الآية 92 - 99

﴿ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمنكم إن كنتم مؤمنين (93)﴾

(قالوا) اي قالوا ذلك والحال انهم يكفرون بما وراء التوراة (1) والأول أقرب.

ووراء في الأصل: مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل، فيراد ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذلك عد من الأضداد.

وقال الفراء: معنى وراءه سواه، كما يقال: للرجل يتكلم بالكلام الحسن: ما وراء هذا الكلام شئ، يراد ليس عند المتكلم به شئ سوى ذلك الكلام (2).

وهو الحق: ما وراءه أي القرآن، الحق.

مصدقا لما معهم: أي التوراة، و " مصدقا " حال مؤكدة يتضمن رد مقالتهم، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها.

ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الايمان بالتوراة، والتوراة لا تسوغه، بقوله: قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين: وإسناد القتل إليهم مع أنه فعل آبائهم، لأنهم راضون به عازمون عليه.

ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون: (وأنتم ظالمون): يجوز أن يكون حالا، أي عبدتم العجل وأنتم واضعون.

﴿قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94)﴾

العبادة غير موضعها، وأن يكون اعتراضا، بمعنى أنتم قوم عادتكم الظلم.

وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا: أي قلنا لهم: خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد، واسمعوا سماع طاعة.

قالوا سمعنا: قولك.

وعصينا: أمرك.

وأشربوا في قلوبهم العجل: تداخلهم حبه، ورسخ في قلوبهم صورته، لفرط شغفهم فيه، كما يتداخل الصبغ الثوب، والشرب أعماق البدن، و (في قلوبهم) بيان لمكان الاشراب.

بكفرهم: بسبب كفرهم، لأنهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري.

قل بئسما يأمركم به إيمنكم: بالتوراة، لأنه ليس فيها عبادة العجاجيل.

وإضافة الامر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب: " أصلاتك تأمرك " (3) و كذلك إضافة الايمان إليهم، والمخصوص بالذم محذوف، أي هذا الامر، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث، إلزاما عليهم.

إن كنتم مؤمنين: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له.

وكرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى، وتلك الزيادة التنبيه.

﴿ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96)﴾

على أن طريقهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى (عليه السلام).

قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة: والمراد بالدار الآخرة الجنة.

و (خالصة) منصوب على الحال من الدار، أي خاصة بكم، كما قلتم: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا " (4).

من دون الناس: أي سائر الناس أو المسلمين، واللام للعهد.

فتمنوا الموت إن كنتم صادقين: لان من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم، والتخلص من الدار ذات النوائب، كما قال أمير المؤمنين ويعسوب الدين، وهو يطوف بين الصفين في غلالة (5) - فقال ابنه الحسن (عليه السلام): ما هذا بزي المحاربين!! - يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت، أو وقع الموت عليه (6).

وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه (7).

وقال حذيفة حين احتضر: جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم أي على التمني (8).

وأما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (9).

فإنما نهى عن التمني للضر، لأنه يدل على الجزع، والمأمور به الصبر وتفويض الأمور إليه.

ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين: والمراد بما قدمت أيديهم، ما أسلفوا من موجبات النار، من الكفر بمحمد وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان.

ولما كانت اليد العاملة مختصة بالانسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه، ومنها أكثر منافعه، عبر بها عن النفس تارة، والقدرة أخرى.

وقوله: " ولن يتمنوه أبدا " من المعجزات لأنه إخبار بالغيب.

روى الكلبي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لهم: إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غص بريقه (10) فمات مكانه (11).

وروي عنه (عليه السلام): أيضا أنه لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار (12).

ولتجدنهم أحرص الناس على حياة: من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين، في قولهم وجدت زيدا ذا الخفاظ، ومفعولاه هم أحرص، وتنكير حياة، لأنه أريد فرد من أفرادها، وهي الحياة المتطاولة، وقرئ باللام.

ومن الذين أشركوا يود أحدهم: محمول على المعنى، فكأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وإفرادهم بالذكر للمبالغة، فإن حرصهم شديد، إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة، والزيادة في التوبيخ والتقريع فإنه لما زاد حرصهم وهو مقرون بالجزاء على حرص المنكرين، دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار.

ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة الأول عليه، وأن يكون خبرا مبتدأ محذوف صفته (يود أحدهم) على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود، لأنهم قالوا: " عزير ابن الله "، أي ومنهم ناس يود أحدهم، وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.

لو يعمر ألف سنة: حكاية لودادتهم، و (لو) بمعنى ليت، وكان أصله لو أعمر، فأجري على الغيبة لقوله تعالى: " يود " كقولك: " حلف بالله ليفعلن ".

وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر: الضمير لأحدهم، و (أن يعمر) فاعل مزحزحه، أي وما أحدهم ممن يزحزحه من النار تعميره، أو لما دل عليه يعمر، و أن يعمر بدل، أو مبهم وأن يعمر موضحه.

وأصل (سنة) سنوة، لقولهم سنوات، وقيل: سنهة كجبهة لقولهم سانهة، و تسنه النخل إذا أتت عليه السنوات، والزحزحة: التبعيد.

والله بصير بما يعملون: فيجازيهم.

وفي هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم، وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة، وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة، ودرك السعادة بالاخلاص في العبادة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: بقية عمر المؤمن لا قيمة له، يدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات (13).

﴿قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين (98)﴾

قل من كان عدوا لجبريل: قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في أخر الزمان.

فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان.

قالوا: صدقت يا محمد.

فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل والمرأة؟فقال (صلى الله عليه وآله): أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والشعر والظفر فمن المرأة.

قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شئ، أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ؟ فقال: أيهما علا ماؤه كان الشبه له.

قالوا: صدقت يا محمد، قالوا: أخبرنا عن ربك ما هو؟فأنزل الله سبحانه: قل هو الله أحد، إلى آخره.

فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك، أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟فقال: جبرئيل.

قال: ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك (14).

وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن، أربع من المشهورات، جبرئيل كسلسبيل قراءة الحمزة (15) والكسائي (16)، وجبريل بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير (17)، وجبرئل كجحمرش قراءة عاصم برواية أبي بكر (18)، وجبريل كقنديل قراءة الباقين.

وأربع في الشواذ جبرائل وجبرائيل وجبرال وجبرين ومنع صرفه للعجمة والتعريف، ومعناه عبد الله.

فإنه نزله: أي جبرئيل نزل القرآن، والارجاع إلى غير المذكور يدل على فخامة شأنه، كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره.

على قلبك: فإنه القابل الأول للوحي ومحل الفهم والحفظ.

وكان حقه على قلبي، لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قال: قل ما تكلمت به من قولي من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك.

بإذن الله: بأمره، حال من فاعل نزل.

مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين: أحوال من مفعوله.

وجواب الشرط (فإنه نزله) على وجهين: أحدهما: أن من عادى منهم جبرئيل فلا وجه له، فإنه نزله كتابا مصدقا لما بين يديه من الكتب، فلو أنصفوا لا حبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم و يصحح المنزل عليهم.

والثاني: أن من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك بالوحي، وهم كارهون له.

وقيل: جواب الشرط محذوف، مثل فليمت غيظا، أو فهو عدو لي وأنا عدوا له، كما قال: من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين: أي من كان معاديا بالله أي يفعل فعل المعادي من المخالفة والعصيان، فإن حقيقة العداوة طلب الاضرار به، وهذا يستحيل على الله تعالى.

﴿ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99)﴾

1- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 161.

2- سورة هود: الآية 87.

3- سورة البقرة: الآية 111.

4- والغلالة شعار يلبس تحت الثوب، لأنه يتغلل فيها، أي يدخل، وفي التهذيب: الغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب أو تحت درع الحديد، لسان العرب: ج 11، ص 502، حرف اللام في (غلل).

5- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، في تفسير الآية 94.

6- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، ذيل الآية 94، من سورة البقرة.

7- الكشاف: ج 1، ص 166.

8- مجمع البيان: ج 1، ص 164، ذيل الآية 94، من سورة البقرة.

9- يقال: غصصت بالماء أغص غصصا فأنا غاص وغصان إذا شرقت به، أو وقف في حلقك فلم تكد تسيغه - النهاية لابن الأثير: ج 3، ص 370، باب الغين مع الصاد.

10- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، ذيل الآية 95، من سورة البقرة.

11- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 164، ذيل الآية 95، من سورة البقرة.

12- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166، ذيل الآية 96، من سورة البقرة.

13- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 167، في سبب نزول آية 97.

14- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166.

15- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166.

16- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166.

17- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 166.

18- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 72.