الآية 61 - 70

﴿وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام وحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)﴾

وإنما قيده وإن كان العثي لا يكون إلا فسادا، لأنه يجوز أن يكون فعل ظاهره الفساد وباطنه المصلحة كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة، فبين أن فعلهم هو الفساد ظاهرا وباطنا، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا، وجعل بعضهم الحال مؤكدة.

فإن قيل: كيف يجتمع ذلك الماء والكثير في ذلك الحجر الصغير؟أجيب بأن ذلك من آيات الله الباهرة والأعاجيب الظاهرة الدالة على أنها من فعل الله، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر، وينفر الخل، و يجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق في حجر - أو أحدث في كل حجر - قوة تجذب الماء من تحت الأرض، أو تجذب الهواء من الجوانب وتصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك.

ولي هناك فائدة يجب أن ينبه عليها.

فأقول: الممتنع إما ممتنع بأي اعتبار اخذ، أو باعتبار طبيعته وحقيقته مع قطع النظر عن غيره، أو باعتبار العادات والرسوم: فالأول كشريك الباري، والثاني ككون الكبير في الصغير، والثالث ككون الحنطة، خلا والممتنع بالقياس إليه تعالى هو الأول، دون الثانيين، فتأمل فإنه يحتاج إلى لطف وتأمل.

وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام وحد: يريد به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى.

وبوحدته أنه لا يتبدل كقولهم: طعام مائدة الأمير واحد، يريدون أنه لا تتغير ألوانه، ولذلك أجموا (1)، أو ضرب واحد لأنهما معا طعام أهل التلذذ، وهم كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم (2) واشتهوا ما ألفوه.

وقيل: إنه كان ينزل عليهم المن وحده، فملوه، فقالوا ذلك فأنزل عليهم السلوى من بعد ذلك.

فادع لنا ربك: صلة، لأجلنا بدعائك إياه.

يخرج لنا: يظهر لنا، وجزمه بأنه جواب الامر المذكور.

مما تنبت الأرض: من إسناد الفعل إلى القابل، و (من) للتبعيض، والعائد إلى الموصول محذوف.

من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها: بيان وقع موقع الحال، وقيل: بدل بإعادة الجار.

والبقل: ما أنبتته الأرض من الخضر، والمراد به أطائبه التي تؤكل.

والفوم: الحنطة.

ويقال: للخبز، ومنه فوموا لنا، أي اخبزوا.

وقيل: الثوم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود (وثومها) (3)، وقرئ قثائها بالضم، وهو لغة فيه.

واختلف في أن سؤالهم هذا هل كان معصية؟فقيل: لا، لان الأول كان مباحا فسألوا مباحا آخر.

وقيل: بل كان معصية، لأنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم، ولذلك ذمهم على ذلك، وهو أوجه.

قال: أي الله، أو موسى.

أتستبدلون الذي هو أدنى: أقرب منزلة، وأصل الدنو: القرب في المكان، فاستعير للخسة، كالبعد في الشرف والرفعة.

فقيل: بعيد المحل، بعيد الهمة.

وقرئ أدناء من الدناءة، وحكى الأزهري عن أبي زيد: الدني بغير همزة: الخسيس (4).

بالذي هو خير: يريد به المن والسلوى، فإنه خير في اللذة والنفع، وعدم الحاجة إلى السعي.

اهبطوا: وقرئ بالضم، أي انحدروا من التيه، يقال: هبط الوادي: إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج عنه.

مصرا: أراد به مصرا من الأمصار، وهو البلد العظيم، وأصله القطع، لانقطاعه بالعمارة عما سواه، وقيل: أصله الحد بين شيئين.

قال الشاعر: وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا (5) أو العلم وصرفه لسكون وسطه، أو على تأويل البلد، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود (6).

وقيل: أصله مصرائم، فصرفه للتصرف في العجمية بالتعريف.

فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة: جعلت الذلة والمسكنة محيطين بهم مشتملين عليهم، فهم فيهما كما يكون في القبه من ضربت عليه أو التصقتا بهم حتى لزمتاهم ضربة لازب كما تضرب الطين على الحائط فيلزمه، مجازاة لهم على كفران النعمة، فاليهود أذلاء أهل مسكنة، إما على الحقيقة، أو لتصاغرهم وتفاقرهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية أو المراد بالذلة: الهوان بأخذ الجزية، وبالمسكنة: كونهم بزي الفقراء، فترى المثري منهم يتمسكن مخافة أن تضاعف عليهم الجزية، أو المراد بالذلة ما يشمل المعنيين، وبالمسكنة: فقر القلب، لأنه لا يوجد يهودي غني النفس، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): الغنى غنى النفس (7).

وباءوا بغضب من الله: رجعوا به، من باء: إذا رجع، أو صاروا أحقاء بغضبه، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بان يقتل به، وأصل البوء المساواة.

ذلك: إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة، والبوء بالغضب كائن لهم.

بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق: بسبب كفرهم بالمعجزات، أو بالكتب المنزلة، وآية الرجم، والتي فيها نعت محمد (صلى الله عليه وآله) من الكتب.

وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى وغيرهما - عليهم السلام - بغير الحق عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى، وهذا أشنع من أن يقتلوه بشئ يعتقدونه جرما حقا باعتقادهم الفاسد.

ذلك: أي الكفر بالآيات وقتل الأنبياء، صدر عنهم.

بما عصوا وكانوا يعتدون: بسبب عصيانهم وتماديهم فيه، فإن التمادي في ضعاف الذنوب يؤدي إلى شدادها، كما أن المواظبة على صغار الطاعات يؤدي إلى تحري كبارها.

قال صاحب الكشاف: كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكاب المعاصي واعتدائهم حدود الله (8).

وفيه نظر، لأنه لو كان التكرير لذلك لكفى فيه أن يقول: وبما عصوا.

وقال: وعلى تقدير أن يكون ذلك إشارة إلى الكفر والقتل، يجوز أن يكون الباء بمعنى مع، أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا (9)، والأحسن ما قررناه لرعاية اتساق الكلام، وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين على تأويل ما ذكرنا وما تقدم للاختصار، ونظيره في الضمير قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع (10) البهق (11).

فإن قيل: كيف يجوز التخلية بين الكفار وقتل الأنبياء؟ أجيب بأنه إنما جاز ذلك لينال أنبياء الله سبحانه من رفيع المنازل والدرجات ما لا ينالونه بغير القتل.

قال الشيخ الطبرسي: وليس ذلك بخذلان لهم، كما أن التخلية بين المؤمنين والأولياء والمطيعين وبين قاتليهم ليس بخذلان لهم، هذا كلامه (12).

والأجود التفصيل بأنه ليس بخذلان بمعنى إنزال العذاب وسوء عاقبة الدار، و غير ذلك مما ينبئ عن خذلان الآخرة وحرمان المثوبة.

﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صلحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63)﴾

والمروي عن الحسن أن من قتل من الأنبياء قد قتل بغير قتال، وأن الله لم يأمر نبيا بالقتال فقتل فيه (13).

والمذكور في مجمع البيان: إن الصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته، لم يجز أن يمكن الله سبحانه من قتله، لأنه لو مكن من ذلك لأدى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف وفيما لهم من الألطاف والمصالح، فأما إذا أدى الشرع فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه وبين قاتليه ولم يجب عليه المنع من قتله (14).

وعلى الملازمة التي ادعاها منع، بأنه يجوز أن يكون إزاحة العلل بإرسال النبي و إظهار المعجزة على يده، وقتله بسوء ضيعهم بعد ثبوت نبوته وإعجازه، ناشئ من تهاونهم في نصره وتوازرهم على دفعه، فهم مفوتون تبليغه بسوء فعلهم، فهم غير معذورين بعدم تبليغه.

إن الذين آمنوا: بألسنتهم، يريد به المتدينين بدين محمد (صلى الله عليه وآله)، المخلصين منهم والمنافقين.

وقال صاحب الكشاف: المنافقين (15).

لانخراطهم في سلك الكفرة والأول أولى لعموم الفائدة.

والذين هادوا: أي تهودوا، يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية.

ويهود إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل أو من هاد، إذا مال، لأنهم مالوا عن الاسلام وعن دين موسى.

أو من هاد إذا تحرك، لأنهم كانوا يتحركون عند قراءة التوراة، وإما معرب يهوذا، وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب (عليه السلام)، واليهود اسم جمع، واحده يهودي كالزنجي والزنج والرومي والروم.

والنصارى: قال سيبويه: جمع نصران كالندامى (16)، وقيل: جمع نصري مثل مهري ومهارى، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري.

سموا بذلك، لأنهم نصروا المسيح، أو كانوا معه في قرية يقال: لها نصران أو ناصرة، وعلى تقدير أن يكون اسم القرية نصران يحتمل كون الياء للنسبة.

والصابئين: قيل: قوم بين النصارى والمجوس لا دين لهم.

وقيل: أصل دينهم دين نوح (عليه السلام).

وقيل: هم عبدة الملائكة.

وقيل: عبدة الكواكب، من صبأ إذا خرج.

وقرأ نافع بالياء وحدها، إما لأنه خفف الهمزة، أو لأنه من صبا إذا مال، لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم، أو من الحق إلى الباطل.

قال الشيخ الطبرسي: والفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم، وعندنا لا يجوز ذلك لأنهم ليسوا بأهل كتاب (17).

من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صلحا: من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملا بمقتضى شرعه، ومن تجدد منه الايمان و أخلصه.

فلهم أجرهم عند ربهم: الذي وعدهم على إيمانهم وعملهم.

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.

و " من " مبتدأ، خبره " فلهم أجرهم " والجملة خبر (إن) أو بدل من اسم (إن) وخبرها " فلهم أجرهم " والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن، من حيث أنها لا تدخل الشرطية (18).

ورد بقوله تعالى: " إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم " (19).

وإذ أخذنا ميثاقكم: مفعال من الوثيقة، وهو ما يوثق به من يمين أو عهد أو غير ذلك، يريد به العهد باتباع موسى والعمل بالتوراة.

ورفعنا فوقكم الطور: حتى قبلتم الميثاق.

والطور في اللغة: الجبل.

قال العجاج: دانى جناحيه من الطور فمر * تقضي البازي إذ البازي كسر (20) وقيل: إنه اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى (عليه السلام).

روي أن موسى (عليه السلام) لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة، كبرت عليهم، وأبو ا قبولها فأمر جبرئيل (عليه السلام) بقطع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا (21).

خذوا: على إرادة القول.

ما آتيناكم: من الكتاب.

بقوة: بجد وعزيمة.

﴿ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64) ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)﴾

روى العياشي أنه سئل عن الصادق (عليه السلام) من قول الله تعالى: " خذوا ما آتيناكم بقوة " أبقوة في الأبدان أم بقوة في القلوب؟فقال: بهما جميعا (22).

واذكروا ما فيه: قيل: معناه ادرسوه ولا تنسوه، أو تفكروا فيه، فإنه ذكر بالقلب، أو اعملوا به.

والمروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أن معناه اذكروا ما في تركه من العقوبة (23).

لعلكم تتقون: متعلق ب? (خذوا) أي لكي تتقوا، أو ب? (اذكروا) أي رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو ب? (قلنا) المقدر، أي قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا.

ثم توليتم من بعد ذلك: أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه.

فلولا فضل الله عليكم: بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه.

ورحمته: بمحمد (صلى الله عليه وآله) يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه.

لكنتم من الخاسرين: المغبونين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل، أو بهما.

و (لو) في الأصل، لامتناع الشئ لامتناع غيره، فإذا ادخل على (لا) أفاد.

﴿وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين (67)﴾

إثباتا، وهو امتناع الشئ لثبوت غيره، والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف، لدلالة الكلام عليه، وسد الجواب مسده، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف (24).

ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت: لما اصطاد السموك فيه.

والسبت: مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت، وأصله القطع.

أمروا بأن يجردوه للعبادة، فاعتدى ناس منهم في زمن داود واشتغلوا بالصيد.

فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين: مبعدين عن كل خير.

والخساء هو الصغار والطرد.

وقرئ (قردة) بفتح القاف وكسر الراء و (خاسئين) بغير همزة.

فجعلناها: أي المسخة والعقوبة، وعن الباقر (عليه السلام): فجعلنا الأمة (25).

نكلا: عبرة تنكل المعتبر بها، أي تمنعه، ومنه النكل للقيد.

لما بين يديها وما خلفها: لما قبلها من الأمم وما بعدها، إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين واشتهرت قصتهم في الآخرين، أو لمعاصريهم ومن بعدهم، أو لما يحضرها من القرى وما تباعد عنها، أو لأهل القرية وما حواليها، أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها.

وموعظة للمتقين: من قومهم، أو لكل من سمعها.

وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة: سميت بقرة لبقرها الأرض، والهاء ليست للتأنيث، وإنما هي لتدل على الوحدة كالبطة، والدجاجة والاوزة والحمامة.

وأول هذه القصة قوله تعالى: " وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها " وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم، وهو الاستهزاء بالامر والاستقصاء في السؤال، وترك المسارعة في الامتثال.

وقصته على ما رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا (عليه السلام) أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له، ثم أخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى (عليه السلام): إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبرنا من قتله؟قال: اتوني ببقرة (26).

والمروي عن الصادق (عليه السلام): في سبب قتله، أنه قتله ليتزوج بنته وقد خطبها فلم ينعم له، وقد خطبها غيره من خيار بني إسرائيل فأنعم له، فحسده ابن عمه الذي لم ينعم له، فقعد له فقتله، ثم حمله إلى موسى.

إلى آخر الحديث (27).

والمذكور في الكشاف وغيره أنه كان فيهم شيخ موسر، فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه وطرحوه على باب المدينة، ثم جاؤوا بدمه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة و يضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله (28).

قالوا أتتخذنا هزوا: مكان هزء، أو أهله، أو مهزوء بناء، أو الهزء نفسه، لفرط الاستهزاء، استبعادا لما قاله، أو استخفافا به.

وقرئ هزء بضمتين، وبسكون الزاي، بالهمزة في الصورتين وبضمتين والواو.

قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين: لان الهزء في مقام الارشاد جهل وسفه.

﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر النظرين (69)﴾

والعياذ واللياذ: من واد واحد.

قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي: لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شئ من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته، فسألوا عنها ب? (ما) المطلوبة بها الحقيقة، وإلا فالمقصود بيان الحال والصفة.

قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر: لا مسنة ولا فتية، يقال: فرضت البقرة فروضا، من الفرض: وهو القطع، كأنها فرضت سنها، وتركيب البكر للأولوية (للأولية) ومنه البكرة والباكورة.

عوان: نصف.

قال الطرماح: طوال مثل أعناق الهوادي * نواعم بين أبكار وعون (29) بين ذلك: أي ما ذكر من الفارض والبكر، ولذلك أضيف إليه البين، فإنه لا يضاف إلا إلى متعد.

وفي رواية العياشي مرفوعا إلى الرضا (عليه السلام): انهم لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم (30).

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

فلا يلزمه تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قيل: ويلزمه النسخ قبل الفعل، فإن التخصيص أو التقييد إبطال للتخيير الثابت بالنص.

وفيه نظر، لان كون التخيير فيه حكما شرعيا ممنوع، إذ الامر بالمطلق لا يدل إلا على ايجاب ماهيته من حيث هي، بلا شرط، لكن لما لم تتحقق الماهية من حيث هي إلا في ضمن فرد معين، جاء التخيير عقلا، من غير دلالة النص عليه.

فافعلوا ما تؤمرون: أي ما تؤمرونه يعني ما تؤمرون به، فحذف الجار و أوصل الفعل ثم حذف العائد المنصوب، من قوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب (31) أو أمركم، بمعنى مأموركم.

قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها: الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، يقال في التوكيد: أصفر فاقع و وارس، كما يقال: أسود حالك وحانك.

وفي إسناده إلى اللون، وهو صفة صفراء لملابسته بها، فضل تأكيد، كأنه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها، فانتزع من الصفرة، صفرة، وأسند الفقوع إليها، فهو من قبيل جد جده، وجنونك مجنون.

وعن الحسن: سوداء شديدة السواد، وبه فسر قوله تعالى: " جمالات صفر " (32).

وقال الأعشى: تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب (33) ولعله عبر بالصفرة عن السواد، لأنها من مقدماته، أو لان سواد الإبل تعلوه صفرة.

﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشبه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70)﴾

1- العكر بالكسر: الأصل. لسان العرب: ج 4، ص 599، في لغة (عكر).

2- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 122.

3- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 122.

4- القائل عدي بن زيد، كما في مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 122.

5- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 123.

6- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 124، في تفسير الآية الشريفة (وإذ قلتم يا موسى) الآية. ومسند أحمد بن حنبل: ج 2، ص 243. وسنن ابن ماجة: ج 2، كتاب الزهد، باب 9، القناعة، ص 1386، ح 4137. ولفظ الحديث (عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس).

7- الكشاف: ج 1، ص 146.

8- الكشاف: ج 1، ص 146.

9- رجل مولع: أبرص، وأنشد أيضا (كأنها في الجلد توليع البهق) والمولع: كالملمع إلا أن التوليع استطالة البلق، قال رؤبة: فيها خطوط الخ قال أبو عبيدة، قلت لرؤبة: إن كانت الخطوط فقل: كأنها، و إن كان سواد وبياض فقل: كأنهما. فقال: كأن ذا ويلك توليع البلق، لسان العرب: ج 8، ص 411، في لغة (ولع).

10- البهق بياض دون البرص، قال رؤبة: فيه خطوط إلى آخره. البهق: بياض يعتري الجسد بخلاف لونه ليس من البرص، لسان العرب: ج 10، ص 29. أقول: في مادة ولع: فيها خطوط، وهنا: فيه خطوط.

11- مجمع البيان: ج 1 - 2 - ص 125.

12- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 125.

13- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 125.

14- الكشاف: ج 1، ص 146.

15- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 126.

16- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 126.

17- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 60.

18- سورة الجمعة: الآية 8.

19- استشهد به الفخر الرازي: ج 3، ص 107، وأبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط، وابن جرير الطبري في جامع البيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 257، ومجمع البيان للطبرسي: ج 1 - 2، ص 127، كلهم في ذيل الآية الشريفة (ورفعنا فوقهم الطور).

20- نقله في الكشاف: ج 1، ص 147، من غير إسناد إلى الرواية عند تفسيره للآية الشريفة.

21- تفسير العياشي: ج 1، ص 45، ح 52.

22- مجمع البيان: ج 1، ص 128، في ذيل الآية الشريفة (وإذ أخذنا ميثاقكم).

23- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 61.

24- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 130.

25- تفسير العياشي: ج 1، ص 46، قطعة من حديث 57.

26- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 49.

27- الكشاف: ج 1، ص 148، في تفسيره لقوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه).

28- وقبله: ظعائن كنت أعهدهن قدما * وهن لدى الإقامة غير جون حصان مواضع النقب الأعالي * غراث الوشح صامته البرين الظعينة، المرأة في الهودج، وغرثى الوشاح، وصامة البرين: كناية عن غلظ ساقها، والبرين: الخلخال، ومثل موضع الثلل وهو أن يصب الثوب سواد ولا يذهب بغسله، وطوله كناية عن ذول العنق، والهوادي جمع الهادي وهو العنق، فإضافة الأعناق إليه إضافة الشئ إلى نفسه، والناعمة: الكريمة اللينة، وعون جمع عوان وهي المرأة بين الحديثة والمسنة، وصفهن بأنهن أبكر من الابكار وأصفر من العون، وذلك أحسن أحوالهن (منه رحمه الله) كذا في هامش بعض النسخ. وفي هامش الكشاف: ج 1، ص 149، ما ملخصه: الظعائن: النساء في الهوادج، والجون بالضم جمع جوناء أي سوداء، والحصان - بالفتح - المحصنة، والنقب جمع نقاب ككتب وكتاب، والعون أصله بضم الواو جمع عوان، وهي النصف بفتحتين أي الوسط من النساء والبهائم فسكن تخفيفا، يقول: تلك النساء ظعائن أي مسافرات غير لونهن السفر وكنت أعهدهن في قديم الزمان حين الإقامة غير سود، وهن محصنات الوجوه، والأعالي صفة للنقب أو المواضع وهذا لا يكون إلا في النساء كما ترى.

29- تفسير العياشي: ج 1، ص 46، ح 57.

30- هو من أبيات لعمرو بن معدي كرب الزبيدي المذحجي. وقيل: لشاعر آخر. قوله: أمرت متكلم معلوم من الامر ضد النهي وأمرت مجهول منه، والواو للحال، وتركتك مخاطب من الترك، وذا بمعنى الصاحب، والنشب بالنون والشين المعجمة والموحدة كفرس المال الأصيل من الناطق والصامت، جامع الشواهد: ص 67، باب الألف بعده الميم، وفي التبيان: ج 2، ص 348.

31- سورة المرسلات: الآية 33.

32- وقبله: إن قيسا قيس الفعال أبا الأشعث * أمست أصداؤ لشعوب كل عام يمدني بحموم * عند وضع للضأن أو بنجيب للأعشى في أبي الأشعث بن قيس - والفعال - بالفتح: فعل الخير. والاصداء: جمع صدى، وهو ذكر البوم، كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة، وتصيح: أدركوني، حتى يؤخذ بثأره، و شعوب: اسم للمنية، يمكن أنه جمع شعب بمعنى طريق، أي أمست متفرقة في الطرق، وذلك كناية عن قتله، والجمع للتعظيم، أو اعتباري، والجموم جمع جم بتثليث أوله بمعنى الكثير، والنجيب: الكريم من الخيل والإبل، والركاب: المطايا، هن أي الركاب، صفر: جمع أصفر أو صفراء، أولاد ما يغلب عليه السواد كالزبيب، والمراد بالصفرة، سواد ترهقه صفرة، لان هذا أعز ألوان الإبل عندهم. نقلا عن هامش الكشاف: ص 150، في تفسير قوله تعالى (صفراء فاقع). وفي هامش بعض النسخ ما لفظه (قوله: هن صفر، هو من قصيدة يمدح بها قيس بن معدي كرب، و تلك مبتدأ وخيلي خبره، ومنه حال، والركاب الإبل التي يركب عليهما، الواحدة راحلة، ولا واحد لها من لفظها. وأولادها فاعل صفر، أي سود، ويمكن أن يكون هن صفر جملة، وأولادها كالزبيب جملة أخرى. (منه رحمه الله).

33- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 135.