الآية 51 - 60

﴿وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) وإذ آتينا موسى الكتب والفرقان لعلكم تهتدون (53)﴾

أدهم، فهاب دخول الماء، تمثل له جبرئيل على فرس أنثى وديق (1) وتقحم البحر، فلما رآها الحصان تقحم خلفها ثم تقحم قوم فرعون، ولما خرج آخر من كان مع موسى من البحر، ودخل آخر من كان مع فرعون البحر أطبق الله عليهم الماء فغرقوا جميعا ونجا موسى ومن معه (2).

واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل، ومن آياته الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم، وتصديق موسى (عليه السلام)، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ونحو ذلك، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، فإنهم اتبعوه مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية دقيقة يدركها الأذكياء، وإخباره (عليه السلام) عنها من جملة معجزاته (صلى الله عليه وآله).

وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة: بعد عودهم إلى مصر وهلاك فرعون، وعد الله موسى أن يعطيه التوراة، وضرب له ميقاتا ذي القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي، لأنها غرر الشهور، أو لان وعد موسى وعد قيام الأربعين والقيام بالليل أهم، فذكر الليل إشعار بوعدة قيام الليل، أو لان الظلمة سابقة على النور.

والقراءة المشهورة " واعدنا " لأنه تعالى وعده الوحي، ووعده موسى المجئ للميقات إلى الطور.

ثم اتخذتم العجل: معبودا، لأنهم بنفس فعلهم لصورة العجل، لا يكونون ظالمين، لان فعل ذلك ليس بمحظور، بل مكروه.

وأما الخبر الذي روي عنه (عليه السلام) أنه لعن المصورين (3)، فالمراد به من شبه الله تعالى، أو اعتقد أنه صورة.

من بعده: من بعد غيبة موسى، أو من بعد وعد الله التوراة، أو من بعد غرق فرعون وما رأيتم من الآيات.

وأنتم ظالمون: مضرون بأنفسكم بما استحققتم من العقاب على اتخاذكم العجل معبودا.

روي عن ابن عباس أنه قال: كان السامري رجلا من أهل باجرما، قيل: كان اسمه مسيحا، وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وقد كان أظهر الاسلام في بني إسرائيل، فلما قصد موسى إلى ربه وخلف هارون في بني إسرائيل، قال هارون لقومه: قد حملتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - فتطهروا منها فإنها نجس، يعني أنهم استعاروا من القبط حليا واستبدوا بها، فقال هارون: طهروا أنفسكم منها فإنها نجسة، وأوقد نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي فيقذفون به فيها، قال: وكان السامري رأى اثر فرس جبرئيل (عليه السلام)، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقال: يا هارون يا نبي الله، القي ما في يدي؟قال: نعم، وهو لا يدري ما في يده، ويظن أنه مما يجئ به غيره من الحلي والأمتعة، فقذف فيها وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان البلاء والفتنة، فقال: هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط، وقال ابن عباس: فصار البلاء والفتنة.

ولم يزد على هذا (4).

﴿وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54) وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصعقة وأنتم تنظرون (55)﴾

وقال الحسن: صار العجل لحما ودما، وقال غيره: لا يجوز ذلك لأنه من معجزات الأنبياء، ومن وافق الحسن قال: إن القبضة من أثر الملك، كان الله أجرى العادة بأنها إذا طرحت على أي صورة كانت حييت، فليس ذلك بمعجزة، إذ سبيل السامري سبيل غيره فيه، ومن لم يجز انقلابه حيا، نزل الخوار على أن السامري صاغ عجلا وجعل فيه خروقا يدخلها الريح فيخرج منها صوت كالخوار، و دعاهم إلى عبادته فأجابوه وعبدوه (5).

ثم عفونا عنكم: حين تبتم، والعفو محو الجريمة، من عفا إذا درس من بعد ذلك: أي بعد الاتخاذ.

لعلكم تشكرون: لكي تشكروا عفوه، وفي الآية دلالة على وجوب شكر النعمة، وعلى أن العفو عن الذنب بعد التوبة نعمة من الله تعالى، ليشكروه.

وإذ آتينا موسى الكتب والفرقان: يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا و حجة تفرق بين الحق والباطل، فالعطف لتغاير الوصفين، أو الفرقان: معجزاته الفارقة بين الحق والباطل، أو بين الكفر والايمان، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى " يوم الفرقان " (6) يريد يوم بدر، وقيل: الفرقان: القرآن، والتقدير: آتينا موسى التوراة وآتينا محمدا الفرقان، فحذف ما حذف لدلالة ما أبقاه عليه.

لعلكم تهتدون: لكي تهتدوا بما في التوراة من البشارة بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبيان صفته.

وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم: أي فاعزموا على التوبة.

فاقتلوا أنفسكم: إن كان توبتهم هي قتل الأنفس، وإلا فالمراد إتمام التوبة بالقتل.

وانما جعل القتل توبتهم أو من تمامها، إشارة إلى أن من لم يقتل عدوه وهو النفس يقتله ليعتبر غيرهم، أو إشارة إلى أنهم لما صاروا من حزب العجل جعلوا في زمرته، لان العجل خلق للذبح، والباري الخالق برئ من التفاوت مع التمييز بصور وهيئات مختلفة.

وأصل البرء الخلوص للشئ من غيره، إما على سبيل التفصي كقولهم: برأ المريض من مرضه والمديون من دينه.

أو الانشاء كقولهم: برأ الله آدم من الطين.

واختلف في القتل المأمور به على أقوال: أحدها: البخع، وهو أن يقتل كل رجل نفسه ويهلكها.

وثانيها: أن المراد به قطع الشهوات، واستعمال القتل على سبيل التوسع.

والثالث: أنهم أمروا بأن يقتل بعضهم بعضا.

والرابع: أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة، وروي أن الرجل يرى بعضه وقريبه فلم يقدر المضي لأمر الله، فأرسل ضبابة (7) وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي، حتى دعا موسى وهارون فكشف السحابة ونزلت التوبة، وكانت القتلى سبعين ألفا (8).

والخامس: أن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور، هم الذين قتلوا من عبدة العجل سبعين ألفا.

والسادس: أن موسى (عليه السلام) أمرهم أن يقوموا صفين، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وجاء هارون بإثني عشر ألفا ممن لم يعبد العجل ومعهم الشفار (9) المزهفة (10) وكانوا يقتلونهم، فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين، وجعل قتل الماضين شهادة لهم.

ذلكم خير لكم عند بارئكم: من حيث أنه طهره من الشرك ووصله إلى الحياة الأبدية.

فتاب عليكم: جواب شرط محذوف، إن جعل من كلام موسى، والتقدير إن فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم، ومعطوف على محذوف إن جعل من خطابه تعالى لهم على سبيل الالتفات، كأنه قال: فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم.

إنه هو التواب: الذي يكثر توفيق التوبة، أو قبولها.

الرحيم: المبالغ في الانعام على التائبين.

وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك: أي لأجل قولك، أو لن نقر لك.

حتى نرى الله جهرة: عيانا، وهي في الأصل مصدر قولك: جهرت بالقراءة، استعيرت للمعاينة، والجامع بينهما الادراك بلا ساتر، ونصبها على المصدر، لأنه نوع من الرؤية، أو الحال من الفاعل أو المفعول، أما على مذهب غير المبرد فظاهر، وأما على مذهبه فلما مر من التعليل في المصدر، لأنه ذهب إلى أن الحال لا يكون مصدرا إلا إذا كان نوعا من عامله.

وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة، أو جمع جاهر كالكبة فيكون حالا، وقيل: إن قوله: " جهرة " صفة لخطابهم لموسى (عليه السلام) وتقديره: وإذ قلتم جهرة: لن نؤمن لك حتى نرى الله، وهو ضعيف.

والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات، وقيل: عشرة آلاف من قومه.

والمؤمن به: جميع ما جاء به موسى، وقيل: إن الله الذي أعطاك التوراة و كلمك، أو إنك نبي.

فأخذتكم الصعقة: لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام وطلبوا رؤيته، وهي محال، روي أنه جاءت نار من السماء فأحرقتهم وقيل: صيحة، وقيل: جنود سمعوا بحسيسها فخروا صاعقين ميتين يوما و ليلة (11).

وأنتم تنظرون: إلى ما أصابكم، أو إلى أثره.

واستدل أبو القاسم البلخي (12) بهذه الآية على أن الرؤية لا تجوز على الله تعالى، قال: لأنها إنكار تضمن أمرين: ردهم على نبيهم، وتجويزهم الرؤية على ربهم و يؤيد ذلك قوله تعالى " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " (13) فدل ذلك على أن المراد إنكار كلا الامرين.

أقول: وفي الآية مع قوله (فقد سألوا موسى) إلى آخره، دلالة على أن الرد على.

﴿ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) و ظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبت ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)﴾

النبي، واعتقاد جواز الرؤية، كل واحد منهما علة لاخذ الصاعقة والعذاب، ومن البين عدم التفاوت بين عدم جواز الرؤية في الدنيا وعدم جوازها في الآخرة، والمنازع مكابر، مع قضية العقل، فمعتقد جوازها في الآخرة شارك معتقد جوازها في الدنيا في علة استحقاق العذاب، كالراد على النبي.

وبذلك يثبت كفر أهل السنة القائلين بجوازها في الآخرة للمؤمنين، وللافراد من الأنبياء في الدنيا.

قال البيضاوي، بعد عده رؤيته تعالى رؤية الأجسام من المستحيلات: بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة، وللافراد من الأنبياء في الدنيا في بعض الأحوال (14).

واعلم أن هذه الآية تدل أيضا على أن قول موسى: " رب أرني أنظر إليك " (15) كان سؤالا لقومه، لأنه لا خلاف بين أهل التوراة أن موسى (عليه السلام) لم يسأل الرؤية إلا دفعة واحدة، وهي التي سألها لقومه.

ثم بعثناكم: أحييناكم.

من بعد موتكم: بسبب الصاعقة وقيد البعث، لأنه قد يكون من إغماء ونوم، لقوله تعالى " ثم بعثناهم " (16).

وقيل: إنهم سألوا بعد الاحياء أن يبعثوا أنبياء، فبعثهم الله أنبياء.

وأجمع المفسرون إلا شرذمة يسيرة: أن الله لم يكن أمات موسى كلما أمات قومه، ولكن غشي عليه بدلالة قوله تعالى " فلما أفاق " (17) والإفاقة إنما تكون من الغشيان.

لعلكم تشكرون: نعمه التي منها رد حياتكم.

وفي الآية دلالة على جواز الرجعة، وقال أبو القاسم البلخي: لا تجوز الرجعة مع الاعلام بها، لان فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتكال على التوبة في الكرة الثانية (18).

وأجيب بأن من يقول بالرجعة لا يذهب إلى أن الناس كلهم يرجعون، فيصير إغراء بأن يقع الاتكال على التوبة فيها، بل لا أحد من المكلفين إلا ويجوز أن لا يرجع، وذلك يكفي في باب الزجر.

وظللنا عليكم الغمام: سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه.

وهي جمع غمامة، وهي السحابة، وأصله التغطية والستر، ومنه الغم.

وأنزلنا عليكم المن والسلوى: قيل: الترنجبين، وقيل: الخبز المرقق، وقيل: جميع النعم التي أتتهم مما من الله عليهم مما لا تعب فيه ولا نصب.

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين (19).

(والسلوى): السماني، وقيل: هو طائر أبيض يشبه السماني، قيل: كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع، ويبعث الجنوب عليهم بالسماني، فيأخذ كل إنسان منهم كفايته إلى الغد إلا يوم الجمعة يأخذ ليومين، لأنه لم يكن ينزل يوم كلوا: نصب على إرادة القول، أي وقلنا لهم: كلوا.

من طيبت ما رزقناكم: أي الشهي اللذيذ مما رزقناكم، قيل: أو الحلال، وهذا بناء على تناول الرزق الحرام أيضا.

وما ظلمونا: فيه اختصار، تقديره فظلموا بأن كفروا هذه النعمة، وما ظلمونا.

ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: بالكفران، لأنه لا يتخطاهم ضرره.

وكان سبب إنزال المن والسلوى عليهم (على ما ذكره الشيخ الطبرسي): أنه لما ابتلاهم بالتيه، إذ قالوا لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " حين أمرهم بالسير إلى بيت المقدس وحرب العمالقة بقوله: ادخلوا الأرض المقدسة (20) فوقعوا في التيه، صاروا كلما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستة، وكلما أصبحوا ساروا عادين فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا عنه كذلك حتى تمت المدة، وبقوا فيها أربعين سنة، وفي التيه توفي موسى وهارون، ثم خرج يوشع بن نون.

وكان الله تعالى يرد الجانب الذي انتهوا إليه من الأرض إلى الجانب الذي ساروا فيه، فكانوا يضلون عن الطريق، لأنهم كانوا خلقا عظيما، فلا يجوز أن يضلوا كلهم عن الطريق في هذه المدة المديدة، في هذا المقدار من الأرض، ولما حصلوا في التيه ندموا على ما فعلوا، فألطف الله لهم بالغمام لما شكوا حر الشمس وأنزل عليهم المن والسلوى، فكان يسوق عليهم المن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليومهم.

وقال الصادق (عليه السلام): كان ينزل المن على بني إسرائيل من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه، فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى طلوع الشمس (21).

قال ابن جريح: وكان الرجل منهم إن أخذ من المن والسلوى زيادة على طعام.

﴿وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)﴾

يوم واحد فسد، إلا يوم الجمعة، فإنهم إذا أخذوا طعام يومين لم يفسد، وكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليوم الجمعة والسبت، لأنه كان لا يأتيهم يوم السبت، و كانوا يخبزونه مثل القرصة ويوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن، وكان الله تعالى يبعث لهم السحاب بالنهار فيدفع عنهم حر الشمس، وكان ينزل عليهم بالليل عمودا من نور يضئ لهم مكان السراج، وإذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب بطوله كالجلد (22).

" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية: أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية هاهنا بيت المقدس، ويؤيده قوله في موضع آخر " ادخلوا الأرض المقدسة " (23).

وقال ابن زيد: إنها أريحا، قرية قريب بيت المقدس، وكان فيها بقايا من قوم عاد، وهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق، أمروا به بعد التيه (24).

فكلوا منها حيث شئتم رغدا: واسعا بما شئتم من أنواع طعام القرية.

وقيل: إن هذه إباحة لهم منه لغنائمها وتملك أموالها، إتماما للنعمة عليهم، ونصبه على المصدر، أو على الحال من الواو.

وادخلوا الباب: أي باب القرية التي أمروا بدخولها.

وقيل: باب القبة التي كان يصلون إليها.

وقيل: باب حطة من بيت المقدس، وهو الباب الثامن، ورجح البيضاوي الاحتمالين الأولين بأنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى (عليه السلام) (25) وفيه أنهم أمروا بدخول الباب بعد خروجهم من التيه، وقد توفي موسى وهارون فيه على ما مر سابقا.

سجدا: مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه.

وقولوا حطة: أي مسألتنا، أو أمرك حطة، كالحلبة، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى حط منا ذنوبنا حطة.

قال البيضاوي: أو على أنه مفعول قولوا: أي قولوا هذه الكلمة (26).

وفيه أنه لا يكون مفعول القول إلا جملة مفيدة، أو مفردا يفيد معناها، كقلت شعرا، فالصواب أن يقال حينئذ معناه قولوا أمرا حاطا لذنوبكم، وقيل: أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها.

وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: نحن باب حطتكم (27).

نغفر لكم خطاياكم: بسجودكم ودعائكم.

وقرئ بالياء، وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول (28).

وخطايا أصله خطائي، كطائع عند سيبويه بدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وصارت الهمزة بين الفين فأبدلت ياء (29) وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر (30).

وسنزيد المحسنين: ثوابا، جعل الامتثال توبة للمسئ وإحسانا، وأخرجه من صورة الجواب، إشعارا بأن الزيادة تفضل منه تعالى، كما قال تعالى: " ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله " (31) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم: أي فخالف الذين عصوا، ففعلوا غير ما أمروا أن يفعلوه، وقالوا غير ما أمروا أن يقولوه.

واختلف في ذلك الغير، فقيل: إنهم قالوا بالسريانية (هاطا سماقانا) وقال بعضهم: (هطا سماقاتا) ومعناه حنطة حمراء فيها شعيرة، وكان قصدهم في ذلك الاستهزاء ومخالفة الامر، وقيل: إنهم قالوا: حنطة، تجاهلا واستهزاء، وكانوا قد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا أو طؤطئ لهم الباب ليدخلوه كذلك، فدخلوه زاحفين على استاهم، فخالفوا في الدخول أيضا.

فأنزلنا على الذين ظلموا: كرره مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعارا بأن الانزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.

رجزا من السماء بما كانوا يفسقون: عذابا مقدرا من السماء بسبب فسقهم.

والزجر في الأصل: ما يعاف عنه، وكذلك الرجس، وقرئ بالضم، وهو لغة فيه، والمراد به الطاعون.

روي أنه مات به في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم و شيوخهم، وبقى الأبناء، فانتقل عنهم العلم والعبادة (32)، كأنه يشير إلى أنهم عوقبوا بإخراج الأفاضل من بينهم.

قال النبي (صلى الله عليه وآله) في الطاعون: إنه رجز عذب به بعض الأمم قبلكم (33)

﴿وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)﴾

وإذ استسقى موسى لقومه: لما عطشوا في التيه.

فقلنا اضرب بعصاك الحجر: اللام فيه للعهد، على ما روي أنه كان حجرا طوريا مربعا فحمله معه، وكان تنبع من كل وجه ثلاث أعين، تسيل كل عين في جدول إلى سبط، كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا.

أو حجرا أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا أو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة ففر به، فقال له جبرئيل: يقول لك الله تعالى: ارفع لي هذا الحجر، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته (34).

وقيل: كانت حجرة فيها اثنتا عشره حفرة، وكانت الحجرة من الكذان وهي حجارة رخوة كأنها مدرة، وكان يخرج من كل حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذونه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء (35).

أو للجنس أي اضرب الشئ الذي يقال له الحجر، قال الحسن: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة (36).

وروي أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى ارض ليست فيها حجارة! فحمل حجرا في مخلاته، فحيثما نزلوا ألقاه، وكان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى الله إليه: لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون! (37).

وروي كان ذراعا في ذراع (38).

وروي أنه كان على شكل رأس الانسان (39).

والعصا كانت عشرة أذرع على طول موسى، من آس الجنة وله شعبتان تتقدان في الظلمة (40).

فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا: الانفجار: الانشقاق، والانبجاس أضيق منه، فيكون أولا انبجاس ثم يصير انفجارا، أو الانبجاس عند الحاجة إليه، والانفجار عند الاحتياج، أو الانبجاس عند الحمل والانفجار عند الوضع، فلا منافاة بينه وبين ما ذكر في سورة الأعراف (فانبجست) (41) والجملة جواب شرط محذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت، أو معطوف على محذوفة تقديره: فضرب فانفجرت، كما مر في قوله: " فتاب عليكم " (42).

وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها، وهما لغتان فيه.

قد علم كل أناس: كل سبط.

مشربهم: عينهم التي يشربون منها.

كلوا واشربوا: على تقدير القول، أي وقلنا لهم.

من رزق الله: يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى، وماء العيون.

وقيل: الماء وحده لأنه شرب ويؤكل ما ينبت به.

ولا تعثوا في الأرض مفسدين: لا تعتدوا حال إفسادكم.


1- مجمع البيان: ج 1، ص 107، في قصة فرعون مع بني إسرائيل.

2- لم نعثر عليه.

3- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 109، وفيه: كان اسمه ميخا.

4- مجمع البيان: ج 1، ص 110.

5- سورة الأنفال: الآية 41.

6- الضبابة: سحابة تغشي الأرض كالدخان. الصحاح: ج 1، ص 168، وفي النهاية لابن الأثير: ج 3، ص 70، في لغة (ضبب) هي البخار المتصاعد من الأرض في يوم الدجن يصير كالظلة تحجب الابصار لظلمتها.

7- الكشاف: ج 1، ص 140.

8- الشفرة بالفتح فالسكون: السكين العريض، وما عرض من الحديد وحدد، والجمع شفار ككلبة وكلاب، وشفرات كسجدة وسجدات، ومنه فحمل عليه بالشفرة يريد السيف، ومنه " أسرع من الشفرة في السنام " مجمع البحرين: ج 3، ص 352، في لغة شفر.

9- أرهفت سيفي إذا رققته وهو مرهف، ومنه: سيوف مرهفات. مجمع البحرين: ج 5، ص 64.

10- بالأقوال الثلاثة نقل الأحاديث، لاحظ جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 1، ص 230، قال ما ملخصه: عن الربيع قال: سمعوا صوتا فصعقوا، يقول: فماتوا، وعن السدي: فأخذتكم الصاعقة نار، وعن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا، وأصل الصاعقة كل أمر هائل إلى آخره.

11- هو نصر بن الصباح، أبو القاسم البلخي من مشايخ أبي عمرو محمد بن عمرو بن عبد العزيز الكشي، وله كتاب المسترشد في الإمامة. طبقات أعلام الشيعة، القرن الرابع، ص 324.

12- سورة النساء: الآية 153.

13- أنوار التنزيل (تفسير البيضاوي): ج 1، ص 57، قال في تفسير الآية الشريفة: فإنهم ظنوا أن الله تعالى يشبه الأجسام وطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والاحياز المقابلة للرائي وهي محال، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولافراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا.

14- سورة الأعراف: الآية 143.

15- سورة الكهف: الآية 12.

16- سورة الأعراف: الآية 143.

17- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 115.

18- الكافي: ج 6، ص 370، كتاب الأطعمة، باب الكمأة، ح 2.

19- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 116، في تفسيره لقوله تعالى: " وضللنا عليهم الغمام ".

20- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 117.

21- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 117.

22- سورة المائدة: الآية 22.

23- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 118.

24- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58.

25- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58.

26- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 119.

27- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58.

28- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58.

29- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58.

30- سورة فاطر: الآية 30.

31- مجمع البيان: ج 1، ص 120، نقله عن ابن زيد، أورده في ذيل الآية الشريفة (فبدل الذين ظلموا) الآية.

32- صحيح مسلم: ج 4، باب 32، الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، ح 92، ولفظ الحديث " قال أسامة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الطاعون رجز أو عذاب ارسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ".

33- الكشاف: ج 1، ص 144، ذيل الآية الشريفة (وإذ استسقى موسى لقومه).

34- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 121.

35- الكشاف: ج 1، ص 144.

36- الكشاف: ج 1، ص 144.

37- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 121.

38- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 121.

39- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 120.

40- سورة الأعراف: الآية 160.

41- سورة البقرة: الآية 54.

42- أجم الطعام: كرهه ومله من المداومة عليه. لسان العرب: ج 12، ص 7، في لغة (أجم).