي الصدوق (رحمه الله): باسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أيما امرأة صلت في اليوم والليلة خمس صلوات وصامت شهر رمضان وحجت بيت الله الحرام وزكت مالها وأطاعت زوجها ووالت عليا دخلت الجنة بشفاعة ابنتي فاطمة، وأنها سيدة نساء العالمين، فقيل له: يا رسول الله أهي سيدة نساء عالمها؟فقال (عليه السلام): : ذاك لمريم بنت عمران، وأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين وينادونها بما نادت به الملائكة مريم، فيقولون: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (29)، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وبإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبة: أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه عني، فإن الفراق قريب، أنا إمام البرية ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)﴾

ووصي خير الخليقة وزوج سيدة نساء هذه الأمة (30).

ذلك: أي ما ذكرنا من قصص زكريا ويحيى ومريم.

من أنباء الغيب نوحيه إليك: من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي.

وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم: قيل: أقداحهم للاقتراع في نهر أردن.

وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة تبركا (31).

والمراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكم بمنكريه، فإن طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع، وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم، فبقي أن يكون الابهام باحتمال العيان، ولا يظن به عاقل.

ليعلموا.

أيهم يكفل مريم: معمول لما دل عليه " يلقون أقلامهم ".

وفي كتاب الخصال: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله تعالى: " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " والسهام ستة (32).

وفي من لا يحضره الفقيه مثله (33).

وما كنت لديهم إذ يختصمون: تنافسا في كفالتها.

﴿إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45)﴾

في تفسير علي بن إبراهيم: قال لما ولدت، اختصموا آل عمران فيها، وكلهم قالوا: نحن نكفلها، فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم وخرج سهم زكريا، فكفلها زكريا (34).

وفي تفسير العياشي: عن الحكم بن عيينة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه (عليه السلام): قال لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) يخبره بما غاب عنه من خبر مريم وعيسى، يا محمد " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " في مريم وابنها وبما خصهما منه، وفضلهما وكرمهما حيث قال: " وما كنت لديهم " يا محمد، يعني بذلك رب الملائكة " إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " حين أيتمت من أبيها (35).

وفي رواية أخرى عن ابن أبي خرزاد: " أيهم يكفل مريم " حين أيتمت من أبيها " وما كنت لديهم " يا محمد إذ يختصمون في مريم عند ولادتها بعيسى بن مريم أيهم يكفلها ويكفل ولدها، قال له: أبقاك الله فمن كفلها؟فقال: أما تسمع لقوله الآية (36).

إذ قالت الملائكة: بدل من " إذ قالت " الأولى، أو من " إذ يختصمون " بناء على أن الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك: لقيته سنة كذا.

يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم: المسيح لقبه، من الألقاب المادحة، وأصله مشيحا بالعبرانية، ومعناه: المبارك كقوله: " وجعلني مباركا " (37) وعيسى معرب اليسوع، ومشتقهما من المسح، لأنه مسح بالبركة، أو بما طهره من الذنوب، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو مسحه جبرائيل، ومن العيس، وهو بياض يعلوه حمرة كالراقم على الماء.

فإن قلت: لم قيل: اسمه المسيح عيسى بن مريم، وهذه ثلاثة أشياء، الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة.

قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها، ويتميز بها عن غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه.

مجموع هذه الثلاثة.

ويحتمل أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف، وابن مريم صفته.

وأن يكون كل من الثلاثة اسما، بمعنى أن كلا منها يميز تمييز الأسماء، ولا ينافي تعدد الخبر أفراد المبتدأ، فإنه اسم جنس مضاف.

وانما قيل: ابن مريم، والخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب، إذ الأولاد تنسب إلى الآباء، ولا تنسب إلى الام إلا إذا فقد الأب.

وجيها في الدنيا: حال مقدرة من " كلمة " الموصوفة بقوله " منه " والتذكير للمعنى، ووجاهته في الدنيا بالنبوة.

والآخرة: بالشفاعة.

ومن المقربين: من الله، وقيل: إشارة إلى علو درجته في الجنة، وقيل: إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة.

* * * ﴿ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتب والحكمة و التورة والإنجيل (48)﴾

ويكلم الناس في المهد وكهلا: أي حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت.

وفي أصول الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد عيسى، عن ابن محبوب عن هشام بن سالم، عن يزيد الكناسي، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) أكان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟فقال: كان يومئذ نبيا حجة الله غير مرسل (38)، أما تسمع لقوله حين قال: " أني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " (39).

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

والمهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي من مضجعه.

والكهل من وخطه الشيب ورأيت له بجالة (40).

ولذا قيل: والمراد " وكهلا " بعد نزوله، لأنه رفع شابا.

وذكر أحواله المختلفة المتنافية، إشارة إلى أنه ممكن، ليس بإله.

ومن الصالحين: حال ثالث من " كلمة " أو ضميرها الذي في " يكلم ".

قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر: تعجب، وقيل: استبعاد عادي، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره.

قال: جبرائيل، أو الله و جبرائيل حكى لها قوله تعالى: كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون: أي كما يقدر أن يخلق الأشياء بأسباب ومواد متدرجا يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.

ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: أما كلام مبتدأ ذكر تطييبا لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم على أنها تلد من غير زوج، أو عطف على " يبشرك " أو " وجيها ".

و " الكتاب " الكتبة، أو جنس الكتب المنزلة.

وتخصيص الكتابين لفضلهما.

وقرأ عاصم ونافع بالياء.

* * * ﴿ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين (49)﴾

ورسولا إلا بني إسرائيل: منصوب بمقدر على إرادة القول، والتقدير ويقول: أرسلت رسولا، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة.

وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته، أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم.

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة: بإسناده إلى محمد بن الفضل، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) في حديث طويل يقول فيه: ثم إن الله عز وجل أرسل عيسى (عليه السلام) إلى بني إسرائيل خاصة، وكانت نبوته ببيت المقدس (41).

أنى قد جئتكم بآية من ربكم: متعلق برسولا على تصمين معنى النطق، أي ناطقا بأني إلى آخره، والآية ما يذكر بعده وهو: أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير: نصب بدل من " أني " أو جر بدل من " آية " أو رفع على هي أني، والمعنى: أقدر وأصور لكم مثل صورة الطير.

فأنفخ فيه: الضمير للكاف، أو في ذلك المثل.

فيكون طيرا: فيصير طيارا.

بإذن الله: بأمره، ونبه به على أن إحياءه من الله لا منه.

و قرأ نافع هنا وفي المائدة طائرا بألف وهمزة.

وفي كتاب الخصال: عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله: أخبرني عن ستة لم يركضوا في رحم؟فقال: آدم، وحواء، وكبش إسماعيل، وعصا موسى، وناقة صالح، والخفاش الذي عمله عيسى ابن مريم فطار بإذن الله (42) وأبرئ الأكمه: الذي ولد أعمى والممسوح العين.

والأبرص: الذي به البرص.

نقل أنه ربما يجتمع عليه ألوف من المرضى، من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى، وما يداوى إلا بالدعاء (43).

وأحى الموتى بإذن الله: كرره لدفع توهم الألوهية، فإن الاحياء ليس من جنس الافعال البشرية.

وفي عيون الأخبار: بإسناده إلى أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصى وآلة السحر، وبعث عيسى بالطب، وبعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالكلام والخطب فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تعالى لما بعث موسى - إلى أن قال - وإن الله تعالى بعث عيسى (عليه السلام) في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، وإنما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى وأثبت به الحجة عليهم (44).

وفي روضة الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن ابن محبوب، عن أبي جميلة، عن أبان بن تغلب وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيى أحدا بعد موته حتى كان له أكل ورزق ومدة وولد؟فقال: نعم، إنه كان له صديق مواخ له في الله تعالى وكان عيسى (عليه السلام) يمر به وينزل عليه، وإن عيسى (عليه السلام) غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت إليه أمه فسألها عنه؟فقالت: مات يا رسول الله، قال أتحبين أن تريه؟قالت: نعم، فقال لها: فإذا كان غدا فأتيك حتى أحييه لك بإذن الله تبارك وتعالى، فلما كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره، فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عيسى (عليه السلام) ثم دعا الله عز وجل فانفرج القبر وخرج ابنها حيا، فلما رأته أمه ورآها بكيا فرحمهما عيسى (عليه السلام) فقال عيسى: أتحب أن تبقى مع أمك في الدنيا؟فقال له: يا نبي الله بأكل ورزق ومدة، أم بغير أكل و لا رزق و لا مدة؟فقال له عيسى (عليه السلام): بأكل ورزق ومدة، تعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك، قال: نعم إذا، قال: فدفعه عيسى إلى أمه فعاش عشرين سنة وولد له (45).

وفي الكافي: علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن الحكم، عن ربيع ابن محمد، عن عبد الله بن سليم العامري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريا (عليهما السلام) وكان سأل ربه أن يحييه له، فدعاه فأجابه وخرج إليه من القبر فقال له: ما تريد مني؟فقال له: أريد أن تؤنسني كما كنت في الدنيا، فقال له: يا عيسى ما سكنت عني حرارة الموت وأنت تريد أن تعيدني إلى الدنيا وتعود علي حرارة الموت.

فتركه فعاد إلى قبره (46).

وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها.

وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثنا أحمد بن محمد الهمداني، قال: حدثني جعفر ابن عبد الله، قال: حدثنا كثير بن عياش، عن زياد بن المنذر، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) في قوله: " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون " فإن عيسى (عليه السلام) كان يقول لبني إسرائيل: إني رسول الله إليكم و " إني اخلق لكمن من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وابرأ الأكمه والأبرص " والأكمه هو الأعمى، قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا، فأرنا آية نعلم أنك صادق؟قال: أنك صادق؟قال: أرأيتكم إن أخبرتكم " بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا، وما ادخرتم بالليل، تعلمون اني صادق؟قالوا: نعم، فكان يقول للرجل : أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من يكفر، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين (47).

إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين: موفقين للايمان، فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات، أو مصدقين بالحق غير معاندين.

وفي كتاب الإحتجاج للطبرسي (رحمه الله): روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي (عليهم السلام) أنه قال: أن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم قال لعلي (عليه السلام) في أثناء كلام طويل: فإن هذا عيسى بن مريم يزعمون أنه تكلم في المهد صبيا، قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) سقط من بطن أمه واضعا يده اليسرى على الأرض ورافعا يده اليمنى إلى السماء يحرك شفتيه بالتوحيد، وبدا من فيه نور رأي أهل مكة قصور بصرى من الشام وما يليها، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من إصطخر وما يليها، ولقد أضاءت الدنيا ليلة ولد النبي (صلى الله عليه وآله) حتى فزعت الجن والإنس والشياطين وقالوا: حدث في الأرض حدث.

قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه خلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فكان طيرا بإذن الله عز وجل.

فقال له علي: لقد كان كذلك ومحمد (صلى الله عليه وآله) قد فعل ما هو شبيه بهذا، إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا، ثم قال للحجر: انفلق، فانفلق ثلاث فلق يسمع لكل فلقة منها تسبيحا لا يسمع للأخرى، ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته، ولكل غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس، ثم قال لها: انشقي، فانشقت نصفين ثم قال لها: التزقي فالتزقت، ثم قال لها: اشهدي لي بالنبوة، فشهدت.

ثم قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى.

فقال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك ومحمد (صلى الله عليه وآله) أعطي ما هو أفضل ﴿من ذلك﴾

، أبرأ ذا العاهة من عاهته، فبينما هو جالس (عليه السلام) إذ سأل عن رجل من أصحابه؟فقالوا: يا رسول الله إنه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ الذي لا ريش عليه، فأتاه (عليه السلام) فإذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء فقال له: قد كنت تدعو في صحتك دعاء؟قال: نعم، كنت أقول: يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فعجلها لي في الدنيا، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ألا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

فقالها: فكأنما نشط من عقال وقام صحيحا وخرج معنا.

وقد أتاه رجل من جهينة أجذم ينقطع من الجذم فشكا إليه (صلى الله عليه وآله) فأخذ قدحا من الماء فتفل فيه، ثم قال: امسح به جسدك، ففعل فبرئ حتى لم يوجد عليه شئ ولقد اتي بأعرابي أبرص فتفل من فيه عليه فما قام من عنده إلا صحيحا.

ولئن زعمت أن عيسى (عليه السلام) أبرأ ذوي العاهات من عاهاتهم فإن محمدا (صلى الله عليه وآله) بينما هو في بعض أصحابه إذ هو بامرأة فقالت: يا رسول الله إن ابني قد أشرف على حياض الموت كلما أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) وقمنا معه فلما أتيناه قال له: جانب يا عدو الله ولي الله، فأنا رسول الله، بجانبه الشيطان فقام صحيحا، وهو معنا في عسكرنا.

ولئن زعمت أن عيسى بن مريم أبرأ العمياء، فإن محمدا (صلى الله عليه وآله) قد فعل ما هو أكبر من ذلك.

إن قتادة بن ربعي كان رجلا صحيحا فلما كان يوم أحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته فأخذها بيده، ثم أتى بها النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال يا رسول الله: إن امرأتي الآن تبغضني، فأخذها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يده ثم وضعها مكانها، فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها على العين الأخرى.

ولقد جرح عبد الله بن عتيك وبانت يده يوم حنين، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليلا فمسح عليه يده فلم يكن تعرف من اليد الأخرى.

ولقد أصاب محمد بن مسلمة يوم كعب بن الأشرف مثل ذلك في عينه ويده فمسحهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يستبينا.

ولقد أصاب عبد الله بن أنيس مثل ذلك في عينه فمسحها فما (48) عرفت من الأخرى.

فهذه كلها دلالة لنبوته (صلى الله عليه وآله).

قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه أحيى الموتى بإذن الله.

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد (صلى الله عليه وآله) سبحت في يده تسع حصيات فسمع نغماتها في جحودها (49) ولا روح فيها لتمام حجة نبوته، ولقد كلمة الموتى من بعد موتهم واستغاثوه مما خافوا تبعته، ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال: ما ههنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان اليهودي، وكان شهيدا.

وإن زعمت أن عيسى كلم الموتى، فلقد كان لمحمد (صلى الله عليه وآله) ما هو أعجب من هذا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل بالطائف وحاصر أهلها بعثوا إليه شاة مسلوخة مطلية بسم، فنطق الذراع منها فقالت: يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومة، فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله (عز ذكره) على المنكرين لنبوته فكيف وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشوي، ولقد كان (صلى الله عليه وآله) يدعو بالشجرة فتجيبه، وتكلمه البهيمة، وتكلمه السباع، وتشهد له بالنبوة ويحذرهم عصيانه، فهذا أكثر مما أعطى عيسى.

قال له اليهودي: إن عيسى تزعمون أنه أنبأ قومه بما تأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

قال له علي (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمد بن (صلى الله عليه وآله) فعل ما هو أكبر من هذا، إن عيسى أنبأ قومه بما يأكلون من وراء الحائط، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أنبأ عن مؤتة وهو عنها غائب ووصف حربهم ومن اشهد (50) منهم وبينه وبينهم مسيرة شهور، وكان يأتيه الرجل يريد أن يسأله عن شئ فيقول (صلى الله عليه وآله): تقول أو أقول؟فيقول: بل قل يا رسول الله، فيقول: جئتني في كذا وكذا حتى فرغ من حاجته، ولقد كان يخبر أهل مكة بأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئا، منها: ما كان بين صفوان بن أمية وبين عمير بن وهب، فقال: جئت في فكاك ابني، فقال له: كذبت، بل قلت لصفوان وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم: والله الموت أهون لنا من البقاء مع ما صنع محمد بنا، وهل حياة بعد أهل القلب؟فقلت أنت: لولا عيالي ودين علي لأرحتك من محمد، فقال صفوان: على أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما يصيبهن من خير أو شر، فقلت أنت: فاكتمها علي وجهزني حتى أذهب فأقتله، فجئت لتقتلني، قال: صدقت يا رسول الله، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأشباه هذا مما لا يحصى (51).

وفي أصول الكافي: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له: وأنت ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟قال: نعم، قلت: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وارث الأنبياء علم كلما علموا؟قال: نعم، قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤوا الأكمه والأبرص؟قال لي: نعم بإذن الله، ثم قال: ادن مني يا أبا محمد فدنوت منه فمسح على وجهي وعلى عيني، فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شئ في البلد، ثم قال لي: أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصا (52)؟قلت: أعود كما كنت.

فمسح على عيني، فعدت كما كنت، فحدثت ابن أبي عمير بهذا، فقال: أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق (53).

وفي كتاب التوحيد: في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع أصحاب الأديان والمقالات، قال الرضا (عليه السلام): لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب فقال: اذهب إلى حبانة (54) فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان ويا فلان ويا فلان يقول لكم محمد قوموا بإذن الله (عز وجل) فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، وأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا، وقالوا: وددنا أنا كنا أدركناه فنؤمن به.

ولقد أبرأ الأكمه والأبرص كلمه البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربا من دون الله (عز وجل) (55).


1- لا يوجد لدينا كتاب الآيات الباهرة، ونقله الشيخ في مصباح الأنوار في الباب الحادي عشر في مناقب الزهراء وفضلها (مخطوط) بحار الأنوار: ج 43 ص 59 تاريخ سيدة النساء، باب 3 مناقبها وبعض أحوالها (عليهما السلام)، ح 51. تفسير فرات بن إبراهيم: ص 21، مع اختلاف يسير فيهما.

2- عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 299 باب 28 فيما جاء عن الإمام علي بن موسى عليهما السلام من الاخبار المتفرقة، قطعة من ح 58.

3- الأنبياء: 89.

4- الكافي: ج 3 ص 482 كتاب الصلاة، باب صلاة من أراد أن يدخل بأهله ومن أراد أن يتزوج ح 3. وأورده أيضا في ج 6 ص 8 كتاب العقيقة، باب الدعاء في طلب الولد ح 3.

5- مجمع البيان: ج 7 - 8 ص 60 في بيان آية 89 من سورة الأنبياء.

6- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 208 باب 30 فضل الصلاة ح 623.

7- أنوار التنزيل: ج 1 ص 159 في تفسير آية 39 من سورة آل عمران.

8- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 438 في بيان معنى آية 39 من سورة آل عمران.

9- كمال الدين وتمام النعمة: ص 225 س 11 الباب الثاني والعشرون اتصال الوصية من لدن آدم، ح 20.

10- أنوار التنزيل: ج 1 ص 159، في تفسير آية 40 من سورة آل عمران.

11- تفسير العياشي: ج 1 ص 172 ح 43.

12- تفسير العياشي: ج 1 ص 172 ح 44.

13- أنوار التنزيل: ج 1 ص 159 في تفسير آية 41 من سورة آل عمران.

14- لعنترة يخاطب عمارة بن زياد العبسي، لما قال لقومه: ليتني لقيته فأرحتكم منه وأعلمتكم أنه عبد. قال متى تلاقني حال كوننا منفردين عن غيرنا، تخف مني فترتعد أطراف أليتيك، فارتعادها كناية عن الخوف، وتستطارا مؤكد بالنون الخفيفة المنقلبة ألفا، والفاعل ضمير المخاطب، كان الخوف يطيره (تلخيص من هامش الكشاف: ج 1 ص 361 في هامش تفسير آية 41 من سورة آل عمران.

15- أنوار التنزيل: ج 1 ص 160 في تفسير آية 41 من سورة آل عمران.

16- يوسف: 109، والنحل: 43.

17- أنوار التنزيل: ج 1 ص 160 في تفسيره لقوله تعالى " وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك " الآية من سورة آل عمران.

18- من قوله: قيل إلى هنا من كلام البيضاوي لاحظ تفسيره للآية السابقة.

19- تفسير العياشي: ج 1 ص 173 قطعة من ح 47.

20- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 440 في بيان معنى آية 42 من سورة آل عمران.

21- أنوار التنزيل: ج 1 ص 160 في تفسيره لقوله تعالى " يا مريم اقنتي.. " من سورة آل عمران.

22- تفسير الكشاف: ج 1 ص 362 في تفسيره لقوله تعالى " واركعي مع الراكعين " من سورة آل عمران.

23- الزمر: 9.

24- ق: 40.

25- أنوار التنزيل: ج 1 ص 160 في تفسيره لقوله تعالى " يا مريم اقنتي.. " من سورة آل عمران.

26- علل الشرائع: ج 1 ص 182 باب 146 العلة التي من أجلها سميت فاطمة محدثة، ح 1.

27- الكافي: ج 1 ص 458 باب مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام)، ح 1.

28- نهج البلاغة: ص 387، رقم (28) ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية جوابا، صبحي الصالح.

29- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 174 كتاب الوصية، باب الوصية من لدن آدم ح 5402. وأيضا أورده في ج 4 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب، ص 420 ح 5920.

30- الأمالي للصدوق: المجلس الثالث والسبعون ص 393 قطعة من ح 18.

31- الأمالي للصدوق: المجلس الثامن والثمانون ص 484 قطعة من ح 9.

32- أنوار التنزيل: ج 1 ص 160 في تفسير آية 44 من سورة آل عمران.

33- الخصال: ص 156 باب الثلاثة، أول من سوهم عليه، قطعة من ح 198.

34- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 51 باب الحكم بالقرعة، قطعة من ح 3388.

35- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1 ص 102 في تفسيره لقوله تعالى " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم "، وفيه: فتكفلها زكريا.

36- تفسير العياشي: ج 1 ص 173 قطعة من ح 47 وفيه: خصهما الله به وفضلهما وأكرمهما.. لرب الملائكة.

37- تفسير العياشي: ج 1 ص 173، ح 48.

38- مريم: 31.

39- قوله (غير مرسل) إذ لم يرسل إليه الإنجيل في تلك الحال ولم يكن مأمورا بأحكامه وتبليغه ولكن كان نبيا عالما بالتوراة تابعا لها، وقال: (إني عبد الله) قدم العبودية على إعطاء الكتاب والنبوة، لتقدمها في الواقع، وليندفع توهم ربوبيته أول مرة، وأراد بالكتاب التوراة. وفي لفظ الماضي حيث قال: (آتاني وجعلني) دلالة واضحة على أنه كان حين التكلم نبيا عالما بالتوراة. ولو أريد بالكتاب الإنجيل كما زعم، لاشكل، لأنه إن أعطي الإنجيل كما جعل نبيا في ذلك الوقت لكان رسولا، فلا يوافق قوله (غير مرسل) اللهم إلا أن يحمل قوله (أتاني الكتاب) على مجاز المشارفة، أو على أن محقق الوقوع كالواقع، أو على القضاء السابق بقرينة عدم إرسال الإنجيل إليه في ذلك ولا يلزم منه أن يحمل قوله (وجعلني نبيا) على هذه الأمور، لعدم وجود قرينة صارفة له عن ظاهره، وبالجملة حمل أحد اللفظين المتجاورين على المجاز لقرينة، لا يوجب حمل الآخر عليه مع عدمها (شرح أصول الكافي للمازندراني: ج 6 ص 348).

40- الكافي: ج 1 ص 382 كتاب الحجة باب حالات الأئمة في السن قطعة من ح 1.

41- الكهل: الرجل إذ وخطه الشيب ورأيت له بجالة، وفي الصحاح الكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب (لسان العرب: ج 11 حرف اللام - لغة كهل).

42- كتاب كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص 220 باب 22 اتصال الوصية من لدن آدم وأن الأرض لا تخلو من حجة.. قطعة من ح 2.

.

43- الخصال: ص 322 باب الستة (ستة لم يركضوا في رحم) ح 8.

44- رواه البيضاوي: ج 1 ص 161 عند تفسيره لقوله تعالى " وابرء الأكمه والأبرص " الآية. وفي الدر المنثور ج 2 ص 32 ما لفظه (وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا). وفي انكشاف: ج 1 ص 364 أيضا مثله، وفي مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 445، أيضا مثله.

45- عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 78 باب 32 في ذكر ما جاء عن الرضا من العلل، ح 12.

46- الكافي: ج 8 ص 337، حديث الذي أحياه عيسى ح 532.

47- الكافي: ج 3 ص 260 كتاب الجنائز، باب النوادر ح 37.

48- تفسير علي بن إبراهيم: ج 1 ص 102 في تفسيره لقوله تعالى " إني أخلق لكم من الطين " الآية.

49- في النسخة - أ -: (ما) والصحيح ما أثبتناه.

50- كذا في النسخة - أ -: وفي المصدر جمودها.

51- كذا في نسخة - أ - والصحيح: استشهد.

52- الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 223 س 14، احتجاجه (عليه السلام) على اليهود من أخبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) وكثير من فضائله مع تقديم وتأخير وحذف وإسقاط لبعض الجمل.

53- دل على أن ذا البلية لا يحاسب ويغفر له ما لا يغفر لغيره (شرح الأصول للمازندراني: ج 7 ص 237.

54- الكافي: ج 1 ص 391 كتاب الحجة، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي، ح 3.

55- كذا في نسخة - 1 - والصحيح جبانة والجبانة الصحراء وتسمى بها المقابر، لأنها تكون في الصحراء تشبيه للشئ بموضعه، ومنه الحديث: إنما الصلاة يوم العيد على من خرج إلى الجبانة، والجبان بدون الهاء الصحراء أيضا كالجبانة ومنه حديث المباهلة: وأبرز أنت وهو إلى الجبان (مجمع البحرين، لغة جبن).