طعام أو إطعام

وأما لماذا قال: "على طعام" ولم يقل: "على إطعام المسكين"؟ فالجواب: هو أن هذا الإنسان الذي عبّر عنه القرآن هنا بالمسكين؛ قد انتهى به الفقر إلى درجة أنه أسكنه عن الحركة، وأذلّه. وقد قرر الله له في أموال الناس حقًا معلومًا، للسائل والمحروم. وهذا المسكين هو أصدق وأظهر المصاديق لذلك القرار الإلهي، فلماذا لا يأخذ أمواله التي جعلها الله له؟

إذن فقول الله تعالى ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (الماعون/3) ولم يقل: "على إطعام المسكين" ليعرفنا أن هذا الطعام هو طعامه، قد ملكّه الله إيّاه، فهو دين له عندنا، فإذا أخذه فإنه قد أخذ ماله، ولم يأخذ مال أحد من الناس.

ولو أنه عبّر بإطعام لم يدل ذلك على أن الطعام له، فلعل الطعام للناس، ونحن نطلب منهم أن يبذلوه له، على سبيل الهدية أو الصدقة الحسنة منهم، انطلاقًا من كرم أخلاقهم، وإذا كان هذا الطعام ملكًا للمسكين، فلا يحق لأحد أن يمتنّ به عليه، ولا حتى أن ينتظر منه الجزاء، أو الشكر عليه، فهل يصح الامتنان على الإنسان بما هوله؟

وبعد ما تقدّم نقول:

أي قلب قاس، هذا الذي لدى إنسان ليس على استعداد حتى لأن يحض غيره على طعام هو ملك وحق للمسكين نفسه، أي على أن يبذلوه له. ولعله لم يورد كلمة "بذل" وأوقع الحث على الطعام مباشرة من أجل الإشارة إلى لزوم التسريع في البذل والإيصال المباشر إليه لمسيس حاجته إلى هذا الطعام. فلا مجال للتأخير، ولا لأن يفصله عنه زمان حتى ولو زمان تلفظ بكلمة واحدة هي كلمة "بذل". ولذلك قال: ولا يحض على طعام ولم يقل على بذل طعام.

وبعد ما تقدّم نقول:

إذا كان حال المسكين هو هذا، فأي قلب لدى هذا الإنسان الذي ليس على استعداد حتى لأن يحث غيره على إعطاء الحق إلى صاحبه، رغم أن الحق هو من جنس الطعام الذي به قوام الحياة، ورغم أن صاحب الحق هو إنسان قد بلغ به الفقر حدًا أسكنه عن الحركة، وأخمد نبضات الحياة فيه.

نعم.. لقد بلغت الصلافة والقسوة بهذا المكذب بالدين حدًا خطيرًا. ومرعبًا. فلن تجد لديه أي أثر للمشاعر الإنسانية وللأخلاق النبيلة، ويكفيك شاهدًا على ذلك، أنه ليس على استعداد لأن يتفوّه ولو بكلمة واحدة تحثّ غيره على إيصال مال الناس إليهم، حتى ولو كان صاحب المال مسكينًا، وكان ماله من جنس الطعام. فهل يمكن والحال هذه أن نتوقّع منه أن يسخو بمال نفسه على أي إنسان آخر؟ مهما كانت حالة ذلك الإنسان بالغة السوء والهوان؟