الآية 81 - 91

﴿بلى من كسب سيئة وأحطت به خطيئته فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (81) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون (82)﴾

قل أتخذتم عند الله عهدا: وعدا فلن يخلف الله عهده: جواب شرط محذوف، أي إن اتخذتم عند الله عهدا، فلن يخلف الله عهده.

وقيل: لا تقدير في مثله، ولكن ضمن الاستفهام معنى الشرط، فأجيب بالفاء.

أم تقولون على الله ما لا تعلمون: أم معادلة لهمزة الاستفهام، بمعنى كلا الامرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى، بل تقولون.

بلى: إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا ودهرا طويلا على وجه أعم، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم، ويختص بجواب النفي.

من كسب سيئة: والفرق بينها وبين الخطيئة، أنها قد تقال فيما يقصد بالذات، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض، لأنها من الخطأ.

والكسب: استجلاب النفع، وتعليقه بالسيئة على طريق التحكم.

وأحطت به خطيئته: والمراد بها الشرك، لان ما عداه لا يستحق به الخلود في النار عندنا، فالمراد بالإحاطة الاستيلاء عليه حتى لا يخلو عنها شئ من جوانبه، كما هو شأن المشرك، فإن غيره إن لم يكن له سوى تصديق القلب والاقرار باللسان فلم تحط الخطيئة به.

فأولئك أصحب النار: ملازموها في الآخرة، كما أنهم ملازمو.

﴿وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمسكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)﴾

أسبابها في الدنيا.

هم فيها خلدون: لان نياتهم في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، فبالنيات خلدوا، كذا في الكافي عن الصادق (عليه السلام) (1).

وفي التوحيد عن الكاظم (عليه السلام): لا يخلد الله في النار إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك (2).

وفي الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (3).

وقوله: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون: بناء على ما جرت عادته سبحانه على أن يقرن بالوعد الوعيد، لترجى رحمته ويخشى عذابه، ولما جاز أن يكون عطف العمل على الايمان لزيادة الاهتمام والاشعار بأنه أدخل أجزاءه لم يدل على خروجه من مسماه، مع أنه معارض بقوله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة و آتوا الزكاة " (4) فإنه لا نزاع في أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت العمل الصالح.

وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله: إخبار في معنى النهي، وهو أبلغ من الصريح، لما فيه من إيهام من أن المنهي سارع إلى الانتهاء، فهو يخبر عنه، وتنصره قراءة (لا تعبدوا) وعطف (قولوا) عليه، فيكون على إرادة القول، وقيل: إن معناه، أن لا تعبدوا، فلما حذف (أن) رفع.

كقوله: ألا يا أيها اللائمي أحضر الوغى * وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي (5) وتنصره قراءة أن لا تعبدوا.

ويحتمل أن تكون (أن) مفسرة، وأن تكون مع الفعل بدلا من الميثاق، أو معمولا له بحذف الجار، وإن ادعى في حذف حرف التفسير، إن فيه نظر.

وقيل: إنه جواب قسم دل عليه المعنى، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون.

وقرئ بالتاء، حكاية لما خوطبوا به، وبالياء لأنهم غيب.

وبالوالدين إحسانا: متعلق بمضمر، تقديره وتحسنون، أو أحسنوا.

والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق، هو ما فرض على أمتنا أيضا، من فعل المعروف بهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل لهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك.

وفي الكافي: سئل الصادق (عليه السلام): ما هذا الاحسان؟قال: أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنين، أليس الله يقول: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " (6) (7) وفي التفسير المنسوب إلى الإمام (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل والديكم وأحقهما ببركم محمد وعلي (8).

وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا وعلي أبوا هذه الأمة، ولحقنا عليهم أعظم من حق أبوي ولادتهم، فإنا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الأخيار (9).

وذي القربى: من آبائكم وأمهاتكم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من رعى حق قرابات أبويه أعطي في الجنة ألف ألف درجة، ثم فسر الدرجات ثم قال: ومن رعى حق قرابة محمد وعلي أوتي من فضائل الدرجات وزيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمد وعلي على أبوي نسبه (10).

واليتامى: جمع يتيم ك? ندامى جمع نديم، وهم الذين فقدوا آباءهم المتكلفين بأمورهم.

وروي: إن أشد من يتم هذا اليتيم، يتم يتيم غاب عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الاعلى (11).

والمسكين: والمسكين فعيل من السكون، كأن الفقر أسكنه.

وقولوا للناس حسنا: أي قولوا: حسنا، وسماه حسنا للمبالغة، وقرئ حسنا بفتحتين، وحسنا بضمتين وهو لغة أهل الحجاز.

وحسنى: قيل على أنه مصدر، وفيه نظر إذ كون فعلى مصدرا سماعي، ولم ينقل من العرب حسنى مصدر حسن، كما قال أبو حيان (12)، والأحسن أنه صفة لموصوف محذوف، أي كلمة حسنى، على أنه اسم تفضيل.

وقولوا للناس حسنا، أي معروفا.

روى جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: " قولوا للناس حسنا " قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف (13).

واختلف في أنه هل هو عام في المؤمن والكافر، أو هو خاص في المؤمن، والأول مروي عن الصادق (عليه السلام) (14).

﴿وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84)﴾

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة: يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم.

ثم توليتم إلا قليلا منكم: يريد به من أقام اليهودية على وجهها، ومن أسلم منهم.

وأنتم معرضون: أي عادتكم الاعراض عن الوفاء والطاعة.

وفي هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق، فبدأ الله سبحانه بذكر حقه، وقدمه على كل حق، لأنه المنعم بأصول النعم، ثم ثنى بحق الوالدين وخصهما بالمزية لكونهما سببا للوجود وانعامهما بالتربية، ثم ذكر ذوي القربى لأنهم أقرب إلى المكلف من غيرهم، ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم، والفقراء لفقرهم.

وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم: على نحو ما سبق، والسفك: الصب.

ولا تخرجون أنفسكم من دياركم: والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والاجلاء عن الوطن، وجعل قتل الرجل غيره، قتل نفسه، لاتصاله به نسبا، أو دينا، أو لأنه يوجبه قصاصا.

وقيل: المراد به أن لا ترتكبوا ما تبيح سفك دمائكم، وإخراجكم من دياركم.

وقيل: لا تفعلوا ما يصرفكم عن الحياة الأبدية، فإنه القتل في الحقيقة، ولا تقترفوا ما يمنعكم عن الجنة التي هي داركم، فإنه الجلاء الحقيقي.

ثم أقررتم: بالميثاق واعترفتم بلزومه.

وأنتم تشهدون: توكيد، كقولك: أقر فلان شاهدا على نفسه.

﴿ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم تظهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفدوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغفل عما تعملون (85)﴾

وقيل معناه: وأنتم تحضرون سفك دمائكم وإخراج أنفسكم من دياركم.

وقيل: يشهد كل واحد على إقرار غيره.

وقيل: معناه وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، فيكون إسناد الاقرار إليهم مجازا.

قال بعض المفسرين: نزلت الآية في بني قريظة.

وقيل: نزلت في أسلاف اليهود.

ثم أنتم هؤلاء: استبعاد لما أسند إليهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم.

(وأنتم) مبتدأ، و (هؤلاء) خبره، على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين، تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.

وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضورا، وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا.

تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم: إما حال، والعامل معنى الإشارة، أو بيان لهذه الجملة.

وقيل: (هؤلاء) تأكيد، أو بدل، والخبر هو الجملة.

وقيل: بمعنى الذين، والجملة صلته، والمجموع هو الخبر، كقوله: عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق (15) وقرئ تقتلون على التفعيل، للتكثير.

تظهرون عليهم بالاثم والعدوان: حال من فاعل (تخرجون) أو من مفعوله، أو من كليهما، ويحتمل أن يكون اعتراضا، لبيان أن إخراجهم ظلم وعدوان.

والتظاهر: التعاون، والظهير: المعين.

والاثم: الفعل القبيح الذي يستحق به اللوم.

وقيل: هو ما تنفر منه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) لنواس بن سمعان حين سأله عن البر والاثم: فقال: البر ما اطمأنت به نفسك، والاثم ما حك في صدرك (16).

والعدوان: الافراط في الظلم، وقرئ بحذف إحدى التائين وبإثباتهما، و تظهرون بمعنى تتظهرون.

وإن يأتوكم أسرى تفدوهم: روي أن قريظة من اليهود كانوا حلفاء الأوس من المشركين، والنظير من اليهود كانوا حلفاء الخزرج من المشركين، وكانت قريظة والنظير أخوين، كالأوس والخزرج فافترقوا، فكانت الخزرج مع النظير و قريظة مع الأوس، فإذا اقتتل الحلفاء عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا الاسراء حتى يفدوهم بمثلهم ممن أسره الفريق الآخر منهم، تصديقا لما في التوراة، فالأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نار، ولا قيامة ولا كتابا، فأنب الله اليهود بما فعلوه من مخالفة التوراة في القتل والاجلاء والموافقة في المفاداة.

وقيل: معناه: وإن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدون لانقاذهم بالارشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم، كقوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " (17).

والأول أقرب بحسب اللفظ وسياق الكلام.

وقرأ حمزة أسرى (18)، وهو جمع أسير، كجريح وجرحى، وأسارى جمعه كسكرى والسكارى.

وقيل: هو أيضا جمع أسير، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه، ووجه الشبه أن كلا منهما محبوس عن كثير من تصرفه.

وقيل الأسارى الذين هم في الوثاق، والاسرى الذين هم في اليد، وإن لم يكونوا في الوثاق، وقرئ (تفدوهم).

وهو محرم عليكم إخراجهم: متعلق بقوله: " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " تعلق الحال بعاملها أو صاحبها.

والنكتة في إعادة تحريم الاخراج - وقد أفاده " لا تخرجون أنفسكم " بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الاخراج بالإعادة دون القتل - أنهم انقادوا حكما في باب.

﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)﴾

المخرج وهو الفداء، وخالفوا حكما وهو الاخراج، فجمع مع الفداء معرفة الاخراج، ليتصل به قوله: " أفتؤمنون " إلى آخره، أشد اتصال، ويتضح كفرهم بالبعض و إيمانهم بالبعض كمال الايضاح، حيث وقع في شخص واحد.

والضمير للشأن كما في قوله: " قول هو الله أحد "، أو مبهم يفسره " إخراجهم " كقوله تعالى: " إن هي إلا حياتنا الدنيا " (19) أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر، وإخراجهم تأكيد.

ويحتمل أن يكون راجعا إلى إخراجهم لأنه مبتدأ قدم عليه الخبر، فالمرجع مقدم رتبة.

أفتؤمنون ببعض الكتب: كالفداء.

وتكفرون ببعض: كحرمة القتل والاجلاء.

فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا: كقتل قريظة وسبيهم، وإجلاء النظير، وأصل الخزي ذل يستحيي منه، ولذلك يستعمل في كل منهما.

ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب: من عذاب غيرهم من نظائرهم، لان عصيانهم أشد من عصيانهم.

وما الله بغفل عما تعملون: تأكيد للوعيد، أي الله تعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم.

أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب: بأن يهون عليهم، واختلف في الخفة والثقل، فقيل: إنه يرجع إلى تناقص الجواهر وتزايدها.

﴿ولقد آتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)﴾

وقيل: إن الاعتماد اللازم سفلا يسمى ثقلا، والاعتماد اللازم المختص بجهة العلو يسمى خفة، والمراد به في الآية المعنى الشامل للخفة بحسب تناقص الاجزاء و بحسب انتقاص الكيفية.

ولا هم ينصرون: بدفعهما عنه.

وفي الآية دلالة على من آمن ببعض أحكام الله وكفر ببعض آخر مع معرفته بأنهما حكم الله، كافر خالد في العذاب، لا تخفيف في عذابه، ولا نصر له فيه، ولا شك أن النواصب أكثرهم بهذه الصفة، فهم أجدر بأن ينصب لهم علم الكفر.

ولقد آتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل: أي أرسلنا على أثره يتبع الآخر الأول في الدعاء إلى ما دعى الأول، لان كل نبي بعث من بعد موسى إلى زمن عيسى، فإنما بعث على إقامة التوراة، من قفاه إذا أتبعه، وقفاه به: اتبعه إياه، من القفا نحو ذنبه من الذنب.

والرسل على ما ذكر صاحب الكشاف وغيره، هم: يوشع، وأشمويل، و شمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأرميا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم (20).

وآتينا عيسى ابن مريم البينات: المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى و إبراء الأكمه والأبرص والاخبار بالمغيبات، أو الإنجيل.

وعيسى بالعبرية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال.

قال رؤبة: قلت لزير لم تصله مريمه * ضليل أهواء الصبا تندمه (21) والزير بكسر الزاي: من الرجال الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن، ووزنه مفعل، إذ لم يثبت فعيل.

وأيدناه: قويناه، وقرئ أيدناه على وزن أفعلناه.

بروح القدس: بالروح المقدسة، كقولك حاتم الجود، ورجل صدق.

والمراد جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى، ووصفها به، لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى، ولذلك أضافه إلى نفسه، أو لأنه تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، أو الإنجيل، أو اسم الله الأعظم الذي كان به يحيي الموتى.

وقرأ ابن كثير القدس بالاسكان في جميع القرآن (22).

أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم: بما لا تحبه، ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذلك بهذا وتعجبا من شأنهم.

﴿ولما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)﴾

يحتمل أن يكون استئنافا، والفاء للعطف على مقدر.

استكبرتم: عن الايمان واتباع الرسل.

ففريقا كذبتم: كموسى وعيسى.

وفريقا تقتلون: كزكريا ويحيي.

وفي التعبير بالمضارع استحضار للحال الماضية في النفوس، ورعاية للفواصل، ودلالة على أنهم بعد فيه، فإنهم يحومون حول محمد لولا أني أعصمه منهم.

وقالوا قلوبنا غلف: جمع أغلف، أي هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن، وقيل: أصله جمع غلاف ككتب وكتاب وحمر وحمار فخفف.

والمعنى أنها أوعية العلم، لا تسمع علما إلا وعته، ولا تعي ما يقول محمد (صلى الله عليه وآله)، أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، وروي في الشواذ غلف بضم اللام عن أبي عمرو (23).

بل لعنهم الله بكفرهم: رد لما قالوا، يعني أنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق، ولكن الله خذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة، وتسببوا بذلك لمنع الألطاف، أو هم كفرة ملعونون، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عن النبي (صلى الله عليه وآله) ؟! فقليلا ما يؤمنون: فإيمانا قليلا يؤمنون، و (ما) مزيدة للمبالغة في التقليل، وهو إيمانهم ببعض الكتاب كالمفاداة، وقيل: معناه ويؤمنون وهم قليل.

وقيل: يجوز أن تكون القلة بمعنى العدم.

ولما جاءهم كتب من عند الله: هو القرآن.

مصدق لما معهم: من كتابهم لا يخالفه، وقرئ مصدقا على الحال، لتخصيصه بالوصف، وهو (من عند الله) وجواب (لما) محذوف، وهو كذبوا به و استهانوا بمجيئه.

وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا: أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم، وقد قرب زمانه.

والسين للمبالغة كما في استعجب واستحجر، أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم، والشئ بعد الطلب أبلغ كقولهم مر مستعجلا، أي مر طالبا للعجلة من نفسه.

روى العياشي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت اليهود تجد في كتبها، أن مهاجر محمد (صلى الله عليه وآله) ما بين عير واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد واحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم ب? (تيما) وبعضهم ب? (فدك) وبعضهم ب? (خيبر) فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس، فتكاروا (24) منه، وقال لهم: أمر بكم ما بين عير واحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فأرناهما، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذلك عير وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم.

﴿بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)﴾

الذين بفدك وخيبر: أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم.

واتخذوا بأرض المدينة أموالا، فلما كثر أموالهم بلغ ذلك تبع (25) فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أمنهم فنزلوا عليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا له: ليس ذلك لك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين، نراهم الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمد (صلى الله عليه وآله) لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود (26).

فلما جاءهم ما عرفوا: من نعت محمد (صلى الله عليه وآله).

كفروا به: حسدا وخوفا على الرئاسة.

فلعنة الله على الكافرين: اللعن هو الاقصاء والابعاد.

وأتى بالمظهر، للدلالة.

﴿وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)﴾

على أنهم لعنوا لكفرهم، فيكون اللام للعهد، ويجوز أن يكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوليا.

بئسما اشتروا به أنفسهم: (ما) نكرة موصوفة بالجملة التي بعده مميز لفاعل (بئس) المستكن فيه، ومعناه.

بئس شئ باعوا به أنفسهم، أو شروا به أنفسهم بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم أخلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا.

أن يكفروا بما أنزل الله: هو المخصوص بالذم.

بغيا: طلبا لما ليس لهم وحسدا، تعليل للكفر.

أن ينزل الله: أي لان ينزل الله، أي حسدوا لذلك.

من فضله على من يشاء من عباده: على من اختاره للرسالة.

فباءوا بغضب على غضب: فصاروا أحقاء بغضب مترادف.

وللكافرين عذاب مهين: لهم، بخلاف عذاب العاصي، فإنه طهرة لذنوبه.

وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله: يعم جميع ما جاء به أنبياء الله.

قالوا نؤمن بما أنزل علينا: أي بالتوراة.

ويكفرون بما وراءه: قال ابن الأنباري: تم الكلام عند قوله " بما انزل علينا " ثم ابتدأ بالاخبار عنهم (27)، وصاحب الكشاف على أنه حال عن الضمير في.


1- التوحيد: ص 407، باب 63، الأمر والنهي والوعد والوعيد، قطعة من ح 6.

2- الكافي: ج 1، ص 429، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 82.

3- سورة البقرة: الآية 277.

4- في هامش بعض النسخ المخطوطة ما هذا لفظه (هو لطرفة بن العبد، والوغى: الحرب، وأصله الصوت، والتقدير أن أحضر، يقول: يا أيها اللائمي على حضور الحرب وشهود اللذات، هل تخلدني إن كففت عنها؟(منه رحمه الله تعالى). وفي هامش الكشاف في ذيل الآية الشريفة: ألا أيها الزاجري أحضر الوغى * وان اشهد اللذات هل أنت مخلدي لطرفة بن العبد من معلقته. وألا أداة استفتاح، وحرف النداء محذوف، وأي منادى، واسم الإشارة نعت له، والزاجر نعت لاسم الإشارة مضاف لياء المتكلم إضافة الوصف لمفعوله، وروي بدله (اللائمي) وروي (أحضر) منصوبا بإضمار أن، ومرفوعا على إهمالها، وحسن حذفها ذكرها فيما بعد، يقول: يا أيها الزاجر لي عن حضور الحرب وشهود لذات النصر والظفر والغنيمة، أو شهود لذات الشراب ومغازلة النساء، المستدعين لاتلاف المال، لست مخلدا لي لو طاوعتك فالاستفهام إنكاري.

5- سورة آل عمران: الآية 92.

6- الكافي: ج 2، ص 157، باب البر بالوالدين، ح 1.

7- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 133، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " وفيه (وأحقهما لشكركم).

8- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 133، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " وفيه (وأحقهما لشكركم).

9- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 134، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ".

10- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 136، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ".

11- راجع تفسير البحر المحيط، ج 1، ص 286.

12- مجمع البيان: ج 1، ص 150، في ذيل الآية الشريفة " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل "، وفي تفسير البرهان: ج 1، ص 121، ح 7 - 8.

13- تفسير البرهان: ج 1، ص 120، ح 5 و 9 و 10، ولفظ الأول (عن سدير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أطعم سائلا لا أعرفه مسلما؟فقال: نعم، اعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق، إن الله عز وجل يقول: " وقولوا للناس حسنا " الحديث.

14- هو مطلع قصيدة ليزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ الحميري يهجو بها عباد بن زياد بن أبي سفيان، وقوله عدس منادى بحذف حرف النداء أي يا عدس، وهو بالمهملات كفرس، في الأصل صوت يزجر به البغل ثم صار اسما له وإنما سكنت سينه للضرورة، وعباد كرمان هو ابن زياد بن أبي سفيان الذي هجاه الشاعر بها والامارة ككتابة: الحكم، وتحملين بفتح المضارعة وكسر الميم بمعنى الخمل، والطليق كرفيق: المطلق من الحبس - جامع الشواهد باب العين، ص 156، وفيه (أمنت) بدل (نجوت).

15- رواه في مجمع البيان: ج 1، ص 153، في ذيل الآية الشريفة " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " و رواه أصحاب الصحاح والسنن بألفاظ متقاربة وإليك بعضها: سنن الدارمي: ج 2، ص 245، كتاب البيوع (باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) عن وابصة بن معبد الأسدي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والاثم قال: قلت: نعم، قال: فجمع أصابعة فضرب بها صدره، وقال: استفت نفسك استفت قلبك يا وابصة - ثلاثا - البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والاثم ما حاك في الصدر وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. ولاحظ مسند أحمد بن حنبل، أيضا: ج 4، ص 228.

16- سورة البقرة: الآية 44.

17- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 152.

18- سورة الأنعام: الآية 29.

19- الكشاف: ج 1، ص 161، سورة البقرة ذيل الآية 87، والتفسير الكبير للفخر الرازي: ج 3، ص 176. وتفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 1، ص 298، وغيرها من التفاسير.

20- لرؤبة بن العجاج يعاتب أبا جعفر الدوانيقي على البطالة ومغازلة النساء، والزير من يكثر مودة النساء وزيارتهن، والمريم: من تكثر مودة الرجال وزيارتهم، والضليل كثير الضلال، والصبا: الميل إلى الجهل والعتوة، وتندمه: بمعنى ندمه، فهو مصدر مرفوع فاعل ضليل، ولعل معناه أن ندمه ضال ضايع في أهواء الصبا، ويروى (مندمه) بصيغة اسم الفاعل وضليل مرفوع على الابتداء ومندمة خبره، ولعل معناه أن الرجل كثير الضلال، يعني نفسه هو الذي يندمه وبجعله نادما، أي يأمره بالندم. هامش الكشاف: ج 1، ص 161.

21- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 155.

22- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 155.

23- المكاري بضم الميم من باب قتل فاعل المكاراة وهو من يكري دوابه والجمع مكارون مجمع البحرين: ج 1، ص 359، في مادة (كرا).

24- تبع كسكر واحد التبابعة من ملوك حمير، سمي تبعا لكثرة أتباعه، وقيل: سموا تبابعة لان الأخير يتبع الأول في الملك وهم سبعون تبعا ملكوا جميع الأرض ومن فيها: من العرب والعجم، وكان تبع الأوسط مؤمنا - مجمع البحرين: ج 4، ص 305، في مادة (تبع).

25- تفسير العياشي: ج 1، ص 49، ح 69.

26- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 161.

27- الكشاف: ج 1، ص 165.