الآية 211 - 220

﴿سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (211) زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة والله يرزق من يشاء بغير حساب (212)﴾

وقضي الامر وإلى الله ترجع الأمور، ثم يأمر الله مناديا ينادي " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " (1) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

سل بني إسرائيل: أمر للرسول، أو لكل أحد، والمراد بهذا السؤال تقريعهم.

كم آتيناهم من آية بينة: معجزة ظاهرة، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب، على أيدي الأنبياء، و " كم " خبرية، أو استفهامية مقررة، ومحلها النصب على المفعولية، أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر، وانه مميزها، و " من " للفصل.

ومن يبدل نعمة الله: أي آياته فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم بجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس، أو بالتحريف والتأويل الزائغ، ومن جملة نعم الله العظمى ولاية أمير المؤمنين والأئمة الأوصياء من بعده.

من بعد ما جاءته: من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها.

فإن الله شديد العقاب: فيعاقبه أشد عقوبة، لأنه ارتكب أشد جريمة.

وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين بولاية الشياطين على ملك سليمان.

ويقرء أيضا: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فمنهم من آمن ومنهم من جحد، ومنهم من أقر ومنهم من بدل، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (2).

زين للذين كفروا الحياة الدنيا: حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها، وفي وصفهم بالكفر إشعار بأن لذلك الوصف دخلا في التزيين، وهو كذلك، لأنهم بسبب رين الكفر وقساوته صارت طبايعهم أميل إلى ما تشتهيه القوة الحيوانية وغفلوا عن المثوبات الأخروية.

ويسخرون من الذين آمنوا: يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب، أي يسترذلونهم، أو يستهزؤن بهم على رفضهم الدنيا واقبالهم على العقبى.

و " من " للابتداء، كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم.

والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة: لأنهم في أعلى عليين، وهم في أسفل السافلين، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا.

وإنما قال: " والذين اتقوا " بعد قوله: " والذين آمنوا " ليدل على أنهم متقون، وأن استعلامهم للتقوى.

والله يرزق من يشاء: في الدارين.

بغير حساب: بغير تقدير، فيوسع في الدنيا استدراجا تارة، وابتلاء أخرى.

﴿كان الناس أمة وحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم (213)﴾

كان الناس أمة وحدة: كلهم ضلالا قبل نوح.

فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين: عن كعب: الذي علمته من عدد الأنبياء، مائة وأربعة وعشرون ألفا، والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون (3).

وأنزل معهم الكتب: يريد به الجنس، ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم وإنما يأخذون بكتاب من قبلهم.

بالحق: حال من الكتاب، أي متلبسا بالحق شاهرا به.

ليحكم بين الناس: أي الله، أو النبي المبعوث، أو الكتاب.

فيما اختلفوا فيه: أي فيما التبس عليهم وتخلفوا فيه عن الحق.

وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه: أي ما اختلف في الكتاب، أو الحق بعد إتيانه إلا الذين أوتوه، وصار مبدء الخلاف ناشئا عنهم وتبعهم فيه من بعدهم، أي عكسوا الامر فجعلوا ما أنزل مزيحا للالتباس، سببا لاستحكامه.

من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم: حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه: أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف من الحق: بيان لما اختلفوا فيه.

بإذنه: بأمره ولطفه.

والله يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم: لا يضل سالكه.

في روضة الكافي: حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن عديس، عن يعقوب بن شعيب أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " كان الناس أمة واحدة " فقال: كان قبل نوح أمة ضلال فبدا لله، فبعث الله المرسلين، وليس كما يقولون، ولم يزل وكذبوا (4).

وفي تفسير العياشي: عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " كان الناس أمة واحدة " قال: كان هذا قبل نوح أمة واحدة، فبدا لله، فأرسل الرسل قبل نوح، قلت: أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟قال: بل كانوا ضلالا، لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين (5).

وعن مسعدة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " كان الناس أمة واحدة فبعث النبيين مبشرين ومنذرين " فقال: كان ذلك قبل نوح، قيل: فعلى هدى كانوا؟قال: لا، كانوا ضلالا، وذلك أنه لما انقرض آدم وصالح ذريته، بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته، و ذلك أن قابيل توعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فسار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالا حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله، فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر، وكذبوا، إنما هو شئ يحكم الله به في كل.

﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214) يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمسكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215)﴾

عام، ثم قرأ: " فيها يفرق كل أمر حكيم " (6) فيحكم الله تبارك وتعالى ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت: أعلى ضلال كانوا قبل النبيين أم على هدى؟قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول إبراهيم: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " (7) أي ناسيا للميثاق (8).

وأما ما رواه في مجمع البيان: عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين (9).

فالمراد من الضال: الكافر، والمراد به في الأخبار السابقة الذي على الفطرة لم يهتد إلى الحق بالبرهان فلا منافاة.

أم حسبتم أن تدخلوا الجنة: خاطب به النبي والمؤمنين بعد ما ذكر ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيئ الآيات تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفيهم.

و (أم) منقطعة، ومعناها الانكار.

ولما يأتكم: ولم يأتكم، قيل: وأصل " لما " لم، زيدت عليها " ما " وفيها توقع، و لذلك جعل مقابل " قد ".

مثل الذين خلوا من قبلكم: أي حالهم التي هي مثل في الشدة.

مستهم البأساء والضراء: بيان له على الاستيناف.

وزلزلوا: أي ازعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد.

حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر.

وقرئ نافع (يقول) بالرفع على أنها حكاية حال ماضية، كقولك: مرض فلان حتى لا يرجونه (10).

متى نصر الله: استبطاء له، لتأخره.

ألا إن نصر الله قريب: استيناف على إرادة القول، أي فقيل لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر.

في الخرائج والجرائح: عن زين العابدين، عن آبائه عليهم السلام قال: فبما تمدون أعينكم، ألستم آمنين؟لقد كان من قبلكم ممن هو على ما أنتم عليه يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب، ثم تلا " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم " الآية (11).

وفي روضة الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سيف، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي بكر بن محمد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقرأ: " وزلزلوا ثم زلزلوا حتى يقول الرسول " (12).

يسئلونك ماذا ينفقون: عن ابن عباس أن عمرو بن الجموح الأنصاري.

﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)﴾

كان هما (13) ذا مال عظيم، فقال: يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا؟وأين نضعها؟فنزلت (14).

قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمسكين وابن السبيل: سأل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف، لأنه أهم، فان اعتداد النفقة باعتباره، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكورا في الآية ذكر بعض المصارف، ثم عمم بقوله: وما تفعلوا من خير: " ما " شرطية.

فإن الله به عليم: جوابه، أي إن تفعلوا خيرا فإن الله يعلمه ويجازي عليه.

كتب عليكم القتال وهو كره لكم: مكروه طبعا، وهو مصدر، نعت به للمبالغة، أو فعل بمعنى المفعول، كالخبر وقرء بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف، أو بمعنى الاكراه على المجاز.

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم: حفت الجنة بالمكاره.

وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم: حفت النار بالشهوات.

والله يعلم: ما هو خير لكم.

وأنتم لا تعلمون: ذلك، أو لستم من أهل العلم.

﴿يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد - عن سبيل - الله - وكفر به - والمسجد - الحرام وإخراج - أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (217)﴾

يسئلونك عن الشهر الحرام: قال البيضاوي: روي أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادي الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصد عيرا لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين و استاقوا العير وفيها تجارة الطائف وكان ذلك في غرة رجب وهم يظنونه من جمادي الآخرة، فقالت قريش استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس إلى معايشهم وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا ورد رسول الله صلى الله عليه وآله العير والأسارى (15).

وعن ابن عباس: لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله الغنيمة، وهي أول غنيمة في الاسلام، والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا وتعييرا، وقيل: أصحاب السرية (16).

قتال فيه: بدل اشتمال، وقرئ عن قتال.

قل قتال فيه كبير: أي كبير لو لم يكن يعارضه ما هو أكبر منه.

﴿إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218)﴾

وصد عن سبيل الله: أي المنع والصرف عن الاسلام وما يوصل إلى الله.

وكفر به: أي الله.

والمسجد الحرام: أي وصد عن المسجد الحرام.

وإخراج أهله منه: وهم النبي والمؤمنون.

أكبر عند الله: مما فعلته السرية خطأ بناء على الظن.

وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة، وإفراده بناء على تنكيره.

والفتنة أكبر من القتل: أي ما ارتكبوه من الاخراج والشرك أفظع مما ارتكبوه من قتل الحضرمي.

ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم: إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم.

و (حتى) للتعليل.

إن استطاعوا: وهو استبعاد لاستطاعتهم، كقول الواثق بقوته على قرينه: ان ظفرت بي فلا تبق علي، وإيذان بأنهم لا يردونهم.

ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم: وقرئ حبطت بالفتح وهو لغة فيه.

في الدنيا: لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للاسلام من الفوائد الدنيوية.

والآخرة: بسقوط الثواب.

وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون: كسائر الكفرة.

إن الذين آمنوا: قيل: نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجر.

﴿يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)﴾

والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله: كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، فكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء.

أولئك يرجون رحمت الله: ثوابه، وأثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم.

والله غفور: للكبير الذي عارضه الكبر.

رحيم: بإجزال الأجر والثواب.

يسئلونك عن الخمر والميسر: الخمر في الأصل: مصدر خمره إذا ستره سمي به لأنه يخمر العقل.

في مجمع البيان: الخمر كل شراب مسكر مخالط للعقل مغط عليه، وما أسكر كثيره فقليله خمر، هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا (17).

والميسر أيضا مصدر كالموعد، سمي به القمار، لأنه أخذ مال الغير ميسرا، وسلب يساره.

وفي تفسير العياشي: عن حمدويه، عن محمد بن عيسى قال: سمعته يقول: كتب إليه إبراهيم بن عنبسة، يعني إلى علي بن محمد عليهم السلام: إن رأى سيدي و مولاي أن يخبرني عن الخمر والميسر، الآية فما الميسر جعلت فداك؟، فكتب: كل ما قومر به فهو الميسر، وكل مسكر حرام (18).

وعن عامر بن السمط، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: الخمر من ستة أشياء: التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل والذرة (19).

وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن عليه السلام قال: النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة وكل ما قومر عليه فهو ميسر (20).

عدة من أصحابنا: عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الشطرنج والنرد هما الميسر (21).

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الملك القمي قال: كنت أنا وإدريس أخي عند أبي عبد الله عليه السلام فقال إدريس: جعلنا الله فداك، ما الميسر؟فقال أبو عبد الله عليه السلام: هي الشطرنج، قال: فقلت: أما أنهم يقولون: إنها النرد، قال: والنرد أيضا (22).

قال البيضاوي: روي أنه نزل بمكة قوله: " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا " (23) فأخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمر ومعاذا في نفر من الصحابة قالوا: أفتنا يا رسول الله في الخمر؟فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمان بن عوف ناسا منهم فشربوا فسكروا، فأم أحدهم فقرأ " أعبد ما تعبدون " فنزلت: " لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى " (24) فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت " إنما الخمر والميسر " إلى قوله: " فهل أنتم منتهون " (25) فقال عمر: انتهينا يا رب (26).

وهذا النقل منه يدل على عدم حرمة الخمر في أول الاسلام، وعدم انتهاء عمر عن الخمر قبل نزول " إنما الخمر " إلى آخره.

والصحيح أن الخمر كان حراما، وهذا أول آية نزلت في التحريم.

روي في الكافي: عن بعض أصحابنا مرسلا قال: إن أول ما نزل في تحريم الخمر قول الله عز وجل: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " فلما نزلت الآية أحس القوم بتحريم الخمر وتحريم الميسر وعلموا أن الاثم مما ينبغي اجتنابه ولا يحمل الله عز وجل عليهم من كل طريق، لأنه قال: " ومنافع للناس " ثم أنزل عز وجل آية أخرى (27) الحديث.

ويدل عليه أيضا الأخبار السابقة.

وقوله قل فيهما إثم كبير: من حيث أنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور به وارتكاب المنهي عنه.

ومنافع للناس: من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان.

وإثمهما أكبر من نفعهما: أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما، والمفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل.

وفي أصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء (28).

ويسئلونك ماذا ينفقون: قيل: سائله عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف وثانيا عن كيفية الانفاق.

قل العفو: أي الوسط، لا إقتار ولا إسراف.

والعفو ضد الجهد ومنه يقال للأرض السهلة: العفو.

في الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي بصير، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قال: العفو الوسط (29).

وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قال: لا إقتار ولا إسراف (30).

وفي مجمع البيان: " قل العفو " فيه أقوال: إلى قوله: " وثالثها ": أن العفو ما فضل عن قوت السنة.

عن الباقر عليه السلام قال: ونسخ ذلك بآية الزكاة (31).

كذلك: أي مثل ما بين أن العفو أصلح، أو ما ذكر من الاحكام.

والكاف في موضع النصب: صفة بمصدر محذوف، أي تبيينا مثل التبيين، ووحد العلامة والمخاطب جمع، على تأويل القبيل والجمع.

يبين الله لكم الآيات: الدالة على ما فيه إرشادكم.

لعلكم تتفكرون: في الدلائل والاحكام.

﴿في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)﴾

في الدنيا والآخرة: في أمور الدارين فتأخذون بالأصلح وتتركون المضر.

ويسئلونك عن اليتامى: في تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن صفوان، عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه لما أنزلت " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " (32) أخرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله في إخراجهم، فأنزل الله تبارك وتعالى " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وأن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ".

وفي مجمع البيان عند قوله: " وآتوا اليتامى أموالهم " الآية (33) روى أنه لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله سبحانه وتعالى: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم الآية " عن الحسن والمروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام) (34).

قل إصلاح لهم خير: أي مداخلتهم لاصلاحهم خير من مجانبتهم.

قال الصادق عليه السلام: لا بأس بأن تخالط طعامك بطعام اليتيم، فان الصغير يوشك أن يأكل كما يأكل الكبير، وأما الكسوة وغيره فيحسب على كل رأس صغير وكبير وكم يحتاج إليه (35).

وإن تخالطوهم فإخوانكم: حث على المخالطة، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ وقيل: المراد بالمخالطة، المصاهرة.

والله يعلم المفسد من المصلح: وعيد ووعد لمن خالطهم لا فساد واصلاح، اي يعلم أمره فيجازيه عليه.

وفي الكافي: عثمان، عن سماعة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل " وإن تخالطوهم فإخوانكم " قال: يعني اليتامى، إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر ما يخرج كل إنسان منهم فيخالطهم، و يأكلون جميعا، ولا يرزئن (36) من أموالهم شيئا، إنما هي النار (37).

أحمد بن محمد، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: أرأيت قول الله عز وجل " وإن تخالطوهم فإخوانكم " قال: تخرج من أموالهم بقدر ما يكفيهم وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثم تنفقه قلت: أرأيت إن كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم أعلا كسوة من بعضهم، وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعا، فقال: أما الكسوة فعلى كل إنسان منهم ثمن كسوته، وأما الطعام فاجعلوه جميعا، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (38) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم، فلا بأس وإن كان فيه ضرر فلا، وقال: " بل الانسان على نفسه بصيرة " فأنتم لا يخفى عليكم، وقد قال الله عز وجل: " وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح " (39).

وفي تفسير العياشي: عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله: إن أخي هلك وترك أيتاما ولهم ماشية فما يحل لي منها؟فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن كنت تليط (40) حوضها وترد ناديتها (41) وتقوم على رعيتها فاشرب من ألبانها غير مجتهد (42) للحلب ولا ضار بالولد والله يعلم المفسد من المصلح (43).

عن علي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله في اليتامى " و إن تخالطوهم فإخوانكم " قال: يكون لهم التمر واللبن ويكون لك مثله على قدر ما يكفيك ويكفيهم، ولا يخفى على الله المفسد من المصلح (44).

عنه، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له: يكون لليتيم عندي الشئ، وهو في حجري أنفق عليه منه، وربما أصيب أصبت مما يكون له من الطعام وما يكون مني إليه أكثر، فقال: لا بأس بذلك والله يعلم المفسد من المصلح (45).

ولو شاء الله لأعنتكم: أي لو شاء الله إعناتكم لأعنتكم، أي كلفكم ما يشق عليكم، من العنت، وهي المشقة، ولم يجوز لكم مداخلتهم.

إن الله عزيز: غالب يقدر على الاعنات.


1- تفسير العياشي: ج 1، ص 102، قطعة من حديث 300.

2- أمالي الصدوق: ص 195، ح 9. وفيه أحمد بن الحسن القطان.

3- عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 125، باب 11، ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار: في التوحيد، قطعة من حديث 19.

4- تفسير العياشي: ج 1، ص 103، ح 301.

5- تفسير العياشي: ج 1، ص 103، ح 303.

6- تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 112.

7- تفسير البرهان: ج 1، ص 209، ذيل الآية 210، ح 5.

8- الكافي: ج 8، ص 290، ح 440.

9- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 113.

10- الكافي: ج 8، ص 82، ح 40، وتمام الحديث " يفرق الله في ليلة القدر ما كان من شدة أو رخاء أو مطر، بقدر ما يشاء الله عز وجل أن يقدر إلى مثلها من قابل ".

11- تفسير العياشي: ج 1، ص 104، ح 306.

12- سورة الدخان: الآية 4.

13- سورة الأنعام: الآية 78.

14- تفسير العياشي: ج 1، ص 104، ح 309.

15- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 307، في ذيل الآية 213.

16- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114.

17- الخرائج والجرائح: فصول في العلامات التي تكون قبل المهدي عليه السلام، ص 196، فصل عن زين العابدين عليه السلام.

18- الكافي: ج 8، ص 290، ح 439.

19- الهم بالكسر والتشديد: الشيخ الكبير، والمرأة همة. مجمع البحرين: ج 6، ص 189، في لغة همم.

20- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114.

21- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114.

22- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114.

23- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 316، في ذيل الآية 219، من سورة البقرة " يسألونك عن الخمر والميسر الآية ".

24- تفسير العياشي: ج 1، ص 106، الحديث 311، وفي الهامش بعد قوله: فما الميسر؟ما لفظه: هذا هو الظاهر الموافق لنسخة الوسائل، ولكن في نسختي الأصل والبرهان (فما المنفعة) عوض (فما الميسر).

25- تفسير العياشي: ج 1، ص 106، ح 313.

26- الكافي: ج 6، ص 435، كتاب الأشربة، باب النرد والشطرنج، ح 1.

27- الكافي: ج 6، ص 435، كتاب الأشربة، باب النرد والشطرنج، ح 3.

28- الكافي: ج 6، ص 436، كتاب الأشربة، باب النرد والشطرنج، ح 8.

29- سورة النحل: الآية 68.

30- سورة النساء: الآية 43.

31- سورة المائدة: الآية 94 - 95.

32- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 116، في تفسير الآية 220.

33- الكافي: ج 6، ص 406، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر في الكتاب، قطعة من حديث 2 والحديث طويل.

34- الكافي: ج 1، ص 148، كتاب التوحيد، باب البداء، ح 15.

35- الكافي: ج 4، ص 52، كتاب الزكاة، باب فضل القصد، ح 3.

36- تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 72، في تفسير الآية 219، من سورة البقرة.

37- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 316، في ذيل الآية 219.

38- سورة النساء: الآية 10.

39- سورة النساء: الآية 3.

40- مجمع البيان: ج 3 - 4، ص 4، ذيل الآية 2، من سورة النساء.

41- تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 72، في تفسيره لآية 220، من سورة البقرة.

42- رزأه ماله: أصاب من ماله شيئا. لسان العرب: ج 1، ص 85، لغة (رزا).

43- الكافي: ج 5، ص 129، كتاب المعيشة، باب ما يحل لقيم مال اليتيم منه، قطعة من حديث 2.

44- الكافي: ج 5، ص 130، كتاب المعيشة، باب ما يحل لقيم مال اليتيم منه، قطعة من حديث 5.

45- الكافي: ج 5، ص 129، كتاب المعيشة، باب أكل مال اليتيم، ح 4.