الآية 21 - 30

﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فرشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)﴾

البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم من الامر حين تعن لهم مصيبته بتوقفهم إذا أظلم عليهم.

وشبه على الثاني ما وقع المنافقون فيه من الضلالة وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثفت ظلمتها بتراكم السحب واتصال قطراتها، وتواترت فيها الرعود الهائلة والبروق المخيفة والصواعق المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت، ولا شك أنك إذا تصورت حالهم بهذه المثابة حصل في نفسك هيئة عجيبة، توصلك إلى معرفة حال المنافقين على وجه يتقاصر عنه تشبيهك إسلام المنافقين والشبهات.

يا أيها الناس اعبدوا ربكم: لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، تنشيطا للسامع، وتفخيما لشأن العبادة.

و (يا) حرف وضع لنداء البعيد، وقد ينادى بها القريب تنزيلا له منزلة البعيد، إما لعظمته، أو لغفلته، أو للاعتناء بالمدعو وزيادة الحث عليه.

وإنما قال (ربكم) تنبيها على أن الموجب القريب للعبادة، هي التربية.

الذي خلقكم: صفة جرت عليه للتعظيم.

والذين من قبلكم: منصوب معطوف على الضمير المنصوب في (خلقكم) و قرئ (من قبلكم) على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا.

لعلكم تتقون: حال من الضمير في (اعبدوا) كأنه قال: اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله.

أو من مفعول خلقكم، والمعطوف عليه، على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى، لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه.

وقيل: تعليل للخلق، أي خلقكم لكي تتقوا.

قال بعض الفضلاء: المنادى ب? (يا أيها الناس) هو الناس الناسي وطن الوحدة، الآنس بأحكام الكثرة، الواصل إلى غاية الحركة النزولية، وذلك أبعد مسافة تكون في الوجود، ولذلك استعمل فيه ما وضع لنداء البعيد، وحيث كان المنادى الحصة الوجودية المتعينة من الحقيقة المطلقة الغالب عليها في مبدأ حالها الاطلاق والابهام، ثم يتخصص ويتحصص بالمرور على المراتب والاتصاف بأحكامها، حتى يصل إلى المرتبة الانسانية الوجودية الشهادية العنصرية، عبر عنه أولا بكلمة (أي) الدلالة على الابهام، ووصف ثانيا ب? (الناس) الدال على كمال تخصصها.

ولما كان وصولها إلى هذه المرتبة بتوسط مراتب كثيرة - منبعثة من باطن الغيب إلى أقصى مراتب الشهادة - أشير إليها بحرفي التنبيه، المنبعث أولهما من باطن القلب، أعني (الهاء) وثانيهما من ساذج مار على المراتب كلها أعني الألف.

ومعنى قوله: (اعبدوا ربكم) تحققوا بعبوديته المحضة التي لا تشوبها عبودية السوى، بأن تتوهموا أن فيكم ربوبيته بالنسبة إلى غيره سبحانه (الذي خلقكم) أي ظهر بظهوركم، فهو الظاهر فيكم وأنتم المظاهر له، فما ظهر فيكم من خصائص الربوبية فهو من الرب الظاهر فيكم لا أنتم " وخلق الذين من قبلكم " أي ظهر بصورة من تقدمكم بوصول آثار الربوبية منهم إليكم، فهو الظاهر فيهم وهم المظاهر له، فما وصل منهم إليكم من آثار الربوبية فهو من الرب الظاهر لا منهم، ما انقطعت نسبة عبوديتكم عنه، وحيث وصلتم إلى شهود هذا المعنى، فأنتم عبيد متصفون بمحض العبودية، لم يبق فيكم عبودية ولا ربوبية بالنسبة إلى غيره سبحانه (لعلكم تتقون) أي عما يخرجكم عن العبودية المحضة.

ولما كان كلامه سبحانه - بصورة الصوت والحرف المثالين أو الحسيين - لا يصدر إلا بواسطة مظاهره المثالية أو الحسية، فلا يبعد أن يتحقق معنى الترجي بالنسبة إلى بعض هذه المظاهر، ويكون إيراد كلمة (لعل) بالنظر إليه، فإن نسبة مظاهر التكلم إلى المتكلم أقوى مما سواه إليه، كما لا يخفى على ذوي البصائر، والله سبحانه يتولى السرائر.

الذي جعل لكم الأرض فرشا: منصوب المحل على الوصفية، ك? (الذي خلقكم) أو على المدح بتقدير أعني، أو أخص أو أمدح.

في كلام بعض النحاة ما يشعر بأن القطع بالنصب إنما يجوز فيما إذا كان الموصوف مرفوعا أو مجرورا، وهو الأظهر، لان الاشعار بالمدح إنما يكون حيث يكون في التابع مخالفة للمتبوع، وفي الصورة المفروضة وإن كان مخالفة حكمية، لكنه لا يظهر بالنسبة إلى المخاطب حتى يشعر بقصد المدح.

أو على أنه مفعول (تتقون) أو مرفوع على الخبرية، وفيه ما في النصب من المدح، أو على الابتداء بأن يكون خبره (فلا تجعلوا).

و (جعل) من أفعال الغاية يجئ على ثلاثة أوجه: بمعنى طفق من أفعال القلوب، فلا يتعدى.

وبمعنى أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) (1).

وبمعنى صير، فيتعدى إلى مفعولين كما في الآية.

والتصيير يكون بالفعل تارة، وبالقول والعقد أخرى، ف? (الأرض) مفعوله الأول و (فراشا) مفعوله الثاني.

ويحتمل أن يكون من قبيل الاستعمال الثاني، أي خلق الأرض حال كونه مقدرا، بكسر الدال، إياها فراشا، إذا كان فراشا حالا من الفاعل، أو حال كون الأرض مقدرة، بفتح الدال فراشا، إذا كان حالا من المفعول.

و (لكم) متعلق ب? (جعل) واللام للانتفاع، أي لانتفاعكم.

وقد جاء ناقصا بمعنى صار في قول الشاعر: فقد جعلت قلوص بني سهيل * من الأكوار مرتعها قريب (2) وقرئ و (جعل لكم) بالادغام، لاجتماع حرفين من جنس واحد، وكثرة الحركات.

و (الأرض) هي المفروشة، وقوائم الدابة، وعليه قول الشاعر: وأحمر كالديباج أما سماؤه * فريا وأما أرضه فمحول (3) والرعدة: وعليه كلام ابن عباس: " أزلزالت الأرض أم بي أرض " (4).

و (الفراش) ما يفترش ويستقر عليه وقرأ يزيد الشامي (بساطا) وطلحة (مهادا).

قال الجوهري في الصحاح: المهد مهد الصبي، والمهاد الفراش (5)، ومعنى جعلها فراشا، أو بساطا، أو مهادا أنه جعل بعض جوانبها على خلاف طبعها بارزا من الماء، متوسطا بين الصلابة واللطافة، حتى صارت مهيأة لان يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، ولا يدل الافتراش على التسطيح، لان الكرة إذا عظم جرمها غير مانعة عن الافتراش.

والسماء بناء: معطوفان على ما قبلهما بعاطف واحد.

وإن أبيت فقدر فعلا معطوفا على الفعل الذي قبله.

والسماء اسم جنس، أو جمع سماة، والبناء مصدر بمعنى المفعول، أي جعل السماء قبة، أو قبابا مبنية، أي مضروبة عليكم.

فإن المبني وإن كان أعم من القبة، ولا دلالة للعام على الخاص، لكنه أشبه بالسماء لاستدارتها، ومنه بنى على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا.

وأنزل من السماء ماء: عطف على (جعل) أي أنزل من جهة العلو، أو من أسباب سماوية تثير الاجزاء الرطبة إلى جو الهواء، فتنعقد سحابا ماطرا، أو من السحاب، فإن ما علاك سماء.

ولفظة (من) لابتداء الغاية، فإن ابتداء نزول المطر إنما هو من السماء بكل واحد من هذه المعاني.

ووضع هنا (أنزل) مكان نزل، للمناسبة مع ما عطف عليه.

فأخرج به من الثمرات رزقا لكم: الباء فيه للسببية، أي جعل الماء سببا في خروج الثمرات ومادة لها، وهو قادر على إيجاد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد، كما أبدع نفس الأسباب والمواد، إلا أن له تعالى في إنشاء الأشياء بأسبابها و موادها تدريجا، حكما ليست في إنشائها مبادهة وبغتة.

و (من) فيه تبعيضية، بشهادة قوله تعالى: " فأخرجنا به ثمرات " (6) فإن تنكير ثمرات يدل على البعضية، لتبادرها منه سيما في جموع القلة.

وبشهادة أن ما قبله وما بعده، أعني (ماء) و (رزقا) محمولان على البعض، فليكن هو موافقا لهما.

وبشهادة الواقع، فإن الله سبحانه لم ينزل من السماء كل الماء بل بعضه، إذ رب ماء بعد في السماء، ولم يخرج بالماء المنزل منها كل الثمرات بل بعضها، فكم من ثمرة هي غير مخرجة، ولم يجعل المخرج كل الرزق، بل بعضه.

والثمرات المخرجة بماء السماء كثيرة، فالتعبير عنها بجمع القلة، إما بناء على أن الثمرات هنا جمع الثمرة التي يراد بها الكثرة - كالثمار - لا الوحدة، كما في قولك: أدركت ثمرة بستانه، ويؤيده قراءة من قرأ (الثمرة) على التوحيد، فيكون أبلغ ولا أقل من المساواة.

أو على أنها جمع قلة وقعت موقع جمع الكثرة، كجنات في قوله: (كم تركوا من جنات) (7).

على أن المشهور أن الفرق بين الجمعين في القلة والكثرة إنما هو إذا كانا منكرين، وإذا عرف بلام الجنس في مقام المبالغة فكل منهما للاستغراق بلا فرق.

والرزق إن كان بمعناه المصدري، فنصبه إما على أنه مفعول له، والمعنى أخرج شيئا من الثمرات لان يرزقكم، أو على المصدرية، فإن في إخراج الثمرات معنى الرزق، وعلى التقديرين يكون قوله (لكم) ظرفا لغوا، مفعولا به لرزق، واللام إما زائدة، أو للتقوية.

وإن كان بمعنى المرزوق، فانتصابه على أنه حال من مفعول (أخرج) أي من الثمرات، أو على أنه مفعول به لأخرج، و (من الثمرات) بيان له فقدم عليه، فصار حالا منه، ولكن تكون (من) بيانية لا تبعيضية، وعلى هذين التقديرين، يكون (لكم) ظرفا مستقرا، صفة لرزق، ويحتمل على التقادير أن يكون متعلقا ب? (أخرج).

وفي تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قوله عز وجل: " جعل لكم الأرض فراشا " تفرشونها لمنامكم ومقيلكم، والسماء بناء، سقفا محفوظا، ارتفع من الأرض، تجري شمسها وقمرها وكواكبها مسخرة لمنافع عباده وإمائه، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: لا تعجبوا لحفظه السماء ان تقع على الأرض، فإن الله عز وجل يحفظ ما هو أعظم من ذلك، قالوا: وما هو؟قال: من ذلك ثواب طاعة المحبين لمحمد وآله، ثم قال: وأنزل من السماء ماء، يعني المطر ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي يأمر به ربه عز وجل فعجبوا من ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أو تستكثرون عدد هؤلاء؟إن الملائكة المستغفرين لمحبي علي بن أبي طالب أكثر من عدد هؤلاء، وإن الملائكة اللاعنين لمبغضيه أكثر من عدد هؤلاء، ثم قال عز وجل: " فأخرج به من الثمرات رزقا لكم " ألا ترون كثرة هذه الأوراق والحبوب والحشائش؟قالوا: بلى يا رسول الله ما أكثر عددها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أكثر عددا منها ملائكة يتبذلون في حمل أطباق النور، عليها التحف من عند ربهم، وفوقها مناديل النور، ويخدمونهم في حمل ما يحمل منها إلى شيعتهم ومحبيهم، وإن طبقا من تلك الاطباق يشمل من الخيرات على ما لا يفي بأقل جزء منه جميع أموال الدنيا (8).

فلا تجعلوا لله أندادا: متفرع على الامر بالعبادة.

والمعنى إذا استحق ربكم الذي خلقكم العبادة وكنتم مأمورين بها، فلا تشركوا به أحدا، لتكون عبادتكم مبنية على ما هو أصل العبادة وأساسها، أعني توحيده، وأن لا تجعلوا له أندادا، أو معطوف على الامر قبله.

وفيه أن الأولى حينئذ العطف بالواو كقوله: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا " (9).

أو منصوب بإضمار (إن) في جواب الامر، كما في " زرني فأكرمك "، وفيه أن الشرط في ذلك كون الأول سببا للثاني، والعبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو معناه.

أو منصوب بتقدير (أن) في جواب لعل نصب فاطلع في قوله تعالى: " لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع " (10) بناء على تشبيه (لعل) ب? (ليت) وإلحاقا بالأشياء الستة التي تحذف (أن) عن الفعل المضارع بعد الفاء الواقعة بعدها.

أو متعلق ب? " الذي جعل " إذا كان مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، فيكون نهيا مترتبا على ما تتضمنه هذه الجملة، أي هو الذي خلقكم بدلائل التوحيد فلا تشركوا به شيئا.

أو على أنه مبتدأ، و (لا تجعلوا) نهي وقع خبرا عنه على تأويل مقول فيه (لا تجعلوا).

والفاء للسببية، أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط.

والمعنى أن من حفكم بهذه النعم الجسام ينبغي أن لا يشرك به.

والجعل هنا بمعنى التصيير، فيتعدى إلى مفعولين، أولهما أندادا، وثانيهما الجار والمجرور قبله.

أو بمعنى الخلق والايجاد، والمعنى لا توجدوا له في إعتقادكم وقولكم أندادا.

والفائدة في تقديم المفعول الثاني، أو الجار والمجرور، إفادة الحصر، والإشارة إلى أن المنهي عنه جعل الند لله تعالى.

وأما بالنسبة إلى الفاعلين فجعل الند والشريك واجب، لئلا يلزم التفويض، كما قال (عليه السلام): لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين (11).

وقرئ (فلا تجعلوا لله ندا).

والند: المثل المناوئ أي المخالف، من ند ندودا، إذا نفر، وفي تسميته ما يعبدونه ندا، لما عظموه وسموه إلها، وإن لم يزعموا أنه يماثله أو يخالفه تهكم به.

وفي إيراد صيغة الجمع، حيث دلت على أنهم جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند واحد، زيادة تهكم.

وأنتم تعلمون: حال من فاعل (فلا تجعلوا) والمقصود منه التوبيخ، لا تقييد الحكم به، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكاليف.

ومفعول (تعلمون) متروك، لتنزيله منزلة اللازم مبالغة، أي وحالكم وصفتكم أنكم من أهل العلم والتمييز بين الصحيح والفاسد، ثم أن ما أنتم عليه من أمر دينكم من جعل الأصنام لله أندادا، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل، أو مقدر بوجود القرينة المقالية أو الحالية، أي وأنتم تعلمون أنه تعالى لا مثل له ولا ضد.

أو وأنتم تعلمون ما بينه وما بينها من التفاوت، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله، إلى غير ذلك مما يناسب المقام.

وفي كتاب التوحيد، في باب أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح روي بإسناده عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قول الله عز وجل " الذي جعل لكم الأرض فراشا " جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسامكم، لم يجعل شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم و أبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنه - عز وجل - جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم ثم قال عز وجل: " والسماء بناء " سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثم قال عز وجل: " وأنزل من السماء ماء " يعني المطر ينزل من علو، ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم (12) وأوهادكم (13)، ثم فرقه رذاذا (14) ووابلا (15) وهطلا (16) وطلا (17) لتنشفه أرضوكم.

ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم، ثم قال عز وجل: " فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا " أي أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ، (وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك و تعالى.

انتهى (18).

وذكر هذا الحديث بعينه في عيون أخبار الرضا في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الاخبار في التوحيد (19).

وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث في تفسيره.

ثم قال: ففي التفسير المنسوب إلى مولانا العسكري (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام) في قوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " يعني سائر المكلفين من ولد آدم (عليه السلام)، اعبدوا ربكم، أطيعوا ربكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ولا شبيه له، ولا مثل له، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حكيم لا يخطل، وأن محمدا عبده و رسوله (صلى الله عليه وآله الطيبين)، وأن آل محمد أفضل آل النبيين، وأن عليا أفضل أصحاب محمد، المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين، وأن أمة محمد أفضل أمم المرسلين.

انتهى (20) ثم قال: ويفهم من هذا الكلام أن الأمم الماضية كانوا مأمورين بتلك الاعتقادات، وهذا هو الحق كما هو مذكور في كثير من الروايات.

أقول: كأن العلامة - رحمه الله - فهم ذلك من تفسيره (عليه السلام): " يا أيها الناس "، بسائر المكلفين، يعني جميع المكلفين، وهو غلط فاحش، فإن السائر بمعنى الباقي مبتذل في اللغة متعارف في العرف، قال بعض أهل اللغة: السائر مشتق من السؤر، وهو بقية ما يشرب، ولا يستعمل بمعنى الجميع لا في اللغة ولا في العرف، وقد وقع ذلك في كلام بعض المفسرين.

قال بعض الفضلاء: وتأويل الآية في بعض بطونها أن يقال: هو، أي ربكم الذي أمرتم أن تعبدوه وتتحققوا بعبوديته المحضة، هو الذي جعل لكم أرض العبودية.

﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)﴾

فراشا تتقلبون فيها بأنواع العبادات، وسماء الأسماء الربوبية فيه مضروبة عليكم محيطة بكم، بحيث لا يمكنكم الخروج عن إحاطتها بشمول آثارها، وأنزل من هذه السماء ماء العلوم والمعارف على تلك الأرض، فأخرج ثمرات الأحوال والأذواق والمواجيد، رزقا لكم تغتذون وتتقون به بقلوبكم وأرواحكم، فلا تجعلوا لله أندادا تعبدونها كما تعبدونه، والحال أنكم تعلمون أنه لا معبود سواه، ولا ينبغي أن يجعل أحد قبلة عبادته إلا إياه.

وإن كنتم في ريب: لما كانت العبادة المأمور بها موقوفة على أمرين: أحدهما: إثبات الوحدانية وإبطال الاشراك، وقد أشير إليه بالأوصاف المجراة على ربهم الذي أمروا بعبادته.

والثاني: إثبات النبوة التي يقع بها الترغيب والترهيب، وتعريف طرق العبادة وتعيينها، فلذلك أشار إليه بإزاحة الشبهة عن كون القرآن معجزا دالا على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) وهو معطوف على قوله: " يا أيها الناس " والظرف مستقر في موضع خبر كان.

والمعنى: وإن كنتم في ريب يحيط بكم إحاطة الظرف بالمظروف.

مما نزلنا على عبدنا: أي من شئ، أو من الذي نزلناه، ويحتمل مرجوحا أن يكون المعنى من تنزيلنا.

وإنما أتى بكلمة (إن) الدالة على عدم الجزم بالوقوع، والريب متحقق من هؤلاء الكفار، تنبيها على أنه لا ينبغي حصول هذا الريب من العقلاء، فكيف يجزم به، بل لو جوزه مجوز فإنما يكون بمحض الاحتمال العقلي.

ولهذا السبب بعينه قال: " في ريب " وإن كان أكثرهم ينكرون.

وإنما أتى بالتنزيل المنبئ عن التدريج، لان النزول التدريجي كان أحد أسباب طعنهم وارتيابهم في القرآن، فإنهم كانوا يطعنون في القرآن ويرتابون فيه، من حيث أنه كان مدرجا على قانون الخطابة والشعر، فإن الناثر لا يرمي بمجموع خطبه أو رسائله دفعة، والناظم لا يلقي ديوان شعره ضربة، بل مفرقا حينا فحينا و شيئا فشيئا، فكانوا يقولون: لولا انزل عليه القرآن خلاف هذه العادة جملة واحدة! فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي انزل تدريجا، فهاتوا أنتم بنجم من نجومه وسورة من سوره، فإنه أيسر عليكم من أن ينزل الجملة دفعة واحدة.

قيل: التدريج هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل مرة بعد مرة، والتضعيف الدال على ذلك من شرطه أن يكون في الافعال المتعدية قبل التضعيف غالبا، نحو فتحت الباب، ولا يقال: جلس زيد لإرادة التدريج والتكثير، لأنه لم يكن متعديا قبل التضعيف، وإنما جعله تضعيفه متعديا.

وقولنا غالبا، لأنه قد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم، نحو موت المال.

ويعلم من ذلك أن التضعيف الدال على الكثرة لا يجعل اللازم متعديا.

فظهر من ذلك أن تضعيف (نزل) للتعدية دون التدريج.

وأيضا يحتاج قوله تعالى: " لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " (21) وقوله: " لولا نزل عليه آية " (22) وقوله: " لنزلنا عليهم ملكا رسولا " (23) إلى تأويل.

وفي (نزلنا) التفات من الغيبة إلى التكلم، لان قبله " اعبدوا ربكم " فلو جاء الكلام عليه لقيل: مما نزل على عبده، لكنه التفت للتفخيم.

وعبر عنه بالعبد، لان أعلى المقامات مقام العبدية، فإن المطلق لا ينصرف إلا على الكامل.

وقرئ " على عبادنا " والمراد به نبينا (صلى الله عليه وآله) وأمته، فإنه كما نزل عليه بواسطة جبرئيل نزل على بعض أمته بواسطته، وينزل على بعضهم بواسطة البعض إلى يوم القيامة، أو جميع الأنبياء (عليهم السلام).

فأتوا بسورة: جزاء للشرط، والامر تعجيزي ليظهر عجزهم، ويزول ريبهم.

والسورة طائفة من القرآن مترجمة، لا تكون أقل من ثلاث آيات، فخرج بقولنا: مترجمة، الآيات المتعددة من سورة واحدة، أو متفرقة، وما هو أكثر منها واحدة كمجموع سورتين.

وبقولنا: لا تكون أقل من ثلاث آيات، تخرج آية الكرسي، و آية المداينة، من غير حاجة إلى أن يتكلف ويقال: هذا مجرد إضافة لم تصل إلى حد التسمية.

وواوها إن كانت أصلية، فهي إما منقولة من سور المدينة، وهو حائطها، على وجهين: أحدهما: أن تجعل السورة بمعنى المسورة، كما يراد بالحائط المحوطة، وهو البستان، ثم ينقل إلى طائفة محدودة من القرآن، وهو نقل مرتب على تجوز.

وثانيهما: أن ينقل من سورة المدينة إليها بغير واسطة، لأنها يحيط بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على انفرادها، أو محتوية على أنواع من العلم، إحاطة سورة المدينة بما فيها واحتواءها عليه.

وجمع سورة القرآن: السور بفتح الواو، وجمع سورة المدينة على سور بسكونها، أو من السورة بمعنى المرتبة، قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى * كل ملك دونها يتذبذب (24) ثم إن الرتبة إن جعلت حسية، فلان السور كالمراتب والمنازل يتقلب فيها القارئ ويقف عند بعضها، أو لأنها في أنفسها منازل مفصلة بعضها من بعض، متفاوتة في الطول والقصر والتوسط.

وإن جعلت معنوية، فلتفاوتها في الفضل والشرف والبلاغة.

وإن كانت واوها مبدلة عن الهمزة، فمن السؤرة التي هي البقية والقطعة من الشئ.

وضعف هذا الوجه من حيث اللفظ، إذا لم تستعمل مهموزة في السعة ولا في الشاذة المنقولة في كتاب مشهور، وإن أشعر به كلام الأزهري حيث قال: و أكثر القراء على ترك الهمزة في لفظ السورة (25).

وأما من حيث المعنى فلأنها اسم ينبئ عن قلة وحقارة.

وأيضا استعماله فيما فضل بعد ذهاب الأكثر، ولا ذهاب هنا إلا تقديرا باعتبار النظر إليها نفسها، فكأنها قد ذهب ما عداها.

من مثله: إما ظرف مستقر صفة لسورة، أو ظرف لغو ل? (فأتوا)، والضمير على كل من التقديرين إما عائد إلى (ما نزلنا) أو إلى (عبدنا).

فهذه أربع صور: أولها: أن يكون الظرف صفة ل? (سورة)، والضمير عائد إلى ما (نزلنا) وكلمة (من) بيانية، لان السورة المفروضة التي بها الامر التعجيزي مثل المنزل في حسن النظم والغرابة في البيان.

والعجز إنما هو عن الاتيان بالمثل الذي هو المأمور به، وإن جعلت تبعيضية أوهمت أن للمنزل مثلا عجزوا من الاتيان ببعضه، كأنه قيل: فأتوا ببعض ما هو مثل للمنزل، فالمماثلة المصرح بها ليست من تتمة المعجوز منه حتى يفهم أنها منشأ العجز.

وكذا الحال إن جعلت ابتدائية، فإنها توهم أن للمنزل مثلا عجزوا عن الاتيان بسورة مبتدأة منه، فالمماثلة من تتمة المعجوز منه، مع أن في مبدئية الكل للجزء خفاء، وذهب الأخفش إلى أنها زائدة (26).

وثانيها: أن يكون الظرف صفة لسورة، والضمير عائد إلى عبدنا، وحينئذ يتعين أن تكون (من) ابتدائية، فإن السورة مبتدأة، ناشئة من مثل العبد.

ولا وجه لسائر المعاني.

ولا يذهب عليك أن الاتيان بسورة من مثل هذا العبد، ليس بمعجوز عنه ما لم يعتبر مثلية سورة للسور القرآنية في حسن النظم وغرابة البيان.

وثالثها: أن يكون الظرف متعلقا ب? (فأتوا) والضمير عائد إلى (ما نزلنا).

وهجر هذا الوجه، فإن (فأتوا) أمر قصد به تعجيزهم باعتبار المأتي به، فلو تعلق به (من مثله) وكان الضمير للمنزل تبادر منه أن له مثلا محققا جامعا لأمثال السور القرآنية، وأن عجزهم إنما هو عن الاتيان بسورة منه، بخلاف ما إذا كان صفة للسورة، فإن المعجوز عنه حينئذ هو الاتيان بسورة مماثلة للقرآن في حسن النظم وغرابة البيان، وهذا لا يقتضي وجود مثل ذلك.

وحاصله أن قولنا: إئت من مثل الحماسة ببيت، يقتضي وجود المثل لها، بأن يكون هناك كتاب محقق جامع لكثير من أشعار بلغاء العرب ويؤتى ببيت منه، بخلاف ائت ببيت من مثل الحماسة إذا كانت (من) بيانية، ويكون حاصل المعنى: ببيت يماثل الحماسة في الفصاحة والبلاغة، فإن ذلك لا يقتضي تحقق كتاب جامع مثلها، نعم إذا كانت (من) ابتدائية أو تبعيضية، يقتضي ذلك من غير فرق.

رابعها: أن يكون الضمير عائدا إلى (عبدنا) وحينئذ يكون (من) ابتدائية، وهذا لا يقتضي إلا أن يكون للعبد مثل في كونه بشرا عربيا أميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، ولا محذور في ذلك، لكن ينبغي أن يعتبر مثلية سورة للسور القرآنية، كما في الصورة الثانية.

ورد الضمير إلى المنزل أوجه من ستة وجوه: الأول: الموافقة لقوله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " ونظائره، لان المماثلة فيها صفة للمأتي به، فكذا هاهنا إذ جعل الظرف صفة للسورة والضمير عائدا إلى المنزل، و (من) بيانية أو زائدة.

والثاني: أن الكلام واقع في المنزل، لان ارتيابهم المفروض إنما وقع فيه، ولو رد الضمير إلى العبد، كان حق الترتيب أن يقال: إن كان لكم ريب في عبدنا المنزل عليه القرآن فأتوا بسورة من مثله.

والثالث: أن الضمير إذا رد إلى المنزل، يكون طلب المعارضة من الجميع، وإذا كان للمنزل عليه يكون طلب المعارضة من واحد منهم، إذ لا معنى لخطاب الجماعة بأن ائتوا بسورة من واحد منكم، بل الطلب بالحقيقة من واحد منهم، كأنه قال: فليأت واحد منكم بسورة.

ولا شك أن طلب المعارضة من الجميع أبلغ من طلب المعارضة من واحد، لجواز عجز واحد وإتيان الجميع بها.

والرابع: أنه معجز في نفسه، لا بالنسبة إلى مثله، لقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " (27).

والخامس: أنه لو كان رجع الضمير إلى العبد، لكان ذلك يوهم أن صدور القرآن عمن لم يكن مثل العبد في كونه أميا ممكن.

والسادس: أن رد الضمير إلى المنزل هو الملائم لقوله: وادعوا شهداءكم: لان معناه على الوجوه المذكورة فيما بعد راجع إلى (ادعوا شهداءكم) ليعاونوكم أو يشهدوا لكم.

وهذا المعنى لا يلائم إلا رد الضمير في (مثله) إلى المنزل.

ولما ترجح عود الضمير إلى المنزل بهذه الوجوه، ترجح أيضا كون الظرف صفة للسورة، لأنه إذا تعلق ب? (فأتوا) عاد الضمير إلى العبد، لما تحققته.

و " الشهداء " جميع شهيد، كالظرفاء جمع ظريف، بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، أو الامام، فكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله: شهيد، لأنه حضر ما كان يرجوه، أو الملائكة حضروه.

قال الجوهري في الصحاح: الشهادة الخبر القاطع، تقول منه: شهد الرجل على كذا، أو شهد له بكذا، أي أدى ما عنده من الشهادة، فهو شاهد، ويقال: شهده شهودا، أي حضره، فهو شاهد.

والشهيد: الشاهد، والجمع: الشهداء (28).

فالمراد ب? (الشهداء) إما المقيمون للشهادة، والمعنى ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله، أو الحاضرون الناصرون، والمعنى: ادعوا أعوانكم وأنصاركم حتى يعينوكم على إتيان مثله.

أو آلهتهم الذين عبدوهم وأطاعوهم، والمعنى: ادعوا آلهتكم الذين تعبدونهم حتى يعينوكم بإتيان سورة واحدة من جنس ما أتى به عبدنا.

من دون الله: دون في أصله للتفاوت في الأمكنة، يقال لمن هو أنزل مكانا من الآخر: هو دون الأول، فهو ظرف مكان مثل عند، إلا أنه ينبئ عن دنو أكثر وانحطاط قليل، ومنه تدوين الكتب، لأنه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا، أي خذه من أدنى منك مكان، ثم اتسع فيه واستعمل في انحطاط لا يكون في المكان كقصر القامة مثلا، ثم استعير منه للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب المحسوسة، وشاع استعماله أكثر من استعماله في الأصل نحو زيد دون عمرو، أي في الشرف، ومنه الشئ الدون، ثم اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وإن لم يكن هناك تفاوت وانحطاط، فهو في هذا المعنى مجاز في المرتبة الثالثة، قال تعالى: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " (29) أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين، وقال أمية: يا نفس مالك دون الله من واق (30).

أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره، وهو بهذا المعنى قريب من أن يكون بمعنى غير، كأنه أداة استثناء.

والأحسن هنا أن يكون بمنزلة أداة استثناء، أو بمعنى أدنى مكان من شئ، فيستعار لمعنى قدام الشئ وبين يديه، وكلمة (من) إذا كان دون بمعنى القدام تبعيضية، لان الفعل يقع في بعض الجهة، وهو ظرف لغو معمول ل? (شهداءكم) إذ يكفيه رائحة الفعل، فلا حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير يشهد، وإذا كان بمعنى أدنى مكان من شئ ابتدائية متعلقة ب? (ادعوا) وكذا إن كان بمعنى التجاوز عن حد إلى حد، لكنه ظرف مستقر وقع حالا، والعامل فيها (ادعوا) أو (شهداءكم).

وقد يقال: كلمة " من " الداخلة على " دون " في جميع مواضعها بمعنى " في " كما في سائر الظروف غير المتصرفة، أي التي تكون منصوبة على الظرفية أبدا، ولا تنجز إلا ب? " من " خاصة، قال الشيخ الرضي: " من " في الظرف كثيرا ما تقع بمعنى " في " نحو جئت من قبل زيد ومن عنده، ومن بيننا وبينك حجابا مستورا (31) وكنت من قدامك.

إن كنتم صادقين: في وضع الحال من فاعل (فأتوا) ولهذا لا يحتاج إلى الجزاء، أو جوابه محذوف دل عليه ما قبله ومفعوله محذوف، والمعنى: إن كنتم صادقين أنه من كلام البشر.

والصدق: الاخبار المطابق، وقيل: مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو امارة، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم: " إنك لرسول الله " (32) لما لم يعتقدوا مطابقته.

ورد بصرف التكذيب إلى قولهم " نشهد " لان الشهادة إخبار عما علمه، وهم ما كانوا عالمين، أو " إن كنتم صادقين " في ريبكم، والصدق في الريب أن يكون ناشئا عن شبهة، لا عن الجحود والانكار.

والمعنى: إن كنتم في ريب مما نزلنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا الشهداء للمعاونة ليظهر عجزكم وعجزهم فيزول ريبكم، و ذلك بشرط أن تكونوا من الصادقين في ريبكم، وذلك إذا نشأ عن شبهة، وأما إذا كان من الجحود والانكار فلا يمكن زواله.

وفي الآية دلالة على نبوته (صلى الله عليه وآله)، فإنه كان موفور العقل والمعرفة بالعواقب، فلو تطرقت تهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته، بل كان ينبغي أن يكون خائفا من أن يعارض فتدحض حجته، حاشاه من ذلك (صلى الله عليه وآله).

فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة: ولما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول وما جاء به وميز لهم الحق عن الباطل، رتب عليه ما هو كالنتيجة له، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضة وعجزتم جميعا عن الاتيان بما يساويه أو يدانيه، ظهر أنه معجز والتصديق به واجب، فآمنوا واتقوا العذاب المعد لمن كذب، فعبر عن الاتيان المكنف بالفعل الذي يعم الاتيان به وغيره إيجازا، و لزم لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية، تقريرا للمكنى عنه وتهويلا لشأن العناد، وتصريحا بالوعيد مع الايجاز.

وإنما أتى ب? (إن) الذي للشك دون (إذا) الذي للوجوب مع أن ظاهر الحال يقتضي ذلك، تهكما بهم تهكم الواثق بغلبته على من يعاديه، حيث يقول له: إن غلبتك لم ابق عليك، أو خطابا معهم على حسب ظنهم، فإن العجز قبل لم يكن محققا عندهم، أو حفظا لمشاكلة صدر الآية السابقة.

والمعنى: فإن لم تفعلوا، أي لم تقدروا على الفعل الذي هو الاتيان المكيف، بقرينة ما سبق، ومحقق أنكم لا تقدرون، بناء على أنه اعتراض، فاتقوا النار إلى آخره.

وبما قررناه ظهر فساد ما قاله العلامة السبزواري في تفسيره، قال: ويخطر بالبال أن الحالية في كمال الاستقامة، وإن أطبق المفسرون على أنها اعتراضية.

والمعنى: أنكم لم تأتوا بسورة حال كونكم غير قادرين على الاتيان بها، وحينئذ ترتب الجزاء على الشرط، إذ بمجرد عدم الفعل لا يعلم عدم صحة القدرة حتى يترتب عليه اتقاء النار، بل يمكن أن لا يعتنوا بشأنه، وعدم القدرة من تأييد النفي، إذ لو تحقق القدرة منهم لاتى واحد من هؤلاء بما طلبوا في زمان من الأزمنة، ليتخلصوا من القتل والغارة وذل إعطاء الجزية.

ثم كتب في الحاشية: قال الشيخ الرضي في شرح الكافية: ويشترط في المضارع الواقع حالا خلوه عن حرف الاستقبال، كالسين ولن ونحوهما.

وذلك لان الحال الذي نحن في بابه والحال الذي يدل عليه المضارع وإن تباينا حقيقة، لان في قولك مثلا: اضرب زيدا غدا يركب، لفظ يركب حال بأحد المعنيين غير حال بالآخر، لأنه ليس في زمان التكلم، لكنهم التزموا تجريد صدر هذه الجملة - أي المصدرة بالمضارع - عن علم الاستقبال لتناقض الحال والاستقبال في الظاهر، وإن لم يكن التناقض هنا حقيقيا.

ولمثله التزموا لفظة (قد) إما ظاهرة أو مقدرة في الماضي إذا كان حالا مع أن حاليته بالنظر إلى عامله، ولفظة (قد) تقرب الماضي من حال التكلم فقط، وذلك لأنه كان يتنافى في الظاهر لفظ الماضي والحالية فقالوا: جاء زيد العام الأول وقد ركب، فالمجئ بلفظ (قد) هنا لظاهر الحالية، كما أن التجريد عن حرف الاستقبال في المضارع لذلك.

(33) انتهى.

والعلامة التفتازاني: اقتفى أثره في المطول (34).

والمحقق الشريف في حاشية المطول رد عليه وقال: وهذا الوجه وإن كان منقولا في الموضعين عن كلام الرضي، لكنه غير مرضي كما ترى.

والصواب أن يقال: إن الافعال إذا وقعت قيودا لما له اختصاص بأحد الأزمنة فهم منها استقباليتها وحاليتها وماضويتها بالقياس إلى ذلك المقيد لا إلى زمان التكلم كما في معانيها الحقيقية، وليس ذلك بمستبعد، انتهى (35).

وابن هشام في مغني اللبيب في تمييز الجمل المعترضة عن الحالية صرح بأن المصدرة بحروف الاستقبال اعتراضية، وشنع على من جعلها حالية، لكن لم ينقل الوجه هنا (36).

وأنا أقول: إن كان يعلم من تتبع كلام الفصحاء من العرب العرباء، أن أمثال هذه اعتراضية وليست بحالية وأنهم لم يستعملوها حالا، لكان لكلام النحاة وجه، ويحسن منهم ارتكاب ما ارتكبوا في هذا الباب، ومعلوم أن الامر ليس كذلك.

وعدم شيوع دخول الحرف والاستقبال على الجمل الحالية لا يوجب الحكم بالامتناع ووجوب خلو الحال عنها إذا لم يكن يلزم المفارقة في الزمان بينها وبين صاحبها، وبمحض قول جماعة إذا علم مأخذ قولهم لا تجب متابعتهم وإن كانوا مشاهير، خصوصا إذا لم يوجد ذلك الاشتراط في كلام من هو أشهر منهم، انتهى كلام ذلك العلامة.

فلينظر إلى ما في هذا الكلام من الخبط.

ثم قال: وعلى التقديرين.

هذا الكلام معجزة أخرى له (عليه السلام)، إذ أخبر وكان كما أخبر.

أقول: على تقدير كونه اعتراضا معجزة، وعلى تقدير كونه حالا - كما قال - فلا، فإن الجمل التي لها محل من الاعراب وقعت موقع المفردات، فتكون نسبها ملحوظة اجمالا، ولا يصح اتصافها بالصدق والكذب.

والوقود بالفتح: الحطب ترفع به النار، وأما المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح.

وقرئ بالضم على أنه مصدر مستعمل بمعنى المفعول مجازا لغويا، فأريد بالوقود ما يتوقد به، كما يراد بفخر قومه ما يفتخرون به، وبزين بلده ما يتزين به بلده أو على أنه حقيقة، والمجاز إسناد الناس إليه وحمل عليه، كما في قولك: حياة المصباح السليط، أي الزيت الجيد، فقد جعل السليط الذي به قوام حياته عينها و محمولا لها.

وفي قراءة فتح الواو على تقدير المصدرية، يجري هذان الوجهان.

ووجه بتقدير مضاف، إما في جانب المبتدأ والخبر، كما يقال: أصحاب وقودها الناس والحجارة، أو وقودها إحراق الناس والحجارة.

والحجارة جمع حجر، كجمالة جمع جمل، وهو قليل غير منقاس.

والمراد بها إما أصنامهم التي نحتوها وعبدوها، كما يدل عليه قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " (37).

وإنما قرنوا بها، لأنهم قرنوا بها أنفسهم بالعبادة لها، أو لأنها كانت منشأ.

﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنت تجرى من تحتها الأنهر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزوج مطهرة وهم فيها خلدون (25)﴾

جرمهم فعذبوا بها كما عذب الكافرون بما يكنزونه، أو لزيادة تحيرهم حيث ظهر منها خلاف ما توقعوا منها من الانتفاع بشفاعتها واستدفاع المضار بمكانتها، أو مطلق الأحجار لما فيه من الدلالة على شدة إيقاد النار وقوته، أو الذهب والفضة اللذان كانوا يكنزونهما ويغترون بهما، أو حجارة الكبريت، وخصت بذلك لاختصاصها من بين الأحجار بسرعة الاتقاد وبطئ الخمود، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، و شدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت، هكذا ذكروا.

وفي كتاب الإحتجاج للطبرسي رحمه الله: وروي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ولقد مررنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بجبل، وإذا الدموع تخرج من بعضه، فقال له: ما يبكيك يا جبل؟فقال: يا رسول الله، كان المسيح مر بي وهو يخوف الناس بنار وقودها الناس والحجارة، فأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة، قال: لا تخف تلك الحجارة الكبريت، فقر الجبل وسكن وهدأ و أجاب (38) ومضمون الجملة يجب أن يكون قصة معلومة للمخاطب، وهنا كذلك إما بالسماع من أهل الكتاب أو من النبي (صلى الله عليه وآله)، أو بسماع آية سورة التحريم، ولا يرد أن سماعهم على هذه الوجوه لا يفيدهم العلم إذ لا يعتقدون صدق ما يسمعونه، لان المراد بالعلم معناه الأعم.

أعدت للكافرين: أي هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم، وقرئ (اعتدت) من العتاد بمعنى العدة.

وبشر الذين ء امنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنت: عطف على الجملة السابقة.

والمقصود عطف حال من آمن ووصف ثوابه على حال من كفر وكيفية عقابه، على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطا لارتكاب ما ينجي، وتثبيطا عن اقتراف ما يردي، لا عطف الفعل نفسه حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي فيعطف عليه.

والجنة المرة من الجن، وهو مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على السترة بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة، كأنه يستر ما تحته سترة واحدة.

تجرى من تحتها الأنهر: صفة لجنات، أي من تحت أشجارها على حذف المضاف، أو أراد الأشجار بالجنات مجازا، أو من ضميرها على سبيل الاستخدام.

و (من) ابتدائية أو تبعيضية، فإن الماء لا يجري في جميع أسافل الأشجار بل في بعضها.

ويحتمل أن يكون المراد في تحتها، على ما مر.

والأنهار: جمع نهر بالسكون أو بالفتح، وهو الأفصح.

وجاز في ما عينه أو لامه حرف حلق أربعة أوجه: فتح الفاء والعين، وفتح الأول وكسر الثاني، وكسرهما، وكسر الأول مع سكون الثاني.

لكن لم يسمع من هذه الوجوه في النهر إلا اثنان.

وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات.

والتركيب للسعة، والمراد ماؤها على الاضمار، أو المجاري أنفسها، واسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: " وأخرجت الأرض أثقالها " (39) أو على التجوز في المفرد بإطلاق اسم المكان على المتمكن.

واللام فيها إما للجنس من غير قصد إلى العموم والاستغراق، كما في قولك: لفلان بستان فيه الماء الجاري، أو بدله من الإضافة، أي أنهارها، أو للعهد، إشارة إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى: " أنهار من ماء غير آسن " (40) والأول أحسن، والثاني مذهب كوفي مرجوح، وقد منعه صاحب الكشاف حيث قال في قوله تعالى: " فإن الجحيم هي المأوى " (41) المعنى فإن الجحيم هي مأواه، وليس الألف واللام بدلا من الإضافة، لكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، ولأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة (42)، والثالث مع توقفه على سبق ذكر المنكر على المعروف، فيه بعد لا يخفى.

وإنما نعت الجنان يجري الأنهار تحتها، لان الرياض وإن كانت أحسن شئ إذا لم يجر فيها الماء كانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة فيها، ولهذا قدمها على سائر نعوتها.

وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود (43)، والأخدود: الشق المستطيل في الأرض، والمعنى: أن تلك الجنات تجري من تحتها أنهار من ماء و لبن وعسل.

كلما رزقوا: صفة ثانية لجنات، وترك العاطف بينهما تنبيها على أن كل واحد منهما صفة على الاستقلال، أو استئناف، كأنه لما قيل: أن لهم جنات، وقع في قلب السامع، أثمارها مثل ثمار الدنيا، أم أجناس اخر، فأزيح بذلك، أو خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هي أو هم.

ورد ذلك الأخير: أن تلك الجملة المحذوفة المبتدأ، إن جعلت صفة أو استئنافا كان تقدير الضمير مستدركا، وإن جعلت ابتداء كلام لا يكون صفة ولا استئنافا، فلتكن كذلك بلا حذف.

وأجيب: بأن تقدير (هي) يظهر معنى الوصفية، وبتقدير (هم) يقوى شأن الاستئناف، فلا استدراك.

وفيه ضعف لا يخفى.

منها: متعلق ب? (رزقوا).

من ثمرة رزقا: متعلق به أيضا، وكلمة (من) فيهما لابتداء الغاية.

فإن قلت: لا يصح أن يتعلق بفعل واحد حرفا جر يتحدان في المعنى عند النحاة إلا على قصد الابدال والتبعية.

قلت: لا مجال لذلك في الآية الكريمة، فإنهما ليستا متعلقتين بفعل واحد، بل بفعلين مختلفين بالاطلاق والتقييد، فالمطلق أعني (رزقوا) جعل مبتدأ من الجنات و بعد تقييده بالابتداء منها جعل مبتدء من الثمرة.

مع أنه لقائل أن يمنع عدم صحة الابدال هاهنا، فإنه يجوز أن يكون بدلا من الأولى بتقدير صفة، أي من ثمرة كائنة منها، وكلا الظرفين لغو ل? (رزقوا)، فلا حاجة إلى أن يجعل الأول حالا من (رزقا) والثاني من ضميره فيها.

قالوا هذا الذي رزقنا: أي هذا الظاهر المحسوس من المرزوق كالمرزوق الذي رزقناه في الشكل واللون، لا في الطعم، فحذف أداة التشبيه، ووجهه للمبالغة كما في زيد أسد.

ويحتمل أن يجعل (هذا) إشارة إلى نوع ما رزقوا، فلا حاجة إلى اعتبار التشبيه، فإن نوع المرزوق في الآخرة هو نوع المرزوق في الدنيا.

من قبل: أي من قبل هذا في الدنيا.

وإنما جعل الثمران متشابهين، لان الطبع إلى المألوف أميل وإلى تناوله أسرع، ووجود المزية أظهر، إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، وإعجاب النفس به واستغرابه له أشد، أو في الجنة لما روي أن ثمار الجنة إذا جنيت بدل الله مكانها مثلها فقالوا: " هذا الذي رزقنا من قبل " لاشتباه الامر عليهم أو لاستغرابهم إياه وابتهاجهم به.

وفيه أن قول ذلك في المرة الأولى لا معنى له كما يقتضيه عموم (كلما).

وأتوا به متشبها: جملة معترضة بين أوصاف الجنة لتقرير ما قالوا، أو حال من فاعل (قالوا) بتقدير " قد " عند البصرية، كقوله تعالى: " جاؤكم حصرت صدورهم " (44) وبدونه عند الكوفية، وللمرزوق والرزق من حيث وحدتهما الجنسية توحد، ومن حيث أثنينيتهما النوعية تعدد، فإفراد الضمير للجهة الأولى، وجعل متشابها المقتضي تعدد الفاعل حالا عنه بالاعتبار الثاني.

والمعنى واتوا به متشابها به، أي بهذا الجنس حال كونه متشابها في كل من نوعيه نفسه في الآخر، فمرجعه على الوجه الأول هو جنس المرزوق الشامل لكل من مرزوق الدنيا والآخرة، فإنه يفهم من مضمون ما تقدم، وعلى الوجه الثاني هو الرزق.

قال علي بن إبراهيم: يؤتون من فاكهة واحدة على ألوان متشابهة (45).

ولهم فيها أزوج مطهرة: الزوج يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف.

فالذين آمنوا إن كان شاملا للمؤمنين والمؤمنات تغليبا، فمعنى " لهم فيها أزواج " أن للذكور أزواجا من جنس الإناث، والمراد به إما الحور العين، أو نساء الدنيا سلبت عنها القذرات، وإرادة الأعم أولى، وللإناث أزواجا من جنس الذكور.

وإن كان خاصا بالمؤمنين اكتفاء بهم، لأنه يعرف حال المؤمنات بالقياس إلى حالهم، فمعناه أن للمؤمنين أزواجا مطهرة.

وقرئ مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى مطهرة ومطهرات، وهي تؤيد الاحتمال الثاني، لان القياس على الأول مطهرون، فإنه لم يعهد تغليب النساء على الرجال.

ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة، لأنها تنبئ من أن مطهرا طهرها، وليس هو إلا الله عز وجل.

والمراد بتطهرها أن طهرت مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة وما لا يختص من الأقذار والأدناس، ويجوز أن يدخل تحته الطهر من ذمائم الأخلاق و قبائح الافعال.

وإنما لم يجمع الصفة كالموصوف إذا أتى بها على قاعدة الرجال والنساء فعلت للتأويل بالجماعة، وهي لغة فصيحة.

وهم فيها خلدون: دائمون، والخلد والخلود: يطلق على الثبات المديد الدائم و على غير الدائم بالاشتراك المعنوي أو اللفظي أو الحقيقة والمجاز، والأول أولى نفيا للتجوز والاشتراك اللذين هما خلاف الأصل، ومنه قيل للأثافي والأحجار خوالد، وللجزء الذي يبقى من الانسان على حاله ما دام حيا خلدا.

وقيل: وإلا يلزم أن يكون التقييد بالتأبيد في قوله تعالى " خالدين فيها أبدا " (46) لغوا.

وبالجملة المراد به الدوام هنا عند الجمهور، لما يشهد له من الآيات والسنن.

ثم إن مجامع اللذات المسكن والمطعم والمنكح، فوصف الله تعالى المسكن بقوله: " جنات تجري من تحتها الأنهار " والمطعم بقوله: " كلما رزقوا منها من ثمرة " والمنكح بقوله: " ولهم فيها أزواج مطهرة ".

ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم بها منقصا، فأزال تعالى هذا الخوف عنهم بقوله: " وهم فيها خالدون " فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرور.

فإن قلت: فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع.

قلت: مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها.

فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية معرضة للاستحالة المؤدية إلى الانفكاك والانحلال، فكيف يعقل خلودها في الجنان؟قلت: إن الله تعالى يعيدها بحيث لا تعتورها الاستحالة، بأن يجعل أجزاءها مثلا متفاوتة في الكيفية، متساوية في القوة لا يقوى شئ منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، كما في بعض المعادن.

وفي أصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن أحمد بن يونس، عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار، لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة، لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " قال: على نيته (47).

والطائفة الامامية هي المقصودة من الآية، فإن من لم يؤمن بخلافة علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا واسطة لم يؤمن بالقرآن، فهو خارج عن ربقة الاسلام.

يدل على ما ذكرناه ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله) هكذا " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي فأتوا بسورة من مثله " (48) قال بعض الفضلاء: وإن أردت تأويل الآية في بعض بطونها، فاعلم أن الجنات ثلاثة: جنة الاختصاص الإلهي: وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا، والمجانين الذين ما عقلوا، وأهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة عن رسول.

والجنة الثانية: جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.

والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان له من الأعمال أكثر كان له من الجنات أكثر، وفي شأن هذه الجنة ورد ما عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن الجنة قاع صفصف ليس فيها عمارة، فأكثروا من غراس الجنة في الدنيا، قيل يا رسول الله: وما غراس الجنة؟قال (صلى الله عليه وآله): فهذه الجنة ما فيها من الأشجار والأنهار والثمرات وغيرها من الحور والقصور والغلمان والولدان هي أعمالهم وأخلاقهم ومقاماتهم وأحوالهم مثلت وصورت في أمثلة وصور مناسبة، ثم ردت إليهم، ولهذا يقال لهم: إنما هي أعمالكم ترد إليكم (49).

وهذه الآية الكريمة إشارة إلى بشارة أهل هذه الجنة.

يعني بشر الذين تحققوا بالعلوم والمعارف الايمانية المبتنية عليها الأعمال الصالحة والافعال الحسنة، أن لهم جنات من أشجار ونخيل وأعناب، وهي صور هذه الأعمال والافعال، تجري من تحتها الأنهار، أي أنهار تلك العلوم والمعارف النابتة أصول هذه الأشجار وفروعها منها، كلما رزقوا منها من ثمرة، هي من صور نتائج أعمالهم، وتنبهوا لما بين الصورة وذي الصورة من المناسبة والمشابهة، قالوا: هذا المرزوق في الجنة بعينه هو الذي رزقنا من قبل في الدنيا.

وهذا كما إذا رأيت ليلة أنك تشرب اللبن وحصل لك غذاءها نوع من العلم، وتنبهت لما بين ما رأيته في المنام وبين ما حصل لك من العلم من المشابهة، فإن اللبن كما أنه غذاء صالح للأبدان كذلك العلم صالح للقلوب والأرواح، قلت: هذا ما رأيته البارحة في المنام واتيت بما رزقته في النوم واليقظة متشابها، أي يشابه كل واحد منهما الآخر، وعلى هذا القياس معنى اتوا به متشابها ولهم فيها من صور أبكار المعاني الغيبية التي تقتضيها خصوصيات استعداداتهم أزواج مطهرة من ملابسة الأغيار لم يطمثهن إنس ولا جان، وهم فيها خالدون، أي دائمون لا يبرحون عنها.

وفي قوله: وهم فيها خالدون وإن كان لهم بشارة بالدوام والبقاء، ولكن فيه تعريض بشأنهم أنهم أخلدوا إلى أرض هذه الجنة فلا يبرحون عنها إلى ما فوقها، ولا يترقون إلى جنات النعيم وجنة الذات، لكنهم ينزلون إلى جنات الافعال ويتخطون بما فيها من غير تقييد بشئ منها، رزقنا الله وإياكم معالي الأمور، وهو سبحانه الودود والغفور.

﴿إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفسقين (26)﴾

إن الله لا يستحى: لما كانت الآيات السابقة مشتملة على أقسام من التمثيل، عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له، وما هو شرط فيه من موافقته للممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف والخسة، دون الممثل، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه و إبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم والعقل ويصالحه، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لان من طبعه ميل الحس وحب المحاكمات، لما قاله الجهلة: من أن ضرب المثل بالمحقرات كالنحل والذباب والعنكبوت والنمل لا يليق بكلام الفصحاء من المخلوقين ويخل بفصاحته، فكيف يليق بالقرآن الذي تدعون أنه كلام الله بالغ في الفصاحة حد الاعجاز؟وعن الحسن وقتادة: أنه لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به للمشركين المثل ضحكت اليهود، وقالوا، ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله سبحانه هذه الآية (50) وقال: إن الله لا يترك ضرب المثل ببعوضة ما ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها، وقد مثل في الإنجيل بالنخالة، لمن يقول بالبر ولا يعمل به كالمنخل يخرج المنخول المختار ويمسك النخالة، قال: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق و يمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم.

و بالحصاة للقلوب القاسية حيث قال: " قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح.

وبالزنابير لمقاولة السفهاء، لما في إثارتها من الضرار، قال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتمون.

والاستحياء: من الحياء، وهو انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم.

وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل: هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا واشتقاقه من الحياة، يقال حيى الرجل إذا اعتلت قوته الحيوانية، كما يقال: نساه وحشاه، والنسا بفتح النون والقصر: عرق يخرج من الورك فيتبطن الفخذين ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر، ومنه مرض عرق النساء، والحشا ما احتوت عليه الضلوع، فكأنه جعل الحيي لما يعتريه من التغير والانكسار منقص الحياة، كما يقال: هلك أو مات أو ذاب حياء من كذا.

واستحيى بمعنى حيي كاستقر بمعنى قر، ويتعدى بنفسه وبحرف الجر، يقال: استحييته واستحييت منه، والآية تحتمل الوجهين.

وإنما أتى بالمزيد لما في المجرد من توهم نفي الحياة.

وروى ابن كثير يستحيى بياء واحدة (51) ووجهه أنه استثقل اجتماع اليائين فحذفت إحداهما بعد نقل حركتها إلى ما قبلها.

ولما لم يجز على الله تعالى التغير والخوف والذم، لم يجز وصفه بالحياء اللازم من نفي الاستحياء المقيد، فإنه يفهم منه ثبوت مطلق الاستحياء.

كما يدل عليه حديث سلمان - رحمة الله عليه - صريحا حيث قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى ينزل فيهما خيرا (52).

فلا بد أن يراد ما هي سبب عنه أعني ترك ما يستحى عنه، فيكون مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب، أو يجعل من قبيل الاستعارة التمثيلية، بأن يشبه حال الله سبحانه مع ضرب المثل بالمحقرات بحال المستحيي مع ما يستحيي منه، فكما أن المستحيي يترك ما يستحيي منه كذلك سبحانه يترك ضرب المثل بالمحقرات، فإذا نفى ذلك المعنى صار المعنى أنه ليس حاله سبحانه مع ضرب المثل بها كحال المستحيي مع ما يستحيي منه في الترك، فلا يترك سبحانه ضرب المثل كما يترك المستحيي ما يستحيي منه.

فإن قلت: يلزم حينئذ وقوع الفعل، فيشكل ذلك من أنه ما وقع في القرآن ذكر البعوضة والتمثيل بها ولا ذكر ما فوقها إذا أريد به ما فوقها في الحقارة.

قلت: كما أن للاستحياء لازما هو ترك المستحيي منه، كذلك لعدم الاستحياء لازم هو جواز وقوع الفعل، فإنه لا يلزم من عدم السبب إلا جواز وقوع المسبب (53) لا وقوعه، فيصير المعنى أن الله سبحانه يجوز أن يقع منه ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، ولا شك أن الجواز لا يستلزم الوقوع.

ويجوز أن تكون هذه العبارة مما وقعت في كلام الكفرة فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟فجاءت هنا على سبيل المشاكلة، وهي أن يذكر الشئ بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته، كقوله: قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه * قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا (54) - وقد يجاب بأن وقوعها في القرآن إنما هو بالنظر إلى هذه الآية.

وبأن ترك ضرب المثل بالبعوضة وبما فوقها يكون بتركهما جميعا، فهو في قوة السلب الكلي وهو يرتفع بالايجاب الجزئي، فليكن صدق نفي تركهما بوقوع ضرب المثل بما فوق البعوضة.

والأول ضعيف، فإنها لم يقع على قصد التمثيل لها وإن تكلف، ويقال: المراد أنه لا يستحيي أن يضرب بها مثلا للآلهة، فإن المتبادر أنها إخبار عما وقع خارجا عن هذا الكلام.

والثاني: لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد بما فوقها ما يفوقها في العظم، مع أن حمله على ما يفوقها في الحقارة إن لم يكن أولى فلا أقل من أن يكون مساويا.

قال العلامة السبزواري: المعنى لا يدع ضرب المثل بالأشياء، الحقيرة كالبعوضة، فضلا عما هو أكبر منها كالذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما، أو كالبعوضة فما فوقها في الصغر والحقارة، لان جناح البعوضة أصغر منها، وقد ضرب به المثل، وقد خلق الله من الحيوان ما هو أصغر حجما من البعوضة بكثير.

أقول: لا يخفى على ما حققناه ما فيه، فإنه يدل على أنه ضرب المثل بالبعوضة وما هو أصغر منها، وليس كذلك.

وأما ما روي عن الصادق (عليه السلام) من أنه قال: إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لان البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صفته (55).

فلا يدل على أن ضرب المثل بالبعوضة واقع من الله، بل على أنه جاز وقوعه لهذا الوجه، وهذا المعنى وإن كان خلاف ما هو المتبادر من لفظ الحديث، لكن يجب أن يصار إليه عند قيام القرينة.

أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها: في محل النصب إما على أنه مفعول الفعل المتقدم، أو بنزع الخافض، أو الجر بتقديره، كما في: الله لأفعلن.

وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم، وأصله إيقاع شئ على شئ، كضرب الشئ باليد والعصا والسيف ونحوها، وضرب الدراهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، والضرب في الأرض: الذهاب فيها، وهو ضربها بالأرجل، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة، وضرب المثل هو من ضرب الدراهم، وهو ذكر شئ يظهر أثره في غيره، والاضطراب: كثرة الذهاب في الجهات من الضرب في الأرض.

و " مثلا " منصوب على أنه مفعول به ليضرب، و " بعوضة " بدل منه أو عطف بيان، أو مفعول ليضرب، ومثلا حال تقدمت لأنه نكرة، أو هما مفعولاه لتضمينه معنى الجعل، أو لتجوزه عنه، ويكون مثلا مفعوله الثاني لأنه المناسب بحسب المعنى.

وقرئ بعوضة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.

و (ما) هذه إبهامية تزيد للنكرة إبهاما وعموما تسد عنها طرق التقييد، فإما اسم يقع صفة للنكرة، فمعنى قوله (مثلا ما) مثلا أي مثل، وإما زائدة فتكون حرفا، لان زيادة الحرف أولى من زيادة الأسماء، لاستبدادها بالجزئية، وأيضا ثبت زيادتها في نحو " فبما رحمة من الله لنت لهم " (56) بالحمل على ما ثبت في موضع الالتباس.

وفائدة (ما) هذه إما التحقير نحو: هل أعطيت إلا عطية ما، أو التعظيم نحو: لأمر ما يسود من يسود، أو التنويع نحو: اضربه ضربا ما، أي نوعا من أنواعه أيها كان، وتجتمع هذه المعاني كلها في الابهام، وتأكيد التنكير، أي عطية لا تعرف من حقارتها، وأمر مجهول العظمة، وضربا مجهولا غير معين.

أو غير إبهامية، بل هي حرف زيدت لتأكيد معنى آخر غير التنكير والابهام، فهي هنا إما لتأكيد ضرب المثل، أو نفي الاستحياء، أي يضرب المثل البتة، أو لا يستحيي البتة، وإما موصولة وذلك بشرط أن تقرأ بعوضة مرفوعة وتجعل مع مبتدئها المحذوف صلة، وإما موصوفة والجملة صفة ومحلها النصب على البدلية أو الاختصاص، وإما استفهامية مرفوعة المحل على أنها مبتدأ وبعوضة خبرها، فإنه لما قال في رد استبعادهم ضرب الله الأمثال بالمحقرات.

إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا، لا يبعد أن يقال معناه للمبالغة في الرد، أن لله التمثيل بأشياء محقرة لا يتأتى لكم أن تدركوها من الحقارة، فيحسن إردافه بما إلى آخره، ومعناه أي شئ البعوضة فما فوقها حتى لا يمثل بهما، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك، ونظيره فلان لا يبالي بإعطاء المئات والألوف من الدينار، ما دينار وما ديناران حتى لا يعطي.

وأما زائدة أو صفة لنكرة وبعوضة خبر مبتدأ محذوف، أي مثلا هو بعوضة.

والبعوض من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب، ومنه بعض الشئ فإنه قطعة منه، فمدار هذه الحروف على القطع كيفما تترتب، فهو في أصله صفة على فعول كالقطوع، فغلب على البقة كالخموش بفتح الخاء، فإنه أيضا صفة على فعول من خمش وجهه يخمشه أي يخدشه، فغلبت عليها.

و (ما) في ما فوقها إن نصبنا بعوضة كانت معطوفة عليها، موصولة أو موصوفة صلتها أو صفتها الظرف، وإن رفعناها وجعلنا (ما) الأولى موصولة أو موصوفة أو استفهامية، فالثانية معطوفة عليها، أو على بعوضة، وإن جعلنا (ما) زائدة أو صفة نكرة وبعوضة خبرا لهو مضمرا، كانت ما معطوفة على بعوضة، وإن جوز حذف الموصول مع بعض الصلة، يجوز أن تكون (ما) في فبما استفهامية، أي فما الذي هو فوق البعوضة، والمعنى أن لله التمثيل بالبعوضة، فأي شئ ما هو فوق البعوضة كالذباب والعنكبوت حتى لا يمثل به، وحينئذ يكون في غاية الطباق لكلام الكفرة، هذا إذا لم تكن (ما) الأولى استفهامية، فإذا كانت هي أيضا استفهامية يكون ترقيا على ترق.

والمعنى أن لله التمثيل بأحقر شئ فأي شئ البعوضة حتى لا يمثل بها، وبعد ذلك أي شئ ما فوق البعوضة كالذباب والعنكبوت حتى لا يمثل به، ومعنى ما فوقها، أي في الكبر، وهو أوفق لكلام الكفرة، أو في الصغر وهو أشد مبالغة في ردهم، وما فوق في الصغر هو جناحها كما ضربه (عليه السلام) مثلا للدنيا.

روي عن الترمذي، عن سهل بن سعد، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء (57).

فأما الذين آمنوا فيعلمون: (أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم في جميع اللغات إلا عند بني تميم فإنهم يقولون: أيما (58) حرف تفصيل كإما بكسر الهمزة مطلقا عند المبرد، وأما الأولى عند غير المبرد يفيد تفصيل مجمل متعدد سابق في الذكر، صريحا كقولك جاءني القوم أما العلماء فكذا وأما الجهلاء فكذا، أو في الذهن من غير سبق ما يدل عليه بوجه كقولهم في صدر الكتب أما بعد، أو مع سبقه كما نحن فيه من الآية، لان قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي " دل على أن ثمة من تداخله شبهة على ما مر ويخطر منه بالبال يقابله، فيحصل في الذهن متعدد يفصله أما.

ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، قال سيبويه: أما زيد فذاهب، معناه مهما يكن من شئ فزيد ذاهب (59)، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، ففي تصدير الجملتين به مبالغة في محمدة المؤمنين ومذمة الكافرين، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء، لكنهم كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط، فالذين آمنوا مبتدأ، ويعلمون خبره.

أنه الحق: في موضع مفعول (يعلمون)، والحق أن " أن " الواقعة بعد العلم لا يغير معنى الجملة، أي لا يؤلها إلى المفرد، فجزاء الجملة منصوبان محلا على أنهما مفعولان.

والحق في اللغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يعم الأعيان الثابتة والافعال الصائبة والأقوال الصادقة، من قولهم: حق الامر إذا ثبت، ومنه ثوب محقق محكم النسج، وفي العرف الأخير يخص الأخيرين، وفي اصطلاح أرباب المعقول يخص الأخير، فيقولون للأقوال المطابقة للواقع صادقة وكاذبة باعتبارين.

والضمير في (أنه) للمثل، أو لضربه، أو لترك الاستحياء.

من ربهم: في محل النصب على أنه حال من الحق، أي كائنا وصادرا من ربهم، أو من الضمير المستكن، وهو العامل فيه، لكونه مشتقا، والمعنى أنه حق حال كونه من ربهم، أو في محل الرفع على البدلية من الحق، ويحتمل أن يجعل ظرفا لغوا للحق أو ليعلموا.

وأما الذين كفروا فيقولون: إنما قال ذلك ولم يقل فلا يعلمون كما هو مقتضى المقابلة، لان قولهم ذلك يستلزم عدم علمهم بالحق، فكان كذكره مبرهنا عليه، ولان مذمتهم بنفي العلم إنما هي للتقصير في أسباب حصوله، بخلاف القول السئ فإنه مذموم لذاته.

ماذا أراد الله: (ما) للاستفهام مرفوع المحل على أنه مبتدأ، و (ذا) بمعنى الذي موصول وهو مع صلته خبره، أو منصوب المحل على أنه مفعول (أراد) قدم عليه وجوبا لتضمنه معنى الاستفهام، وكلمة (ذا) حينئذ تكون زائدة لتزيين الفعل.

وعلى التقدير الثاني يكون (ما) مع (ذا) كلمة واحدة بمعنى أي شئ، والأصوب على الأول رفع جوابه وعلى الثاني نصبه، ليشاكل الجواب السؤال، ويجوز العكس بناء على تأويل الأول بأراد كذا والثاني بمراد كذا لتحصل المشاكلة، أو بدونه، والاستفهام للتعجب والانكار.

والإرادة: ضد الكراهة، وهي مصدر أردت الشئ إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك.

وفي عرف المتكلمين: نزوع النفس وميلانها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، و يقال للقوة التي هي مبدأ النزوع.

وشئ من تلك المعاني لا يتصور اتصاف الباري تعالى به، ولذلك اختلف في معنى إرادته، فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ولا يقال غيره، أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته.

وقيل: علمه باشتمال الامر على النظام الأكمل والوجه الأصلح، فإنه يدعو القادر على تحصيله.

وقيل: ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه، أو معنى يوجب هذا الترجيح، وهي أعم من الاختيار، فإنه ميل مع تفصيل.

بهذا مثلا: متعلق بأراد، والمشار إليه (بهذا) هو ما يرجع إليه الضمير في قوله (انه الحق).

ومثلا نصب على التمييز، كقولك لمن حمل سلاحا رديئا: كيف تنتفع بهذا سلاحا؟عن نسبة التعجب والانكار إلى المشار إليه، إذ لا إبهام فيه هنا، لأنه المثل، أو يقال لمن تعدد المشار إليه بهذا بحسب الاحتمال غيره بقوله مثلا لتعيين ما هو المقصود، فلا يرد أنه لو كان هذا إشارة إلى المثل لصار المعنى ما أراد الله بالمثل مثلا، ولا يحتاج أن يجاب بأن المشار إليه هو الذات من وصف المثلية.

وفي لفظ هذا استحقار و استرذال لشأنه، أو على الحالية من اسم الإشارة، والعامل فيه إما الفعل المذكور أو فعل التعجب والانكار المفهوم من الاستفهام، أو فعل الإشارة والتنبيه المفهومين من هذا، فحينئذ يكون ذو الحال الضمير المجرور في عليه أو إليه كما في قوله تعالى " هذه ناقة الله لكم آية " (60).

ولا يخفى أن في تفصيل هاتين الجملتين توضيحا لما ذكر من قبل من اختصاص المتقين بكون الكتاب هدى لهم دون غيرهم.

ويزيد في هذا التوضيح ما أردفهما به، أعني قوله: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا: جواب ماذا، أي إضلال كثير وإهداء كثير.

وضع الفعل موضع المصدر، لإرادة الحدوث والتجدد، أو بيان للجملتين المصدريتين بإما وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان، وأن الجهل بوجه إيراده والانكار لحسن مودته ضلال وفسوق، وكثرة القبيلتين حقيقة، لا بالقياس إلى مقابلهم، فإن المهتدين قليلون بالنظر إلى أهل الضلال كما قال الله " وقليل من عبادي الشكور " (61) وقال (عليه السلام): كإبل مئة لا تجد فيها راحلة (62).

وإن كانت إضافية لكثرة الضالين من حيث العدد، وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف، كقوله: قليل إذ عدوا، كثير إذا شدوا * (63) وقوله: إن الكرام كثير في البلاد وإن * قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا (64) وإسناد الاضلال والاهداء، إما بناء على أن معناه، أنه أضل قوما ضالا، و أهدى قوما مهتديا، كما يدل عليه قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " (65) أي إلا فاسقا ضالا.

أو بناء على أنهما سبب، والمعنى أن الكفار يكذبون به وينكرونه و يقولون: ليس هو من عند الله، فيضلون بسببه، والمؤمنين لما صدقوا به وقالوا: هذا في موضعه فيهتدون بسببه.

أو بناء على أن أضله بمعنى نسبه إلى الضلال، وأكفره إذا نسبه إلى الكفر.

قال الكميت (66): فطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسئ ومذنب (67) أو بناء على أن الاضلال بمعنى الاهلاك والتعذيب، ومنه قوله تعالى: " أإذا ضللنا في الأرض " (68) أي أهلكنا.

وبناء على أن الاضلال بمعنى التخلية على وجه العقوبة، وترك المنع بالقهر، ومنع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم، ومنه: (أفسدت سيفك) لمن لا يصلح سيفه.

وأما ما يقال: من أن إسناد الاضلال وسائر الأفعال إلى الله سبحانه، إسناد الفعل إلى الفاعل الحقيقي الذي لا مؤثر في الوجود عند الحكماء المتألهين والصوفية المحققين وجمهور أهل السنة والجماعة، إلا هو فيؤدي إلى التظليم والتجوير على ما يذهب إليه المجبرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

والباء في الموضعين على جميع التقادير للسببية.

والهداية في القرآن تقع على وجوه: الأول: الدلالة والارشاد، وهو بهذا المعنى شامل لجميع المكلفين، فلا تكون بهذا المعنى مرادة في الآية.

الثاني: زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى.

الثالث: الإثابة، ومنه قوله تعالى: " والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم " (69).

الرابع: الحكم بالهداية.

الخامس: جعل الانسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه، كما يجعل متحركا بجعل الحركة فيه.

وكل واحد من هذه الوجوه الأربعة الأخيرة يمكن أن يكون مرادا في تلك الآية.

وقدم الاضلال على الهداية لزيادة الاهتمام بتعريفهم وتوبيخهم به، ولذلك سجل عليهم بمجامع الكفر والطغيان وختمها بأن حصر فيهم الخسران، بقوله: " وما يضل به إلا الفاسقين ".

وما يضل به إلا الفسقين وقرئ " يضل به كثير وما يضل به إلا الفاسقون " على البناء للمجهول في الموضعين، ورفع كثير والفاسقون.

والفسق لغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها، أي خرجت.

قال رؤبة: فواسقا عن قصدها جوائرا (70).

والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، ومن الكبائر الاصرار على الصغيرة، فلا حاجة إلى ذكره.

وله ثلاث مراتب: أولها: التغابي، وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها.

ثانيتها: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها.

وهو في هاتين المرتبتين، مؤمن فاسق، لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الايمان.

وثالثتها: أن يرتكبها مستصوبا إياها، فإذا شارف هذه المرتبة خلع ربقة الايمان عن عنقه ولابس الكفر.

والمراد به في الآية يحتمل أن يكون أعم، وأن يكون مخصوصا بالمعنى الأخير، لكنه أحسن.

والمراد به في قوله تعالى: " إن المنافقين هم الفاسقون " (71) هو المعنى الأخير.

وبهذا يندفع ما قاله البيضاوي: من أن المراد به الخارجون عن حد الايمان، لقوله تعالى: " إن المنافقين هم الفاسقون " (72).

والمعتزلة لما قالوا: الايمان عبارة عن مجموع التصديق والاقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده، جعلوه قسما ثالثا بين منزلتي المؤمن والكافر، لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام.

قال صاحب الكشاف: معنى كونه (بين بين) أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.

وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته (73).

وحصر الاضلال فيهم مرتبا على الفسق، يدل على أنه الذي أعد لهم الاضلال بضرب المثل، فطلبوا بلسان الاستعداد أن يوجد فيهم صفة الضلال به، فوجد فيهم فأنكروه وانتهزوا به.

أقول: يحتمل أن يكون قوله: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، مقول قول الكافرين، فحينئذ لا حاجة في إسناد الضلال إلى الله إلى هذه التوجيهات.

يدل على ذلك ما رواه علي بن إبراهيم، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فالبعوضة أمير المؤمنين (عليه السلام) وما فوقها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والدليل على ذلك قوله تعالى: " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " يعنى أمير المؤمنين (عليه السلام) كما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الميثاق عليهم له، " وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " فرد الله عليهم فقال: " وما يضل به إلا الفاسقين ".

إلى آخر الآية (74).

والمراد من قوله (عليه السلام): إن هذا لمثل ضربه الله لأمير المؤمنين، أنه يصير مصداق البعوضة المذكورة في الآية أمير المؤمنين، لا أن المثل بالبعوضة وقع له، ومن قوله: " فالبعوضة أمير المؤمنين " أنه مع عظمته بالنسبة إلى جبروته تعالى، ليست له عظمة، وأنه بالنسبة إليه تعالى كالبعوضة بالنسبة إلى المخلوقين.

يدل على ذلك ما روي في التفسير المنسوب إلى مولانا العسكري (عليه السلام)، من أنه قيل للباقر (عليه السلام): إن بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أن البعوضة علي وأن ما فوقها وهو الذباب محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال الباقر (عليه السلام): سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه، إنما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاعدا ذات يوم وعلي (عليه السلام) إذ سمع قائلا يقول: ما شاء الله ثم.

﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27)﴾

ما شاء محمد، ما شاء الله ثم ما شاء علي، إن مشية الله هي القاهرة التي لا تساوى ولا تكافى ولا تدانى، وما محمد رسول الله في الله وفي قدرته إلا كذبابة، وما علي في الله وفي قدرته إلا كبعوضة في جملة هذه المماليك، مع أن فضل محمد وعلي الفضل الذي لا يفي به فضل على جميع خلقه من أول الدهر إلى آخره، هذا ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان، فلا يدخل في قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة " انتهى (75).

أقول: ولا يذهب عليك بعد ما ذكر من الجمع بين الخبرين والتأمل فيهما، وملاحظة ارتباط الآية بما تقدمها، اندفاع ما قاله العلامة السبزواري في الجمع من أنه لعل المراد: أنهما داخلان في مدلول الآية، لا أن المراد هما فقط، ولا ريب أنهما و أولادهما ضرب بهما المثل في كتاب الله تعالى.

الذين ينقضون عهد الله: منصوب المحل على أنه صفة كاشفة للفاسقين، أو على الذم، أو مرفوع على الذم، أو على الابتداء والخبر " أولئك هم الخاسرون " أو على الخبرية والمبتدأ محذوف، أي هم الذين ينقضون.

والنقض: فسخ الترتيب: ولعله في طاقات الحبل، استعير لابطال العهد استعارة تحقيقية تصريحية، حيث شبه إبطال العهد بفك تآليف الحبل وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وشرط حسنه اعتبار تشبيه العهد بالحبل لما فيه من ربط المتعاقدين بالآخر، فتشبيه العهد في النفس استعارة بالكناية، وإثبات النقض سواء أريد به معناه الحقيقي أو المجازي له قرينة لها.

لا يقال: إذا أريد بالنقض معناه الحقيقي، فظاهر أنه من لوازم الحبل، وأما إذا أريد به معناه المجازي فليس كذلك، فكيف يكون قرينة للاستعارة بالكناية.

لأنا نقول: المراد باللازم أعم من أن يراد معناه الأصلي الذي هو اللازم الحقيقي، أو يراد ما هو شبه بذلك المعنى منزل منزلته، فإنه إذا نزل منزلة الحقيقي و عبر عنه باسمه، صار لازما ادعاء، فاللازم على الأول مذكور لفظا ومعنى حقيقة، وعلى الثاني مذكور لفظا حقيقة ومعنى ادعاء، وكلاهما يصلحان للقرينة.

والعهد: الموثق، أي الميثاق، ويقال للأمان واليمين والذمة والوصية ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد، كالوصية واليمين، ويقال للدار من حيث أنها يراعى بالرجوع إليها، والتاريخ لأنه يحفظ.

من بعد ميثاقه: متعلق بينقضون، و (من) لابتداء الغاية، فإن ابتداء النقض بعد الميثاق، وقيل: زائدة.

والميثاق اسم لما يقع به الوثاقة، وهو الاحكام، أو معنى التوثقة كالميلاد والميعاد، بمعنى الولادة والوعدة.

ومرجع الضمير: العهد، أو الله، وإضافته إلى العهد بمعناه الاسمي للتأكيد، لان ميثاق الميثاق مما يؤكده، وبمعناه المصدري من إضافة المصدر إلى المفعول، و إلى الله من إضافته إلى الفاعل.

وعهده الذي نقضوه من بعد ميثاقه، إما ما ركز في عقولهم من قوة التفكر في مصنوعاته التي هي دلائل توحيده سبحانه، أو هو الذي أخذه الله تعالى على بني آدم حين استخرجهم من ظهوره وأقروا بربوبيته.

وميثاقه على التقديرين إرسال الرسل وإنزال الكتب على وفقه، ونقضه على الأول ترك التفكر فيها المندوب إليه عقلا وشرعا، وعلى الثاني نسيانهم ما أقروا به وعدم جريهم على مقتضاه لما أخذوا أربابا من دون الله.

والعهد وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في الشرائع المتقدمة، وميثاقه شريعة نبينا (صلى الله عليه وآله)، ونقضهم: إعراضهم عما وصاهم الله به وثقه، أو هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد ولا يكتموا أمره، وميثاقه الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على نبوته (عليه السلام)، ونقضهم كتمان أمره وإنكار نبوته.

والآية على هذا في أحبار اليهود.

وضعف الشيخ الطبرسي الوجه الثاني.

بأن الله تعالى لا يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه ولا يكون عليه دليل (76).

وزيف تضعيفه العلامة السبزواري: بأن مفاد الآية، أن هؤلاء من الفاسقين والخاسرين بلا احتجاج عليهم بفعلهم، هذا كما إذا قيل: ولد الزنا لا يدخل الجنة، لا يحتج عليه بفعل قبيح صدر عنه، وهو كون تولده من الزنا، بل المقصود أنه تصدر عنه أفعال اختيارية موجبة لخلود النار.

وأقول: مبنى كلام الشيخ أن مفهوم الآية، أن الله ذمهم بنقض العهد بعد الميثاق، وإذا كان العهد عبارة عما ذكر، كان الاحتجاج عليهم بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه، والظاهر أنه لا يرد على ذلك ما أورده العلامة، وإنما يرد عليه لو كان مراده أن التعليل يفهم من ترتب الحكم على الوصف، وليس كذلك.

ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: محل (أن يوصل) الجر على البدلية من الضمير، وحينئذ (ما) في ما أمر الله به أن يوصل، إما موصولة أو موصوفة، أو منصوبة على البدلية مما أمر الله به، فكلمة (ما) موصوفة، لان النكرة لا تبدل عن المعرفة إلا إذا كانت مخصصة، نحو " بالناصية ناصية كاذبة " (77) والأول أحسن لقرب المبدل منه، ولان القطع يقع على المتصل، لا على الوصل.

قيل: ولاحتياج الثاني إلى تقدير مضاف، أي يقطعون، وصل ما أمر الله به أن.

﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)﴾

يوصله.

وأقول: الاحتياج إلى ذلك إنما يكون إذا كان بدل الكل عن الكل، وأما إذا كان بدل الاشتمال فلا.

والمراد بما أمر الله كلما لا يجوز قطعه كائنا ما كان، والعمدة فيه صلة أمير المؤمنين (عليه السلام) وصلة الرحم.

روي الأول في تفسير علي بن إبراهيم (78) والثاني في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (79).

والامر الذي واحد الأوامر: طلب الفعل مع العلو، وقيل: مع الاستعلاء، والذي واحد الأمور: المأمور به، تسمية للمفعول به بالمصدر، كما سمي الشأن بمعنى المشؤون، والشأن الطلب والقصد، يقال: شأنت شأنه، أي قصدت قصده.

ويفسدون في الأرض: بالمنع من الايمان والاستهزاء بالحق، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه.

أولئك هم الخاسرون: لاشترائهم النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح في الدنيا، وعقاب المشتري بثواب المشترى به في الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

كيف تكفرون بالله: الخطاب مع الذين كفروا.

لما وصفهم بالكفر وتوابعه، خاطبهم على طريقة الالتفات إنكارا لكفرهم وتوبيخا لهم عليه مع علمهم بحال يقتضي خلاف ذلك، فإن الانكار والتوبيخ إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ.

أو معهم مع المؤمنين، أو مع المؤمنين فقط.

و (كيف) يصلح للسؤال عن الأحوال كلها، لا بمعنى أنه مستغرق لها، بل قد يستغرق بمعونة المقام، وقد لا يستغرق فإذا قصد الانكار، وهو في معنى النفي، ونفي الحال الذي يقتضيها، كيف إنما يتحقق بنفي جميع أفرادها! بل هي كالنكرة الواقعة في سياق النفي في إفادة العموم، فكأنه قيل: لا يصح ولا ينبغي أن يوجد حال ما لكفرهم وقد علمتم أنكم كنتم أمواتا الآية، وإذا لم ينبغ أن توجد حال من أحوال الكفر مع وجود هذا الصارف، أما لأنه يتضمن آيات بينات أو نعما جساما، حقها أن لا يكفر بمولاها، فينبغي أن لا يوجد كفركم معه، لان وجود ذات بلا حال محال، فإن وجد معه فهو مظنة توبيخ وإنكار وتعجيب وتعجب.

وخص بعضهم الحال بما له مزيد اختصاص بالكفر بالله، وهو العلم بالصانع والجهل به، فالمعنى: أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل؟والحال حال العلم بمضمون القصة الواقعة حالا، والعلم به يقتضي أن يكون للعاقل علم بأن له صانعا متصفا بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال، وعلمه بأن له هذا الصانع صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتعجب وإنكار وتوبيخ، فنفي الكفر بمعنى لا ينبغي أن يقع على كلا التقديرين بطريق الكناية، لأنه لزم من إنكار الحال مطلقا إنكار الكفر، لزم من إنكار حاليته أعني العلم والجهل أيضا إنكاره، إذ لا ثالث لهما، ولهذا صار (كيف تكفرون) أولى من (أتكفرون) فاختير عليه.

وأيضا لما بعدها من الحال وهي في الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه (80) أي في أي حال تكفرون، وعلى الحال عند الأخفش (81) أي على حال تكفرون، والعامل فيها على التقديرين تكفرون، وصاحب الحال الضمير فيه.

وكنتم أمواتا فأحياكم: الواو للحال، والجملة حال بتقدير قد، وتأويلها بجملة اسمية أو فعلية مأخوذا فيه العلم.

والمعنى وقد علمتم، أو تعلمون، أو أنتم عالمون أنكم كنتم أمواتا، فإن بعض الجمل الواقعة في تلك القصة الواقعة حالا ماض وبعضها مستقبل لا يقارن مضمونها مضمونه، فلا بد من أخذ العلم.

وأيضا مضمون تلك الجمل بدون اعتبار تعلق علمهم بها لا يصح أن يكون صارفا، واعتبار تعلق علمهم بالمؤونة والاحياء الحسيين ظاهر، وأما اعتبار تعلقه بالاحياء الثاني والرجوع، فلتمكنهم من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان بمنزلة حصول العلم، سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما، وهو أنه تعالى لما قدر أن أحياهم أولا، قدر أن يحييهم ثانيا، فإن بدء الخلق ليس بأهون من إعادته.

والأموات جمع ميت بالتخفيف، كالأقوال جمع قيل.

والمعنى كنتم أمواتا، أي عناصر ممتزجة منتقلة من حال إلى حال حتى استقر على مزاج معتدل قابل لنفخ الروح فيه، فأحياكم بنفخ الروح فيه.

فعلى هذا يكون استعمال الأموات في العناصر استعارة، لاشتراكهما في أن لا روح ولا إحساس لهما.

وإنما عطف بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه، غير متراخ عنه، بخلاف البواقي.

ثم يميتكم: عند تقضي آجالكم.

ثم يحييكم: بحياة أبدية يوم النشور، أو في القبر للسؤال.

ثم إليه ترجعون: ليحاسبكم أو يجازيكم على أعمالكم، وإن أريد بقوله: (يحييكم) الحياة في القبر، فينبغي أن يراد ب? " ترجعون " الاحياء يوم النشور، ويلزم منه إهمال إماتتهم في القبر، اللهم إلا أن يقال: معنى إليه ترجعون، أنهم يرجعون بتلك الإماتة وإحياء يوم النشور.

ولو جعل " ثم يحييكم " متناولا لاحيائين جميعا، أي يحييكم مرة بعد أخرى بقرينة المقام، يلزم أيضا ذلك الاهمال، إلا أن يقال.

﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم (29)﴾

يفهم من تعدد الاحيائين تخلل إماتة بينهما.

والظاهر أنه كم يعتد بالاحياء في القبر، لأنه ليس له زمان يعتد به.

وقرأ يعقوب: ترجعون بفتح التاء في جميع القرآن (82).

هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا: بيان نعمة ثانية مترتبة على النعمة الأولى، فإن الانتفاع بالأرض والسماء وما فيها إنما يكون بعد موهبة الحياة.

(والخلق) في الأصل التقدير، ويراد منه الايجاد، فإن أريد المعنى الأول عم الأرض وما فيه، وإن أريد الثاني احتيج في شموله لما سوى العناصر إلى ارتكاب تجوز.

واللام للانتفاع، والمعنى خلق لانتفاعكم في الدنيا والآخرة ما في الأرض جميعا.

فعند الأشاعرة مدخوله غاية، وعند الحكيم: عناية، وعند المعتزلة وأهل الذوق: غرض.

لكن عند المعتزلة: ذلك الغرض عائد إلى العبد، وعند أهل الذوق: إلى المعبود، فإنهم قالوا: إن للحق كمالين، كمالا ذاتيا كوجوب وجوده، ووحدته وحياته وعلمه وغير ذلك من الصفات الذاتية التي لا يحتاج الحق سبحانه في الاتصاف بها إلى سواه.

وكمالا أسمائيا يحتاج في الاتصاف بها إليه، فإن كمال الأسماء إنما هو بظهور آثارها وترتب أحكامها عليها، وذلك لا يتم إلا بوجود المظاهر، فنفي الاحتياج والاستكمال بالغير عنه إنما هو بالنظر إلى كماله الذاتي الذي له مرتبة الغنى عن العالمين، وأما بالنظر إلى كماله الاسمائي فليس له هذه المرتبة.

وكلمة (ما) للعموم، خصوصا إذا قيد بالحال الذي وقع بعده، وقد صرح به أئمة الأصول فدلت الآية على إباحة جميع الأشياء، على أي وجه إلا ما أخرجه الدليل، واندفع ما قاله العلامة السبزواري من أنها لما كانت مجملة غير ظاهرة في العموم، لا يتم الاستدلال بها على ذلك.

والمراد بالأرض إما جهة الأرض ليشمل الغبراء وما فيها، وإما الغبراء فلا يتناول إلا ما فيها، لامتناع ظرفية الشئ لنفسه.

ثم استوى إلى السماء: قصد إليها بإرادته، من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شئ.

وأصل الاستواء، طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الاجزاء، يقال: استوى العود وغيره إذا قام واعتدل، ولا يمكن حمله عليه، لأنه من خواص الأجسام.

وقيل: استوى، استولى، قال: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (83) وهذا المعنى غير مناسب للأصل والصلة المعدى بها.

وقيل: أقبل كما يقال: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى إلي وعلي يكلمني، على معنى أقبل إلي وعلي.

وقيل: استوى أمره وصعد إلى السماء قال العلامة السبزواري: وهذا بخلاف ما اشتهر: أن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الأرض.

وفيه نظر، لان المقصود صعد أمره في الخلق إلى السماء.

وهذه الآية مع التي في سورة حم السجدة - أعني قوله: " أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " إلى قوله: " ثم استوى إلى السماء " (84) حجة على من ذهب إلى تقدم خلق السماء على الأرض، وما في سورة النازعات - من قوله: " والأرض بعد ذلك دحاها " (85) أي بعد رفع سمك السماء وتسويتها دحى الأرض وبسطها - حجة له.

وأجاب عن الأول: بأن " ثم " لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على الأرض، كقوله: " ثم كان من الذين آمنوا " (86) لا للتراخي في الوقت.

وبأن الخلق في الآيتين بمعنى التقدير، لا بمعنى الايجاد.

وقد أولت الآية الثانية بأن معناه: أذكر الأرض دحاها، بعد ذكر ما سبق.

والحق أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء، ودحوها مؤخر عنه، وهذا هو الجمع بين تلك الآيات.

ويدل على ذلك ما روي من أنه خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر (87) عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات، وأمسك الفهر في موضعها، وبسط منها الأرض، فذلك قوله: " كانتا رتقا " (88).

والفهر: حجر يملا الكف، أي في الاستدارة واكتنازها بحيث لا يتخللها خلاء ولا يتميز فيها شئ عن شئ، والرتق: الالتزاق.

قال العلامة السبزواري: وما قيل أنها تناقض قوله تعالى: " والأرض بعد ذلك دحاها " فغير موجه، أما إذا كانت الأرض بمعنى الجهة السفلية، فخلق ما في الأرض لا يستلزم خلق ذلك الجسم المسمى بالأرض أيضا، لا الصغير منه ولا العظيم، وإن كانت بمعنى التقدير، فلا يستلزم وجودها، لان إيجاد مادتها التي هي الماء يكفي في إسناد الخلق بمعنى التقدير إليها.

أقول: لا يخفى أن خلق ما في الأرض يستلزم خلقها، لان المراد به الأجسام المواليد والعناصر الثلاثة الباقية إن أريد بالأرض معناه الحقيقي، أو الأربعة إن أريد به جهة السفل، والظاهر أن وجود جميع ذلك لا يمكن إلا بعد وجود الأرض.

فسواهن: أي عدل خلقهن، وقومه، وأخلاه، من العوج والفطور.

وضمير (هن) إما راجع إلى السماء، إن فسرت بالاجرام، لأنه جمع أو في معنى الجمع، أو مبهم يفسره ما بعده كما في رجلا، وهو أولى لما فيه من التفسير بعد الابهام.

سبع سماوات: بدل أو تفسير، وعلى تقدير كون الضمير غير مبهم، بدل عن الضمير أو حال عنه، أو مفعول للتسوية على تقدير فسوى منهن سبع سماوات، من قبيل " واختار موسى قومه " (89) أو مفعول ثان لجعل على تضمين التسوية معنى الجعل، أو تجوزها عنه، لكن الأخير يفوت معنى التسوية.

فإن قلت: إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك.

قلت: فيما ذكروه شكوك، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد، مع أنه لو ضم إليه العرش والكرسي لم يبق خلاف.

قيل: فوجه التخصيص على هذا، أن السماوات على قسمين: قسم منها عنصري يشترك مع الأرض وما فيها في المادة عند المحققين، ويدل عليه الكتاب والسنة، وهو سبع تسمى عند أهل الشرع بالسماوات، وقسم منها طبيعي غير عنصري، وهو الباقيان منها المسميان بالعرش والكرسي، وعند غيرهم بالفلك الأطلس وفلك الثوابت، ولا تميز بينها عند غيرهم، لان الكل عندهم طبيعي غير عنصري وكأن التميز بينها بلسان أهل الشرع إنما وقع بناء على أن أحكام القيامة، كالطي، وتكوير الكواكب وانتشارها وغير ذلك مختص بالسماوات السبع، لا يتعداها إلى العرش والكرسي.

وهو بكل شئ عليم: اعتراض لبيان أن خلق السماوات على سبيل.

﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)﴾

1- سورة الأنعام: الآية 1.

2- هو من أبيات الحماسة، وقبله: ولست بنازلي إلا ألمت * برحلي أو خيالتها الكذوب الواو للحال، وجملة (وقد جعلت) حال من الضمير في (رحلي) المذكور فيما قبله، وبتاء التأنيث بمعنى شرعت، و (القلوص) التشابه من النوق، و (الأكوار) جمع كور، الرحيل بأداته، و (المرتع) كمقصد اسم مكان. جامع الشواهد: باب الواو بعد القاف، ص 319.

3- والأرض قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر: وأحمر كالديباج أما سماؤه * فريا وأما ارضه فمحول مجمع البيان: ج 1، ص 60، في تفسير قوله تعالى: " الذي جعل لكم الأرض فراشا ".

4- والأرض النفضة والرعدة، ومنه قول ابن عباس: أزلزلت الأرض أم بي أرض؟كما في الصحاح، يعني الرعدة وقيل: يعني الدوار، تاج العروس: ج 1، ص 4، فصل الهمزة من باب الضاد، في (أرض).

5- الصحاح: ج 2، ص 541، في مادة مهد.

6- سورة فاطر: الآية 27.

7- سورة الدخان: الآية 25.

8- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 58، ذيل قوله تعالى: " الذي جعل لكم الأرض فراشا ".

9- سورة النساء: الآية 36.

10- سورة غافر: الآية 36.

11- الكافي: ج 1، ص 160، كتاب التوحيد، باب الجبر والقدر والامر بين الامرين، قطعة من حديث 13، وعوالي اللئالي: ج 4، ص 109، ح 164.

12- الهضب: الجبل المنبسط على الأرض. لسان العرب: ج 1، ص 784، حرف الباء، فصل الهاء.

13- الوهدة بالفتح فالسكون: المنخفض من الأرض. مجمع البحرين: ج 3، ص 167، في (وهدة).

14- الرذاذ: المطر الضعيف، مجمع البحرين: ج 3، ص 181، في (رذذ).

15- الوابل: المطر الشديد، مجمع البحرين: ج 5، ص 490، في (وبل).

16- الهطل: تتابع المطر، مجمع البحرين: ج 5، ص 499، في (هطل).

17- الطل: المطر الصغار القطر الدائم، وهو أرسخ المطر ندى، لسان العرب: ج 11، ص 405، حرف اللام، فصل الطاء.

18- كتاب التوحيد: ص 403، باب 62، أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح، ح 11.

19- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1، ص 112، باب 11، ما جاء عن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) من الاخبار في التوحيد، ح 36.

20- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 52، ذيل قوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم ".

21- سورة الفرقان: الآية 32.

22- سورة الأنعام: الآية 37.

23- سورة الإسراء: الآية 95.

24- مجمع البيان: ج 1، ص 61.

25- تفسير القرآن الكريم للشهيد مصطفى الخميني: ج 4، ص 11.

26- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 35.

27- سورة الإسراء: الآية 89.

28- الصحاح: ج 2، ص 494.

29- سورة آل عمران: الآية 39.

30- وتمامه: ولا للسع بنات الدهر من راق، لامية بن أبي الصلت يقول: يا نفس ليس لك حافظ دون الله، أي متجاوز الله، واستعار البنات للحوادث، ثم شبه الحوادث بالأفاعي بجامع إيذاء كل لغيره، أي لا حافظ لك إلا الله ولا جابر إلا هو. تلخيص من حاشية الكشاف: ج 1، ص 99.

31- شرح الكافية: ج 2، ص 321.

32- سورة المنافقون: الآية 63.

33- لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

34- المطول: ص 277، الباب السابع الفصل والوصل تذنيب في البحث عن الجملة الحالية.

35- المطول: ص 277، الباب السابع الفصل والوصل تذنيب في البحث عن الجملة الحالية.

36- مغني اللبيب: ص 166.

37- سورة الأنبياء: الآية 98.

38- الإحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 220، احتجاجه على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) والاحتجاج طويل، لاحظ.

39- سورة الزلزلة: الآية 2.

40- سورة محمد: الآية 15.

41- سورة النازعات: الآية 39.

42- تفسير الكشاف: ج 4، ص 698.

43- الدر المنثور: ج 1، ص 38، ولفظ الحديث (... وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبه وهناد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث عن مسروق قال: أنهار الجنة تجري في غير أخدود، و نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، والعنقود اثنا عشر ذراعا).

44- سورة النساء: الآية 90.

45- تفسير القمي: ج 1، ص 34.

46- سورة النساء: الآية 57، 122، 169، وغيرها من السور.

47- الكافي: ج 2، ص 85، كتاب الايمان والكفر، باب النية، ح 5.

48- الكافي: ج 1، ص 417، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 26.

49- تفسير سورة يس لصدر المتألهين الشيرازي: ج 5، ص 187.

50- مجمع البيان: ج 1، ص 67، سبب نزول قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ".

51- تفسير الكشاف: ج 1، ص 114.

52- أخرجه في جامع الأصول: ج 5، ص 11، في الفصل الثاني في هيئة الداعي، تحت رقم 2119 عن سلمان الفارسي وليس فيه جملة (حتى ينزل فيهما خيرا) وزاد كلمة خائبين. ورواه في كنز العمال: ج 2، ص 87، في آداب الدعاء تحت رقم 3266 و 3267 و 3268، عن علي وعن ابن عمر.

53- في هامش بعض النسخ ما لفظه (لأنه يجوز حينئذ وقوع المسبب بسبب آخر، ولا يجب لجواز أن لا يكون له سبب آخر، منه).

54- هو من بيتين لأبي الشمقمق، وكان له أربعة أصحاب اجتمعوا يوما وأرسلوا إليه أن يأتيهم وأن يشتهي طعاما يطبخونه وكان عريانا ليس له ثوب يستره وكان الوقت باردا، فكتب إليهم هذين البيتين، وقبله: إخواننا عزموا الصبوح بسحرة * فأتى رسولهم إلي خصيصا فأرسل إليه كل واحد منهم خلعة وعشر دنانير، فلبس إحدى الخلع وسار إليهم. جامع الشواهد: باب القاف بعده الألف، ص 212.

55- مجمع البيان: ج 1، ص 67، في تفسير لقوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ".

56- سورة آل عمران: الآية 159.

57- سنن الترمذي: ج 4، كتاب الزهد، ص 560، باب 13، ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، ح 2320.

58- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 66.

59- تفسير الكشاف: ج 1، ص 117.

60- سورة الأعراف: الآية 73.

61- سورة سبأ: الآية 13.

62- سند أحمد بن حنبل: ج 2، ص 7، ولفظه: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما الناس كإبل مئة لا يوجد فيها راحلة).

63- لم نظفر على قائله مع أن أكثر المفسرين استشهدوا بهما.

64- لم نظفر على قائله مع أن أكثر المفسرين استشهدوا بهما.

65- سورة البقرة: الآية: 26.

66- هو أبو المستهل، الكميت بن زيد الأسدي المتولد سنة ستين والمتوفى سنة ستة وعشرين ومئة، من شعراء أهل البيت ومادحيهم وصاحب القصيدة المعروفة (من لقب متيم مستهام).

67- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 68.

68- سورة السجدة: الآية 10.

69- سورة محمد: الآية 4.

70- وصدر البيت: يذهبن في نجد وغورا غائرا، لرؤبة بن العجاج، وقيل لذي الرمة يصف نوقا تمشي في المفاوز، خارجات عن طريق الاستقامة، مجاوزات حده، وبين ذلك بقوله: يذهبن، وروى يهوين، أي يسرعن تارة في مكان مرتفع، وتارة في غور، أي في مكان كثير الانخفاض، فغور نصب على الظرفية وغائرا وصف مؤكد - نقلا عن هامش تفسير الكشاف: ج 1، ص 119.

71- سورة التوبة: الآية 67.

72- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 41.

73- الكشاف: ج 1، ص 119.

74- تفسير القمي: ج 1، ص 34، والبرهان: ج 1، ص 70. وتمام الحديث (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه في علي ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل يعني من صلة أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون).

75- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 83.

76- مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 70.

77- سورة العلق: الآية 15 - 16.

78- تفسير القمي: ج 1، ص 35، قال في حديث: " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل "، يعني من صلة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام).

79- لاحظ الكافي: ج 2، باب الهجرة، ص 344، وباب قطيعة الرحم، ص 346.

80- شرح الكافية: ج 2، ص 117.

81- شرح الكافية: ج 2، ص 117.

82- النشر في القراءات العشر لابن الجزري: ج 2، ص 208.

83- تفسير القرطبي: ج 1، ص 255، وفي هامشه: القائل هو الأخطل كما في شرح القاموس.

84- سورة فصلت: الآية 9 - 11.

85- سورة النازعات: الآية 30.

86- سورة البلد: الآية 17.

87- قيل: هو حجر يملا الكف وفي الحديث لما نزل (تبت يدا أبي لهب) جاءت امرأته وفي يدها فهر قال: هو الحجر ملا الكف وقيل: هو الحجر مطلقا والجمع أفهار وفهور، لسان العرب: ج 5، ص 66، في لغة فهر.

88- الكشاف: ج 1، ص 124، نقلا عن الحسن.

89- سورة الأعراف: الآية 155.