الآية 11 - 20

﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)﴾

أطراف الأرض وجوانبها هذه صرة واحدة كصرة كيس لفعل، أو يحط لك السماء إلى الأرض لفعل، ويرفع لك الأرض إلى السماء لفعل، أو يقلب لك ما في بحارها أجاجا، ماء عذبا، أو زئبقا أو يانا أو ما شئت من أنواع الأشربة والادهان لفعل، ولو شئت أن يجمد البحار ويجعل سائر الأرض مثل البحار لفعل.

ولا يحزنك تمرد هؤلاء المتمردين وخلاف هؤلاء المخالفين، فكأنهم بالدنيا وقد انقضت عنهم كأن لم يكونوا فيها، وكأنهم بالآخرة إذا وردوا عليها كأن لم يزالوا فيها، يا علي، إن الذي أمهلهم مع كفرهم وفسقهم في تمردهم عن طاعتك، هو الذي أمهل فرعون ذا الأوتاد ونمرود وكنعان، ومن ادعى الإلهية من ذوي الطغيان، وأطغى الطغاة إبليس ورأس الضلالات، وما خلقت أنت ولا هم لدار الفناء، بل خلقتم لدار البقاء ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار، ولا حاجة لربك إلى من يسوسهم و يرعاهم، ولكنه أراد تشريفك عليهم وإبانتك بالفضل فيهم، ولو شاء لهداهم أجمعين.

قال: فمرضت قلوب القوم لما شاهدوا من ذلك، مضافا إلى ما كان في قلوبهم من مرض، فقال الله عند ذلك: " في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " (1).

وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض: معطوف على (يكذبون) أو على " يقول آمنا ".

ورجح الأول: بقربه، وبإفادته تسبب الفساد، فيدل على وجوب الاحتراز عنه كالكذب.

وفيه بحث، لأنه يفيد تسبب هذا القول منهم في جواب لا تفسدوا للعذاب، لا تسبب الفساد له.

والثاني: تكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم، وبإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا، وبدلالتها على أن لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها.

ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " إلى آخره لكنه بعيد، لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم، إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم.

ويخطر بالبال احتمال أن يكون معطوفا على قوله: " يخادعون الله " إلى آخره.

و " إذا " ظرف زمان، ويلزمها معنى الشرط غالبا، ولا يكون إلا في الامر المحقق، أو المرجح وقوعه.

ويختص بالدخول على الجملة الفعلية، ويكون الفعل بعدها ماضيا كثيرا، ومضارعا دون ذلك.

والفساد: خروج الشئ عن كونه منتفعا، والصلاح ضده.

وكان من جملة فسادهم في الأرض هيج الحروب والفتن بمخادعة المسلمين، ومعاونة الكفار عليهم بإفشاء أسرارهم إليهم.

ومنها: الاخلال بالشرائع التي برعايتها ينتظم العالم، بإظهار المعاصي.

ومنها: الدعوة في السر إلى تكذيب المسلمين وجحد الاسلام، وإلغاء السنة.

والقائل هو الله سبحانه بلسان الرسول، أو الرسول، أو بعض المؤمنين.

قالوا إنما نحن مصلحون: جواب (إذا) ورد للناصح على سبيل المبالغة، لان (إنما) هي كلمة (إن) التي لاثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها (ما) الكافة لزيادة التأكيد، فقصدوا بها قصر ما دخلته على ما بعده، فهذا من باب قصر المسند إليه على المسند، لكن قصر إفراد.

لأنهم لما سمعوا قول المسلمين لهم: لا تفسدوا في الأرض، توهموا أنهم يجعلونهم مصلحين تارة ومفسدين أخرى، لاستبعادهم أن يجعلوهم مفسدين في جميع الأحوال، فأجابوا بأنهم مقصورون على الاصطلاح لا يتجاوزونه إلى الافساد، فإصلاحهم غير مشوب بإفساد.

وكلمة (إنما) دالة على أن ذلك أمر مكشوف لا ينبغي أن يشك فيه، فإن الشرط فيها أن تدخل على حكم يكون بينا في نفس الامر، أو بحسب الادعاء.

وإنما قالوا ذلك: لأنهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا.

وروي عن العالم موسى (عليه السلام) في تفسير الآية: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير: لا تفسدوا في الأرض باظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم وتحيرونهم في مذاهبهم، قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد، ونحن في الدين متحيرون، فنحن نرضي في الظاهر محمدا بإظهار قبول دينه وشريعته، ونقضي في الباطن إلى شهوتنا، فنتمتع ونترفه ونعتق أنفسنا من رق محمد، ونكفها من طاعة ابن عمه علي، لكي إن أديل في الدنيا كنا قد توجهنا عنده، وإن اضمحل أمره لنا سلمنا من سببي أعدائه (2).

ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون: (ألا) و (إنما) مركبتان من همزة الاستفهام وحرف النفي.

لا عطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، فإن الاستفهام إذا كان للانكار ودخل على النفي أفاد تخفيفا، لان نفي النفي إثبات وتحقيق، كقوله: " أليس ذلك بقادر " (3).

والأكثرون على أنهما حرفان موضوعان لذلك المعنى لا تركيب فيهما، ويدخلان على الجملتين.

ويشاركهما في الدلالة على معنى التنبيه " الهاء " لكنها تختص بالدخول على أسماء الإشارة والضمائر غالبا.

ولما بالغ المنافقون في إظهار الاصلاح، بولغ في إفسادهم من جهات متعددة.

﴿وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13)﴾

الاستئناف، فإنه يقصد به زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع، لوروده عليه بعد السؤال والطلب.

وما في كل واحدة من كلمتي (ألا) و (إن) من تأكيد الحكم و تحقيقه.

وتعريف الخبر المفيد حصر المسند على المسند إليه قصر قلب.

وتوسيط الفصل المؤكد لهذا الحصر.

وقوله: " لا يشعرون " لدلالته على أن كونهم مفسدين، قد ظهر ظهور المحسوس، لكن لا حس لهم ليدركوه.

وقيل: المبالغة في تعريف المفسدين على قياس ما مر في المفلحين، أنه إن حصلت صفة المفسدين وتحققوا وتصوروا بصورتهم الحقيقية فالمنافقون هم لا يعدون تلك الحقيقة، فيكون الفصل مؤكدا لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في إفادة المطلوب.

وروي في تفسير تلك الآية: ألا إنهم هم المفسدون بما يغفلون أمور أنفسهم، لان الله يعرف نبيه نفاقهم فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم، ولا يثق بهم، فهم أعداء المؤمنين، لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم كما ينافقون أصحاب محمد، فلا يرفع لهم عندهم منزلة ولا يحل لهم عندهم محل أهل الثقة (4).

وإذا قيل لهم آمنوا: هذا من تمام النصح والارشاد، فإن الايمان مجموع الامرين: الاعراض عما لا ينبغي، وهو المقصود بقوله: " لا تفسدوا " والاتيان بما ينبغي، وهو المطلوب بقوله: " آمنوا ".

وأمرهم بالايمان بعد نهيهم عن الافساد، لان التحلية لا تتيسر إلا بعد التخلية.

كما آمن الناس: (ما) في (كما) إما كافة كما في قوله تعالى: " فبما رحمة من الله لنت لهم " (5) أو مصدرية كما في قوله تعالى: " واذكروه كما هداكم " (6) فإن كانت كافة للكاف عن العمل مصححة لدخولها على الجملة، كان التشبيه بين مضمونتي الجملتين، أي حققوا إيمانكم كما حقق الناس إيمانهم.

وإن كانت مصدرية، فالمعنى آمنوا إيمانا كإيمانهم.

وعلى التقديرين قوله: " كما آمن الناس " في موضع النصب على المصدرية، واللام للعهد، أي كما آمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن معه، وهم ناس معهودون على الاطلاق عندهم، أو من آمن من أهل بلدتهم كابن سلام وأصحابه، وهم ناس معهودون عندهم، أو للجنس.

والمراد به الكاملون عندهم في الانسانية العاملون بقضية العقل.

فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا، يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره، فيقال: زيد ليس بإنسان.

وقد جمع الاستعمالين قول الشاعر: إذ الناس ناس والزمان زمان (7).

واستدل به على مطلبين: أحدهما: أن توبة الزنديق مقبولة.

ثانيهما: أن الاقرار باللسان إيمان.

تقرير الأول: إن الكافرين مأمورون بالايمان، فلو لم تكن توبتهم مقبولة لم يكونوا مكلفين، ضرورة أن كونهم مكلفين مع عدم قبول توبتهم جبر.

وهذا إنما يتم لو كان دعوة بعض المؤمنين إلى الايمان تكليفا، ولو سلم فإنما يدل على ذلك لو كان قولهم ذلك بطريق الدعوة.

والحق أن توبة الزنديق عن غير فطرة مقبولة، وعن الفطرة غير مقبولة ظاهرا، لكن لا بدلالة الآية (8)، بل بدلالة الآيات الأخر والأحاديث المروية (9).

وتقرير الثاني: إنه لو لم يكن إيمانا لم يفد التقييد بقوله: (كما آمن الناس) والتالي باطل فالمقدم مثله، والملازمة ممنوعة.

والمستند أن ذلك مبني على أن يكون المراد من الناس، المنافقين المذكورين سابقا، وليس كذلك، بل المراد المؤمنين، وفائدة التقييد التحريص، ونظيره قوله: أكرم أخاك كما أكرمه عمرو.

وبعض استدل من قوله: " ومن الناس من يقول آمنا وما هم بمؤمنين " على أن الاقرار فقط ليس بإيمان.

وهو أيضا باطل، لجواز أن يكون قولهم (آمنا) لاخبار الايمان لا إنشاءه.

قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء: الهمزة فيه للانكار مجازا، إذ الأصل فيه الاستفهام، استعملت فيه لعلاقة عدم اعتقاد الثبوت فيهما.

وإذا كان للاستفهام يطلب به التصور والتصديق، كما يطلب ب? " هل " التصديق، وبباقي أدوات الاستفهام التصور.

والحق أن الكل لطلب التصور في المآل.

ومعنى الانكار فيه: أن ذلك لا يكون أصلا.

واللام للعهد، إشارة إلى الناس المذكور سابقا، أو الجنس، وهم مندرجون تحت مفهومه على زعمهم.

ولتسفيههم، إما لجعل الايمان سفها، أو لجعل المؤمنين المشهورين به، أو ليجعلونهم مشهورين به، أو لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم.

فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء، ومنهم موال كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة لهم بمن آمن منهم، إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه.

والسفة: خفة العقل وقلته، ويقابله الحلم بالكسر: وهو الاناءة.

وكان هذا الكلام مقولا فيما بينهم، لا في وجوه المؤمنين، لأنهم كانوا منافقين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فأخبر سبحانه بذلك نبيه، ورد عليهم بأبلغ رد، وقال: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون: تفصيل هذه الآية ب? (لا يعلمون) والتي قبلها ب? (لا يشعرون) لأنه أكثر طباقا لذكر السفه، ولان الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وتفكر، وأما النفاق وما فيه من النقص والفساد فمما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم.

وروي في تفسير تلك الآية عن موسى (عليه السلام): إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة، قال لهم خيارهم المؤمنون كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار: آمنوا برسول الله وعلي (عليهما السلام) الذي أوقفه موقفه وأقامه مقامه وناط مصالح الدين والدنيا كلها به، وآمنوا بهذا النبي وسلموا لهذا الامام وسلموا له ظاهرة وباطنة كما آمن الناس المتقدمون.

قالوا في الجواب: ولكنهم يذكرون لمن يفيضون إليهم من أهليهم الذين يثقون بهم، يقولون لهم: أنؤمن كما آمن السفهاء - يعنون سلمان و أصحابه - لما أعطوا عليا خالص دينهم وودهم ومحض طاعتهم وكشفوا رؤوسهم بموالاة أوليائه ومعادة أعدائه؟فرد الله عليهم الذين لم ينظروا في أمر محمد حق النظر، فيعرفوا نبوته ويعرفوا به صحة ما ناطه بعلي (عليه السلام) من أمر الدين والدنيا، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج الله جاهلين وصاروا خائفين وجلين من محمد ودوامه (عليه السلام)، ولكن لا يعلمون أن الامر كذلك وأن الله يطلع نبيه (صلى الله عليه وآله) على أسرارهم، فيخسئهم ويلعنهم ويسفههم (10).

قال بعض الفضلاء: وإذا سمعت شطرا من الاحكام اللفظية، فاسمع نبذا.

﴿وإذا لقوا الذين ء امنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14)﴾

من المعاني البطنية، فنقول: وإذا قيل لهؤلاء المتوسمين بالايمان الرسمي المدعين التوحيد الحقيقي: لا تفسدوا في أرض استعدادكم لذلك التوحيد، ولا تبذروا فيها بذر الشرك بإضافة الافعال إلى أنفسكم.

قالوا: إنما نحن مصلحون لها بارتكاب الأعمال الصالحة، واكتساب الأفعال الحسنة لتترتب عليها الا جزية الأخروية من الجنات وما فيها من أنواع النعيم المقيم، فقيل في ردهم: ألا إنهم هم المفسدون لها، فإن ترتب تلك الا جزية لا يتوقف إلا على نفس الأعمال، لا على إضافتها إلى أنفسهم، بل بهذه الإضافة يبقون محرومين عن التوحيد ولا يتحققون به أصلا، وكيف يتحققون وهم لا يصلون إلى توحيد الافعال، فكيف بتوحيد الصفات والذات! فلا يحظون بما يترتب عليه مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكنهم لا يشعرون بذلك الافساد، لأنه من قبيل الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل.

وإذا قيل لهم آمنوا إيمانا حقيقيا كما آمن الناس المتحققون بحقائق الحقيقة الانسانية الكمالية، الباذلون وجودهم بالفناء في الله.

قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟فإن من السفه بذل الوجود الذي هو رأس مال الحظوظ العاجلة والآجلة، فقيل في ردهم: ألا إنهم هم السفهاء، فإن من يبذل وجوده الفاني يبقى ببقاء الحق سبحانه، وأين الوجود الفاني من البقاء بالحق!؟ولكنهم لا يعلمون ذلك، لان هذا العلم لا يحصل بالحجة والبرهان، بل بالذوق والوجدان.

وإذا لقوا الذين ء امنوا قالوا آمنا: وقرئ " ولاقوا " هذه الجملة مع ما عطفت عليها في حكم كلام واحد، مساقة لبيان معاملتهم مع المؤمنين وأهل دينهم، وتنافي قولهم لهما بخلاف صدر قصتهم، فإنه مسوق لبيان أصل نفاقهم من غير تعرض للقائهم المؤمنين وقولهم معهم، ولخلوهم مع شياطينهم وقولهم لهم، فما يتوهم في أجزاء الشرطية الأولى من التكرار مضمحل بالكلية.

تقول لقيته ولاقيته: إذا استقبلته قريبا منه، ومنه ألقيته إذا طرحته، لأنك بطرحه جعلته بحيث يلقى.

وإذا خلوا إلى شياطينهم: من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه.

أي إذا انفردوا مع شياطينهم، أو من خلاك ذم، أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية أي الماضية.

أي إذا مضوا عن المؤمنين إلى شياطينهم.

واستعمال (خلا) ب? (إلى) على هذين المعنيين ظاهر.

أو خلوت به إذا سخرت منه، وحينئذ يحتاج في استعماله ب? (إلى) إلى تضمين معنى الانهاء.

أي إذا سخروا من المؤمنين منهين هذه السخرية إلى شياطينهم.

وهذا كما تقول: أحمد إليك فلانا، أي أحمده منهيا ذلك الحمد إليك.

وشياطينهم: أصحابهم الذين مايلوا الشياطين في تمردهم منافقين كانوا أو مشركين، فيكون من قبيل الاستعارة.

وجعل سيبويه تارة نونه أصلية على أنه من شطن إذا بعد، فهو بعيد عن الصلاح، ويشهد له قولهم: تشيطن.

وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، ومن أسمائه الباطل (11).

قالوا إنا معكم: في عدم الايمان بمحمد (صلى الله عليه وآله) وخاطبوا المؤمنين المنكرين بالفعلية مجردة عن التأكيد، وشياطينهم الذين لا يذكرون بالاسمية مؤكدة، والقياس العكس، لأنهم كانوا مع المؤمنين بصدر الاخبار بحدوث الايمان منهم، وتركوا التأكيد لعدم الباعث عليه من بواطنهم من صدق ونية ووفور اعتقاد، أو لعدم رواجه عنهم عند المخاطبين الذين هم أرباب فهم وكياسة بلفظ التأكيد، بخلاف مخاطبتهم مع شياطينهم، فإنهم فيما أخبروهم به على صدق رغبة و وفور نشاط، وهو رائج عنهم متقبل منهم على لفظ التأكيد.

﴿الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)﴾

إنما نحن مستهزءون: تأكيد لسابقه، إذ معنى " إنا معكم " هو الثبات على اليهودية، وقوله: " إنما نحن مستهزؤن " وإن لم يكن بظاهره تأكيدا لهذا المعنى، لكن له لازم، وهو أنه رد ونفي للاسلام يؤكده، لان دفع نقيض الشئ تأكيد لثباته، أو بدل.

وتقريره: أنه لما كان قصدهم إلى إظهار تصلبهم في دينهم، وكان في الكلام الأول قصورا عن إفادته، إذ كانوا يوافقون المؤمنين في بعض الأحوال، فاستأنفوا القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الاسلام وأهله، فهم أرسخ قدما من شياطينهم.

أو استيناف، كأن الشياطين قالوا: إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين؟فأجابوا بذلك.

وهو أوجه لزيادة الفائدة، وقوة المحرك للسؤال.

وهذه الوجوه الثلاثة بيان لترك العاطف في كلامهم.

وأما تركه في حكايته، فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد.

الاستهزاء: السخرية والاستخفاف، يقال: هزأت واستهزأت بمعنى، كأجبت و استجبت، وأصله الخفة من الهزء بالفتح، وهو القتل السريع.

وهزأ يهزأ بالفتح فيهما، مات على المكان، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف.

الله يستهزئ بهم: المراد باستهزاء الله: مجازاته إياهم على استهزائهم بالمؤمنين، لما بين الفعل وجزائه من ملابسة قوية، ونوع سببية، مع المشاكلة المحسنة من مقابلة اللفظ باللفظ والمماثلة في القدر، فيكون من قبيل المجاز المرسل.

وقد روى رئيس المحدثين في كتاب التوحيد بإسناده، عن علي بن الحسين بن فضال، عن أبيه، عن الرضا علي بن موسى (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: " سخر الله منهم " (12) وعن قوله: " الله يستهزئ بهم " (13) وعن قوله: " مكروا ومكر الله " (14) وعن قوله: " يخادعون الله وهو خادعهم " (15)، فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يسخر ولا يستهزئ، ولا يمكر، ولا يخادع، ولكنه عز وجل يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

انتهى (16).

وإنزال الهوان والحقارة بهم، لأنه الغرض من الاستهزاء، فهذا أيضا من المجاز المرسل، لعلاقة السببية في التصور والمسببية في الوجود.

وفي هذا التوجيه تنبيه على أن مذهبهم حقيق بأن يسخر منه ويستهزأ به لأجله.

أو معاملته سبحانه معهم معاملة المستهزئ بمن يستهزئ به.

واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، فيكون استعارة.

وهي في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة في النعمة، مع تماديهم في الطغيان.

وفي الآخرة فبأن يفتح وهم في النار باب إلى الجنة فيسرعون إليه، فإذا قربوا منه سد عليهم.

أو إرجاع وبال الاستهزاء إليهم، فيكون كالمستهزئ بهم، فيكون استعارة أيضا.

أو لازم معناه، وهي إظهاره خفة عقل المستهزأ به وقلته، فيكون سبحانه مستهزء بهم في عين استهزائهم بالمؤمنين، فإن من استهزائهم بهم مع ظهور أمرهم، يظهر خفة عقولهم وقلتها.

وهو استئناف.

فإنهم لما بالغوا في استهزاء المؤمنين مبالغة تامة، ظهر بها شناعة ما ارتكبوه وتعاظمه على الاسماع على وجه يحرك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم؟وعقبى حالهم؟وكيف معاملة الله والمؤمنين إياهم؟ وفي تصدير الاستئناف بذكر الله: دلالة أولا: على أن الاستهزاء بالمنافقين، هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم، وذلك لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جنب علمه وقدرته.

وثانيا: على أنه تعالى يكفي مؤونة عباده المؤمنين، ولا ينتقم لهم، ولا يحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم.

وإنما قال: " يستهزئ " ولم يوافق لقولهم، ليفيد حدوث الاستهزاء، وتجدده وقتا بعد وقت.

أما إفادته الحدوث فلكونه فعلا.

وأما إفادة تجدده وقتا بعد وقت، فلان المضارع لما كان دالا على الزمان المستقبل الذي يحدث شيئا بعد شئ على الاستمرار، ناسب أن يقصد به إذا وقع موقع غيره، أن معنى مصدره المقارن لذلك الزمان يحدث مستمرا استمرارا تجديديا، لا ثبوتيا كما في الجملة الاسمية.

و إنما أفيد ذلك ليكون على طبق نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة أفلا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين.

ويمدهم في طغيانهم يعمهون: من مد الجيش وأمده، إذا زاده وقواه.

و مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد.

ومنه مد الدواة وأمدها إذا أراد أن يصلحها.

لا من مد العمر بمعنى الاملاء والامهال، فإنه يعدى باللام كأملى له.

والحذف والايصال خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا بدليل.

ويؤيده قراءة ابن كثير (ويمدهم) بضم الياء من الامداد، بمعنى إعطاء المدد، وليس من المد في العمر والامهال في شئ (17).

والأصل في الطغيان - بالضم والكسر ك? (لقيان) ولقيان - تجاوز الشئ عن مكانه، والمراد تجاوز الحد في الكفر والغلو في العصيان.

والمراد زيادة طغيانهم بسبب تمكين الشيطان من إغوائهم، أو أنه لما منعهم الطاقة التي يمنحها المؤمنون وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم وسدهم طرق التوحيد على أنفسهم، فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونوارا، فإسناد الفعل إلى الله إسناد إلى المسبب، وإضافة الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة.

والعمه، قيل: مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة.

وقيل: العمى في العين، والعمه في القلب.

وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه، يقال: رجل عامه وعمه، وأرض عمهاء، لا منار بها، ولعل التخصيص يكون حيث تكون المقابلة.

و " في طغيانهم " إما متعلق ب? (يمدهم) وحينئذ يكون (يعمهون) حالا من مفعول يمدهم، أو فاعل الطغيان.

وإما متعلق ب? (يعمهون) قدم عليه لرعاية الفاصلة، وحينئذ يتعين أن يكون حالا من الأول.

قال بعض الفضلاء: وإذ وقع الفراغ من حل ظاهر عباراته، فاسمع بطنا من بطون إشاراته، فنقول: إذا لاقى المتوسمون بالايمان الرسمي الذين آمنوا إيمانا حقيقيا وتحققوا بحقيقة التوحيد، وانعكست إليهم أنوارهم الايمانية، فتوهموا إنها من أنفسهم وملك لهم، قالوا بلسان حالهم: آمنا إيمانا كإيمانهم.

وإذا فارقوا وخلوا إلى شياطينهم المبعدين، وانفصلت منهم تلك الأنوار، ورجعوا إلى ظلمتهم الأصلية الحجابية، وتضاعفت به ظلمتهم لاجتماعهم مع هؤلاء الشياطين، قالوا لهم: إنا معكم متفقون بكم فيما أنتم فيه من إثبات ذواتكم وإسناد الصفات والافعال إليها، مستهزؤون بالذين لا يثبتون إلا وجودا واحدا، ويسندون إليه الافعال والصفات كلها، فإن ذلك لا يحكم بصحة العقل، الله يستهزئ بهم في عين استهزائهم بهم، فإن ذلك الاستهزاء فعل الحق فيهم انصبغ بصبغ الاستهزاء، لالحاق الهوان والحقارة بهم في عيون أرباب البصيرة، فيكون استهزاء بهم، ويمدهم في طغيانهم، أي غلوهم في نفي التوحيد الحقيقي، مترددين متحيرين بين المؤمنين إيمانا حقيقيا وبين شياطينهم الجاحدين ذلك الايمان، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى معللة للجملة الدالة على استحقاقهم الاستهزاء على سبيل الاستئناف، أو مقررة لقوله: (يمدهم في طغيانهم) على سبيل التوكيد.

وأصل الاشتراء: بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث أنه لا يطلب بعينه أن يكون ثمنا، وبذله اشتراء و أخذه بيع، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد.

والنض والناض: الدنانير والدراهم عند أهل الحجاز، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن، فباذله مشتر وآخذه بائع.

ثم استعير للاعراض عما في يده محصلا به غيره سواء كان من المعاني أو الأعيان، ثم اتسع فاستعمل للرغبة عن الشئ طمعا في غيره فإن اكتفى بجعل الطرفين أعم من أن تكون الأعيان أو المعاني أو مختلفين، وبقي الاستبدال محفوظا، والاستبدال موقوف على تملك ما هو كالثمن.

فاحتيج في اشتراء الضلالة بالهدى إلى أن نزل التمكن من الهدى بحسب الفطرة منزلة تملكه، فيكون التجوز في نسبة الهدى بالتملك إليهم لا في نفسه، أو أريد بالهدى ما جبلوا عليه من تمكنهم منه، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فيكون التجوز في نفس الهدى لا في نسبته إليهم بالتملك، فإن التمكن من الهدى ثابت لهم من غير تجوز وإن لم يبق الاستدلال أيضا محفوظا، كما إذا استعمل للرغبة عن الشئ طمعا في غيره، فلا حاجة إلى ذلك التنزيل أو التجوز.

فما ربحت تجارتهم: وقرأ ابن عبلة (تجاراتهم) بصيغة الجمع (18).

وذكر الربح ترشيح للمجاز الواقع في " اشترى " وهو أن يقرن بالمجاز ما يلائم المعنى الحقيقي، فإنه لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه بما يشاكله، تمثيلا لخسارهم، والمعنى ضرت تجارتهم، لأن عدم الربح وإن كان أعم من الخسران، لوجود الواسطة بينهما، لكن المقام يخصه به.

لان المقصود ذم المنافقين والذم في الخسران آكد من عدم الربح.

وإنما عبر عن الخسران بنفي الربح، للتصريح أولا بانتفاء ما هو مقصود من التجارة، والدلالة ثانيا على إثبات ضده، والإفادة ثالثا المبالغة بأن نفي الربح بالبيع والشراء.

والربح: الفضل على رأس المال، وإسناده إلى التجارة نفيا وإثباتا، لتلبسه بالتجارة مجاز عقلي، وهو إسناد شئ إلى غير ما هو له نفيا أو إثباتا، كما أن الحقيقة العقلية إسناده إلى ما هو له كذلك، لكن في الحقيقة الموجبة صادقة، والسالبة كاذبة، وفي المجاز بالعكس، فلا حاجة في كونه من المجاز العقلي إلى تأويل " ما ربحت " ب? " خسرت " ولا إلى أن يفرق بين إسناد النفي ونفي الاسناد.

هكذا قيل.

وفيه نظر يظهر بالتأمل.

والتحقيق: ما ذكره السكاكي من أن المراد بالتجارة المشترون مجازا والاسناد حقيقة فتأمل.

وما كانوا مهتدين: عطف على (ما ربحت تجارتهم) أي ما كانوا مهتدين لطرق التجارة، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه.

وليمكن حمله على العموم، وإن اشتمل على تكرار ما، فالحمل على الأول أولى، لأنهم لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة، كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر، فهو راجع إلى الترشيح.

ويحتمل عطفه على (اشتروا) بل هو أولى، لان عطفه على (ما ربحت) يوجب ترتبه على ما تقدم بالفاء، فيلزم تأخره عنه، لكن الامر بالعكس.

ويحتمل أن يكون حالا من فاعل اشتروا، أو ربحت، أو ضمير تجارتهم.

وإنما حكم بانتفاء الربح عن تجارتهم وعدم اهتدائهم لطرق التجارة، لان مقصود التجار منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا رأس المال، فكيف يفوزون بالربح الذي هو الفضل عليه! وروي أنه قد حضر قوم عند رسول الله (صل الله عليه وآله) وقالوا: سبحان الرازق! كان فلان في ضنك وشدة، فسافر ببضاعة جماعة وربح الواحد عشرة، فهو اليوم من مياسير أهل المدينة، وقال جماعة أخرى بحضرته: إن فلانا كان في سعة ودعة وكثرة مال، فسافر في البحر فغرقت سفينته وتلفت أمواله ونجى بنفسه في.

﴿مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون (17) صم بكم عمى فهم لا يرجعون (18)﴾

كمال الفقر والفاقة والحيرة، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا أخبركم بالأحسن من الأول، والأسوء من الثاني؟فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: أما الأول فرجل اعتقد في علي بن أبي طالب ما يجب اعتقاده، من كونه وصي رسول الله وأخاه ووليه وخليفته ومفروض الطاعة، فشكر له ربه ونبيه ووصي نبيه، فجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، فكانت تجارته أربح وغنيمته أكثر و أعظم.

وأما الثاني فرجل أعطى عليا بيعته وأظهر له موافقته، ثم نكث بعد ذلك و خالفه ووالى أعداءه فختم له سوء أعماله فصار إلى عذاب لا يبيد ولا ينفد، ذلك هو الخسران المبين (19).

قال بعض الفضلاء: إن تأويل الآية بالإشارة إلى بطن من بطونها، أن يقال: أولئك المتوسمون بالايمان الرسمي، هم الذين اشتروا ضلالة ظلمة حجر أنياتهم بهدى نور استعدادهم الفطري لكشف حقائق التوحيد الحقيقي واختاروها عليه، فما ربحت تجارتهم هذه، لأنهم أضاعوا رأس مالهم الذي هو هدى ذوي الاستعداد، فكيف تربح تجارتهم بعد إضاعتهم إياه! والحال أنهم ما كانوا مهتدين لطرق تلك التجارة سالكين سبيل الفوز بها على وجه يربحون ولا يخسرون.

مثلهم: لما بين حقيقة صفة المنافقين، أراد أن يكشف عنها كشفا تاما.

ويبرز لها في معرض المحسوس المشاهد.

ففيها يضرب المثل مبالغة في البيان.

ولامر ما أكثر الله في كتبه الأمثال، وكثر في كلام الأنبياء والحكماء.

ومن سور الإنجيل سورة الأمثال (20).

والمثل في الأصل بمعنى المثل، وهو النظير، يقال: مثل ومثل ومثيل كشبه و شبه وشبيه، ثم قيل: مثل، للقول السائر.

ويعتبر فيه أن يكون تشبيها تمثيليا على سبيل الاستعارة، ومن ثم حوفظ عليه ولم يغير، فيكون بعينه لفظ المشبه به، فإن وقع تغيير لم يكن مثلا، بل مأخوذا منه وإشارة إليه، كما في قولك: بالصيف ضيعت اللبن، بالفتح (21).

وقيل: لم يغير، لأنه ينبغي أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه، فلو غير لربما انتفت تلك الغرابة.

وإنما سمي مثلا، لأنه جعل مضربه، وهو ما يضرب فيه ثانيا مثلا لمورده، وهو ما ورد فيه أولا، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها فيه بيان أو غرابة.

ويمكن حمله هناك على كل واحد من تلك المعاني.

كمثل الذي استوقد نارا: معناه حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا.

و " الذي " بمعنى الذين، كما في قوله: " وخضتم كالذي خاضوا " (22) إن جعل مرجع الضمير في " بنورهم ".

وإنما جاز ذلك، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين، لأنه غير مقصود بالوصف، بل الجملة التي هي صلته، وهو وصلة إلى وصف المعرفة بجملة موصولة بها.

ولأنه ليس باسم تام، بل هو كالجزء منه، فحقه أن لا يجمع كما لا يجمع أخواتها.

ويستوي فيه الواحد والجمع.

وليس " الذين " جمعه المصحح، بل ذو زيادته، زيدت لزيادة المعنى، ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي جاء التنزيل عليها، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف، ولذلك بولغ فيه، فحذف ياؤه، ثم كسرته، ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، أو قصد به جنس المستوقدين، أو الفوج الذي استوقدوا.

وإن لم يجعل مرجعا لذلك الضمير فلا حاجة إلى ذلك، لان المقصود تشبيه الحال بالحال، وهما متطابقان، إلا أن يقصد رعاية المطابقة بين الحالين في كونهما بالواحد أو الجماعة أيضا، فإن المماثلة حينئذ أقوى والتشبيه إلى القبول أقرب.

والاستيقاد: طلب الوقود والسعي في تحصيله، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها.

واشتقاق النار: من نار ينور إذا نفر، لان فيها حركة واضطرابا، والنور مشتق منها، فإن الحركة والاضطراب توجد في النار أولا وبالذات، وفي نورها ثانيا و بالعرض، فاشتقاق النور منها أولى من اشتقاقها منه.

فلما أضاءت ما حوله: عطف على الصلة، فيكون التشبيه بحال المستوقد الموصوف بمضمون الشرطية، أعني " لما " مع جوابه، و " لما " تدل على وقوع الشئ، لوقوع غيره بمعنى الظرف، والعامل فيه جوابه.

والإضاءة: فرط الإنارة، كما أن الضوء فرط النور، ومصداق ذلك قوله تعالى " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا " (23).

ويناسبه ما اصطلح عليه الحكماء من أن الضوء ما يكون للشئ من ذاته كما للشمس، والنور ما يكون من غيره كما للقمر.

وأضاء في الآية إما متعدد، فيكون " ما حوله " مفعولا به، أي جعلت النار ما حول المستوقد مضيئا، وإما لازم فيكون مسندا إلى ما حوله، أي صارت الأماكن والأشياء التي حوله مضيئة بالنار، أو إلى ضمير النار وحينئذ إما أن تكون كلمة " ما " زائدة و " حوله " ظرفا لغوا لأضاءت، وإما موصولة وقعت عبارة عن الأمكنة، فتكون مع صلتها مفعولا فيه لأضاءت.

ويرد على الأول، أن إضاءة النار حول المستوقد يقتضي دورانها حوله وهو خلاف المعهود.

وأجيب بان المراد دوران ضوئها، لكنه جعل دوران الضوء بمنزلة دوران النار، استنادا إلى السبب.

وعلى الثاني، أنه كان ينبغي أن يصرح بكلمة " في " لان حذفها في لفظ مكان إنما كان لكثرة الاستعمال، ولا كثرة في الموصول الذي عبر به عن الأمكنة، اللهم إلا أن يحمل على أنه من قبيل (عسل الطريق الثعلب) (24) وعلى هذا التوجيه يلزم دوران مكان النار، وهو لا يستدعي استيعاب النار جميعه، بل بعضه.

و (حوله) نصب على الظرفية، وتأليف حروفه على هذا الترتيب للدوران والإطافة.

وقيل: للعام، حول، لأنه يدور، ومنه حال الشئ واستحال إذا تغير، وحال الانسان وهي عوارضه التي تتغير عليه، والحوالة وهي اسم من أحال عليه بدينه.

ذهب الله بنورهم: جواب ل? " ما " كما هو الظاهر.

وفيه مانعان: لفظي ومعنوي.

الأول: توحيد الضمير في " استوقد " و " حوله " وجمعه في " بنورهم ".

والثاني: أن المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب نوره، بخلاف المنافق، فجعله جوابا غير مناسب.

والجواب عن الأول: أن توحيد الضمير بالنظر إلى لفظ الموصول، وجمعه بالنظر إلى معناه، على أحد الوجوه المذكورة فيما سبق.

وعن الثاني: أنه يمكن أن يكون إذهاب نوره بسبب سماوي، ريح أو مطر، لا بسبب فعل المستوقد، ولذلك.

أسند إلى الله سبحانه أو يكون المراد بالمستوقد، مستوقد نار لا يوضئها الله كما أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، فأطفأها الله.

ويحتمل أن يكون جوابا لما محذوف، أو قوله: " ذهب الله " استئنافا، والمصحح لهذا الحذف قرينة المقام، والمرجح المبالغة في سوء حال المستوقد بإيهام أن الجواب مما تقصر العبارة عنه.

وتقدير الاستئناف أنه لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي خمدت ناره، سأل سائل وقال: ما بالهم قد شبهت حالهم بحال هذا المستوقد؟فقيل له: ذهب الله بنورهم، وحينئذ يكون ضمير الجماعة للمنافقين.

ويحتمل أن يكون بدلا من الجملة التمثيلية وبيانا له، كأنه قيل: كمثل الذي ذهب الله بنورهم، وحينئذ يكون مرجع الضمير الذي استوقد على أحد الوجوه التي سبقت.

وإنما قال " بنورهم " ولم يقل بنارهم، لأنه المقصود من إيقادها.

ولم يقل بضوئهم كما هو مقتضى اللفظ لان في الضوء دلالة على الزيادة، فلو علق الذهاب به، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا، والمقصود إزالة النور عنهم رأسا.

وإنما اختير أولا أضاءت على أنارت، تنبيها على مزيد الحيرة والخيبة، وإشعارا بالبطلان لما تقرر في الأذهان من قوة أمر الباطل في بدء الحال واضمحلاله سريعا في المآل.

وإنما قال: " ذهب الله بنورهم " ولم يقل: أذهب الله نورهم كما قرأ بعضهم، لان معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه، فإن الباء وإن كانت للتعدية كالهمزة، إلا أن فيها معنى المصاحبة واللصوق، وذهب السلطان بماله، أخذه، فالمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه، وما يمسك فلا مرسل له، وهو أبلغ من الا ذهاب لما فيه من معنى الاخذ والامساك.

أما الاخذ فظاهر، وأما الامساك فلما تقتضيه المصاحبة واللصوق.

قال بعض الفضلاء: وعند العارفين النكتة فيه غير ما ذكر.

فإن مجئ الله سبحانه بالنور ليس إلا بتجليه باسم النور على المتجلى له، فهو عند تجليه بالنور متلبس به غير منفصل عنه، وكذلك ذهابه بالنور ليس إلا امتناعه من هذا التجلي، فهو يذهب مكتسيا بالنور لا منفصلا عنه، فهو المتلبس بالنور في الحالين، بل هو النور في العلم، لا نور سواه.

ثم أكد ذلك وقرره بقوله: وتركهم في ظلمت لا يبصرون: ففيه زيادة على ما يدل عليه إذهاب نورهم، من وقوعهم في الظلمة كما وكيفا: أما كما، فلما في الظلمات من الجمعية، وأما كيفا، فلما فيها من تنوين التعظيم وإردافها بقوله " لا يبصرون " فإنه يدل على أنها بحيث لا يتراءى فيها شبحان.

والظلمة: عدم النور مطلقا، وقيل: ما من شأنه ذلك، وقال بعض المتكلمين: هي عرض ينافي النور، فعلى الأول التقابل بينهما تقابل الايجاب والسلب، وعلى الثاني تقابل العدم والملكة، وعلى الثالث تقابل التضاد.

وهي مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية.

وقرئ في ظلمة بالتوحيد، وتوحيدها ظاهر، وأما جمعها فباعتبار انضمام ظلمة الليل إلى ظلمتي الغمام وتطبيقه مثلا.

هذا على تقدير أن يكون ضمير الجماعة كناية عن المستوقدين كما هو الظاهر.

وأما إذا كان كناية عن المنافقين، فقيل: ظلماتهم: ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة.

أو ظلمة الضلال، وظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمدي.

وقيل: المراد بها على التقديرين ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة، فتكون الجمعية أيضا لزيادتها في الكيف.

لا يبصرون: نزل منزلة اللازم وقطع النظر عن مفعوله المتروك، وقصد إلى نفس الفعل كأنه قيل: ليس لهم أبصار.

وهو أبلغ من أن يقدر المفعول، أي لا يبصرون شيئا، لان الأول يستلزم الثاني دون العكس.

وفي الأصل بمعنى خلى وطرح وله مفعول واحد، وقد يضمن معنى صير فيقتضي مفعولين، فعلى هذا قوله: " في ظلمات " مفعوله الثاني، وقوله: " لا يبصرون " فعال من مفعوله الأول.

ويحتمل أن يترك على معناه الأصلي، ويكون " في ظلمات لا يبصرون " حالين مترادفين أو متداخلين.

وفي آخر روضة الكافي بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير الآية ما مضمونه: أنه أضاءت الأرض بنور محمد (صلى الله عليه وآله) كما تضئ الشمس، فلما قبض الله محمدا ظهرت الظلمة فلم يبصروا أفضل أهل بيته (عليهم السلام) (25).

" صم بكم عمى: خبر مبتدأ محذوف، والضمير المحذوف إن كان كناية عن المستوقدين فإطلاق هذه الصفات عليهم على سبيل الحقيقة، والمعنى أنهم أوقدوا نارا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم و انتقصت قواهم، فصاروا صما بكما عميا.

وإن كان عبارة عن المنافقين فإطلاقها عليهم على طريق التشبيه، لأنهم لما سدوا آذانهم عن إصغاء الحق، وألسنتهم عن النطق به، وأبصارهم عن مشاهدة آياته، جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت، لا على سبيل الاستعارة، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له، أي لا يكون مذكورا على وجه ينبئ عن التشبيه، وهو أن يكون بين طرفيه حمل وما في معناه، كذا في الكشاف (26).

قيل: وهنا بحث، وهو أنه لا نزاع في أن تقدير الآية، هم صم، لكن مع ذلك ليس المستعار له مذكورا ها هنا، لأنه أحوال مشاعر المنافقين وحواسهم، لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة، لأنها استعير مصادرها لتلك الأحوال، ثم اشتقت هي منها.

أقول: فعلى هذا " الصم " جمع الأصم و " البكم " جمع الأبكم و " العمي " جمع الأعمى وقد صرح به بعض أهل اللغة، فحينئذ ما ذكره بعض المفسرين: من أن الحمل على سبيل المبالغة، في غاية السقوط.

وغاية ما يتكلف عما في الكشاف أن يقال: تشبيه ذوات المنافقين بذوات الاشخاص الصم، متفرع على تشبيه حالهم بالصم، لكن القصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ إشارة إلى أن المشابهة بين الحالين قويت حتى كأنها تعدت إلى الذاتين، فحمل الآية على هذا التشبيه إنما هو لرعاية المبالغة في إثبات الآفة، وإلا فمقتضى ظاهر الصناعة الحمل على الاستعارة بتبعية المصادر.

وقرئ في الكل بالنصب على الحال من مفعول (تركهم): والصم: الانسداد، تقول: قناة صماء، إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة إذا سددتها، والصمام لما تسدها به، فالأصم من انسدت مسامعه فلا يدخلها هواء يسمع الصوت بتموجه.

والبكم: الخرس، والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر، وقد استعير لعدم البصيرة.

فهم لا يرجعون: يقال: رجع عن كذا إلى كذا، يعني أنهم لا يرجعون عن الضلالة التي اشتروها إلى الهدى الذي باعوه.

فيندفع ما قاله بعض المفسرين: من أن المراد به لا يرجعون إلى الهدى أو عن الضلالة.

وليعلم أن توضيح تمثيل المنافقين بالمستوقدين الموصوفين بما ذكر، وتشبيه حالهم العجيبة بحالهم، موقوف على تحقيق طرفي التشبيه ووجه الشبه.

فنقول: أما المشبه به، فهو صفة المستوقدين نارا كلما أضاءت ما حولهم من الأماكن والأشياء أذهب الله نورهم عند الإضاءة وأمسكه وتركهم في ظلمات متعددة شديدة أدهشتهم بحيث اختلت مشاعرهم وقواهم، فهم لا يقدرون على الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل.

أما المشبه فهو صفة المنافقين الذين إظهارهم الايمان باللسان بمنزلة إيقاد النار العظيمة، وانتفاعهم به بسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك كإضاءتها ما حولهم، و زوال ذلك الانتفاع منهم على القرب بإهلاكهم، وإفشاء نفاقهم على النبي (صلى الله عليه وآله) هو ذهاب نورهم والقاؤهم في أحيان ظهور النفاق والوعيد بالعذاب السرمد، أو الوقوع فيه على مراتبه، تركهم في الظلمات المتعددة الشديدة، وعدم استعمالهم قواهم فيما خلقت له بمنزلة إخلالها، ورسوخهم وتمكينهم فيما أوقعهم فيه بما يخالف فطرتهم كعدم القدرة من المستوقدين على الرجوع إلى ما كانوا عليه.

وأما وجه الشبه فإن اعتبرته بين مفردين من مفردات طرفي التشبيه كما سبقت الإشارة إليه، فذلك من قبيل التشبيه المفرد، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها كقوله: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي (27) - وإن اعتبرته، بأن تنزع من مفردات أحد الطرفين هيئة اجتماعية وحدانية، وشبهتها بهيئة، انتزعتها من مفردات الطرف الآخر، من غير ملاحظة تفاصيل

الآيات من:

﴿أو كصيب من السماء فيه ظلمت ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19)﴾

مفردات الطرفين، ومشابهة بعضها مع بعض، فذلك من قبيل التشبيه المركب المسمى عند أرباب البيان بالتمثيل، وهو الذي يهتم به أرباب البلاغة، وكل كلام يحتملها.

فذكرهم الأول احتمال لفظي ولا مساغ للذهاب إلا إلى الثاني، وذلك لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئة المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها.

ولعبد القاهر كلام مشهور في أن اعتبار التركيب في قول الشاعر: وكأن أجرام النجوم لوامعا * درر نثرن على بساط أزرق (28) - أحق وأولى وإن صح التشبيه بين مفرداته.

قال بعض الفضلاء: تأويل الآية ببعض بطونها أن يقال: مثل المتوسمين بالايمان الرسمي كمثل المستوقدين الذين سبق ذكرهم، حيث تنورت بواطنهم بارتكاب بعض العبادات في بعض الأوقات فتسببوا لما في أنفسهم من النقائص والكمالات، ولم ينفذ فيهم ذلك النور بحيث يتعدى من معرفة أنفسهم إلى معرفة ربهم، بل تنقص ببعض الغفلات، فبقوا متروكين في ظلمات حجب أنياتهم، لا يبصرون ما في الآفاق وما في أنفسهم من لوائح الوحدانية، فهم صم عن سماع ما تنطق به دلائلها، بكم لا يسألونه بلسان استعدادهم، عمي لا يرونه ببعض بصيرتهم، فهم لا يرجعون عما هم فيه من أسباب الشقاوة إلى ما فاتهم من موجبات السعادة.

أو كصيب من السماء: ثم ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون تحقيقا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح.

وكما يجب على البليغ في مظان الاجمال والايجاز أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والاشباع أن يفصل ويشبع.

وهو عطف على قوله: " كمثل الذي استوقد " أي مثلهم كمثل الذي استوقد، أو كمثل ذوي صيب.

وإنما قدر كذلك، لتعيين مرجع الضمائر الآتية، وتحصل كمال الملاءمة مع المعطوف عليه، ومع المشبه أيضا، أي مثلهم.

وأما نفس التشبيه فلا يقتضي تقدير شئ إذ لا يلزم في التشبيه المركب أن يكون ما يلي الكاف هو المشبه به، كما في قوله تعالى: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء " (29).

ومما سمي من التمثيل في التنزيل قوله: " وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الاحياء ولا الأموات " (30) و (أو) موضوعة في أصلها للتساوي، ولذلك اشتهرت بأنها كلمة شك، فتكون مخصوصة بالخبر، ثم استعيرت للتساوي في غير الشك، فاستعمل في غير الخبر بالمعنى المجازي فقط، كالتساوي في استصواب المجالسة في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.

وفي الخبر بكلا المعنيين أعني الحقيقي الذي هو الشك، والمجازي كالتساوي في الاستقلال بوجه التمثيل، كما في هذه الآية.

فيستفاد صحة التشبيه بكل واحدة من هاتين القصتين صريحا، وبهما معا بالطريق الأولى.

وهذا بناء على تبادر معنى الشك فيه، وهو المفهوم من الكشاف (31).

والمفهوم من المفصل: أن كلمة " أو " لاحد الامرين.

ولا شك أن هذا معنى يعم مواردها من الانشاء والاخبار كلها.

وأما الشك والتشكيك والابهام والتخيير والإباحة، فليس شئ منها داخلا في مفهومها، بل يستفاد من مواقعها في الكلام.

والصيب، فيعل، من الصوب، وهو فرط الانسكاب والوقوع، يقال على المطر وعلى السحاب، والآية تحتملهما.

وتنكيره، لأنه أريد به نوع شديد هائل.

وقرئ (كصائب) والأول أبلغ.

والسماء، هو المظلة، أو جهة العلو، وتعريفها للجنس، للدلالة على أن الصيب منطبق، آخذ بآفاق السماء كلها، فإن كل أفق ككل طبقة منها يسمى سماء فتعريف الجنس من غير قرينة البعضية، يدل على أنه منطبق آخذ بكلها لا يختص بسماء دون سماء.

وفي الدلالة على التطبيق إمداد لسائر المبالغات التي في الصيب من جهة مادته الأولى، أي الحروف، فإن الصاد من المستعلية، والياء مشددة، والباء من الشديدة.

ومادته الثانية، أي الصوب، فإنه فرط الانسكاب كما مر.

ومن جهة البناء أعني الصورة، فإن فيعلا صفة مشبهة دالة على الثبوت.

ومن جهة التنكير العارض، لأنه للتهويل والتعظيم، كتنكير النار في الآية الأولى.

وإن أريد بالصيب المطر، فيحتمل أن يراد بالسماء السحاب، ويجعل اللام لاستغراق جميع ما يمكن أن يظل قطعة من وجه الأرض، فإنه يصلح أن يطلق عليه اسم الحساب.

وإن أريد بالصيب السحاب وبالسماء أيضا، فالمعنى هذا النوع من السحاب، وليس فيه كثير فائدة.

والتمثيل الثاني أبلغ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الامر و فظاعته.

ولذلك أخروهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.

فيه ظلمت: بضم الفاء والعين.

وقرئ بفتح اللام وسكونه، جمع ظلمة بضم الفاء وسكون العين فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف.

ومن المتفق عليه بينهم أن الظرف إذا اعتمد على موصوف، أو موصول، أو حرف استفهام، أو حرف نفي فإنه يجوز أن يرفع الظاهر، بخلاف ما إذا لم يعتمد، فإنه لا يجوز إعماله عند سيبويه، ويجوز في جميع ذلك أن الظرف خبر متقدم على مبتدئه.

فعلى هذا يظهر فساد ما قاله البيضاوي، من أن ارتفاعها بالظرف وفاقا (32).

وإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمات تكاثفه وتتابع قطراته، لان تقارب القطرات ومتابعتها يقتضي قلة الهواء المتخلل المنير، وظلمته إظلام غمامه.

وظلمة الليل المستفادة من قوله: (كلما أضاء لهم) والمراد بها ما يتوزع على الاجرام من ظلمته، لا ظلمته كلها حتى يرد أن المطر في ظلمة الليل، لا ظلمة الليل فيه.

ولا شك أن نسبة الظلمة المتوزعة عليه إليه، كنسبة العرض إلى موضوعه، والصفة إلى موصوفها فيصح انتسابها إليه.

وإن أريد به السحاب، فظلماته ظلمة سخمته، أي سواده المسبب عن تراكمه وكثرة مائه وظلمة تطبيقه وإحاطته بجميع الآفاق، وظلمة الليل.

وعلى ما حققناه يندفع ما قاله بعض المفسرين، من أن الظرفية هنا باعتبار الملابسة، لأنه يكون بناء عليه انتساب الظرف إلى مظروفه بفي جائزا، وهو غير جائز.

ورعد وبرق: الرعد من الرعدة بالكسر، وهو صوت يسمع من السحاب، و سببها - على المشهور - اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقتها الريح.

والبرق: الأحسن فيه أن يكون معطوفا على رعد، ويكون المجموع معطوفا على الظلمات بعاطف واحد، من برق الشئ بريقا إذا لمع، وهو ما يلمع من السحاب بواسطة اصطكاكها.

وقيل: الرعد ملك موكل بالسحاب، يسبح.

وقيل: صوت ملك يزجر السحاب.

وقيل: هو ريح تحتبس تحت السماء.

ولم يجمعا كالظلمات، لمصدريتهما في الأصل.

ويحتمل أن يكون المراد بهما معنييهما المصدرية أيضا، أعني الارعاد والابراق.

ولأنهما ليسا أنواعا مختلفة بالنظر إلى أسبابهما كالظلمة.

وكينونتهما في السحاب ظاهرة، وأما في المطر فلأنهما لما كانا في محل يتصل به أعلاه ومصبه أعني السحاب، جعلا كأنهما فيه، أو لان المطر كما ينزل من أسفل السحاب ينزل من أعلاه أيضا، فهو شامل للقضاء الذي فيه السحاب، فهما في جزء من المطر يتصل بالسحاب.

وإنما جاءت الأشياء نكرة، لان المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات واجبة، ورعد قاصف، وبرق خاطف.

والأصل في كلمة " في " أن تستعمل في ظرفية الأجسام للأجسام، ثم اتسع فيها فاستعمل في ظرفية الزمان للاحداث، ولمحلية المعروضات لاعراضها، والموصوفات لصفاتها، إلى غير ذلك.

يجعلون أصابعهم في آذانهم: الضمائر ترجع إلى أصحاب الصيب.

ولفظ الأصحاب وإن حذف وأقيم الصيب مقامه، ولكن معناه باق، فيجوز أن يعول عليه.

وهو استئناف لا محل له من الاعراب، فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل: فكيف حالهم مع ذلك؟فأجيب بأنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم.

فإن قلت: الجواب حينئذ لا يكون مطابقا للسؤال، فإنه بين حينئذ حالهم مع الصواعق دون الرعد.

قلت: لما كانت الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، كان الجواب مطابقا، كأنه قيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم من شدة صوت الرعد وانقضاض قطعة نار معها.

ويحتمل أن يكون حالا من المضاف إلى الصيب المحذوف.

و " جعل " جاء متعديا إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفا، أي صيرت، وإلى مفعول واحد كقوله: " وجعل الظلمات والنور " (33) أي صنع، وبمعنى التسمية كقوله " وجعلوا لله أندادا " (34)، أي سموا له، وبمعنى أفعال المقاربة، نحو جعل زيد يفعل.

واليد تتجزأ إلى الأنملة والإصبع والكف والساعد والعضد، والمتعين منها لسد الآذان أنملة السبابة، فإطلاق الأصابع موضع الأنامل - بل بعضها - من اتساعات اللغة.

والنكتة، المبالغة، التي ليس في ذكر الأنامل وبعضها، وهي أنهم لشدة الامر عليهم وخوفهم من تقصيف الرعد، يجعلون أصابعهم بالكلية في آذانهم لئلا يسمعوه أصلا، أو لفرط دهشتهم وحيرتهم يفعلون ذلك ولا يدرون ما يفعلون.

وعدم تخصيص ما هو متعين لسد الآذان من الأصابع، أعني السبابة، للإشارة إلى أنه لم يبق لهم من فرط الدهشة والحيرة قوة التمييز بينهما، أو لما في السبابة من معنى السب، ولذلك استكرهوها، فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة وغيرهما مما طوى ذكرها، إذ لم يكن لها اسم وراءها يتعارفه الناس في ذلك العهد.

من الصواعق: متعلق ب? " يجعلون " ولفظة " من " في أمثال ذلك ابتدائية على سبيل العلية، فيقال: قعد من الجبن.

وقد يكون ما بعدها غرضا مطلوبا مما وقع قبلها إذا صرح بما يدل على ذلك، كقولك: ضربت من أجل التأديب، بخلاف اللام فإنها وحدها تستعمل في كل منهما.

ويشاركهما في التعليل " في " كما في قوله (عليه السلام): " إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها ولم تدعها حتى تأكل من خشاش الأرض " (35).

والصواعق: جمع صاعقة، وهي قصفة رعد، أي شدة صوت منه ينقض معها شقة - أي قطعة - من نار، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد والتاء للتأنيث، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية، أو مصدر كالعافية والكاذبة.

وقرئ (من الصواقع) وليس بقلب من الصواعق، لان كلا من البنائين سواء في التصرف، يبنى على كل منهما كثير من الأمثلة، تقول: صقع الديك، إذا صاح، وصقعه على رأسه وصقع رأسه، أي ضرب صوقعته، وهي موضع البياض في وسط الرأس، وخطيب مصقع أي مجهر بكسر الميم، وهو الذي من عادته أن يجهر بكلامه.

أقول: الصاعقة والصاقعة إذا كانتا اسمي صفتين فجمعهما على القوابل مطرد، أما إذا كانتا مصدرين، فلا، لكن ذلك شئ ذكره صاحب الكشاف والبيضاوي (36) و (37).

حذر الموت: وقرأ ابن أبي ليلى حذار الموت، فقد جاء حذر يحذر حذرا، وحذارا، منصوب على أنه مفعول له ل? (يجعلون) فهو علة للجعل المعلل، أي جعلهم أصابعهم في آذانهم لأجل الصواعق واقع الاجل الحذر من الموت المتوهم، لشدة الصوت (38).

والموت عدم الحياة عما من شأنه ذلك، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة.

وقيل: عرض يمنع الاحساس يعرض عقيب الحياة، أي لا يجمعها، فيكون التقابل بينهما تقابل التضاد، واستدل عليه بقوله تعالى: " خلق الموت والحياة " (39) فإن الخلق والايجاد لا يتعلق إلا بالأمور الوجودية.

وأجيب بأن المقصود من الخلق التقدير، ولو سلم فالعدم يمكن أن يخلق باعتبار استمراره، ولو سلم فالذي لا يخلق هو العدم بمعنى السلب، والموت ليس كذلك، كما مر.

والله محيط بالكافرين: أمال أبو عمرو الكاف من الكافرين في موضع الخفض والنصب (40)، وروي ذلك عن الكسائي، والباقي لا يميلون (41).

ووجه حسنه لزوم كسرة الراء التي تجري مجرى الكسرتين بعد الفاء المكسورة.

وتلك اعتراضية لا محل لها من الاعراب، وفائدتها أن الحذر من الموت لا يفيد.

ووضع الكافرين موضع المضمر للدلالة على أن أصحاب الصيب كفار، ليظهر.

﴿يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم إن الله على كل شئ قدير (20)﴾

استحقاقهم شدة الامر.

وقيل: هذه المعترضة لبيان أحوال المشبه على أن المراد بالكافرين المنافقون، دل بها على أنهم لا مدفع لهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة.

ووسطت بين أحوال المشبه به، مع أن القياس يقتضي تقديمها أو تأخيرها، تنبيها على شدة الاتصال بين المشبه والمشبه به، ودلالة على فرط الاهتمام بشأن المشبه.

وإحاطة الله مجاز، فإن شبه شمول قدرته تعالى بإحاطة المحيط مع المحاط - أي شبه هيئة منتزعة من عدة أمور بأخرى مثلها - كان هنا استعارة تبعية تمثيلية لا تصرف شئ من ألفاظ مفرداتها، إلا أنه لم يصرح إلا بلفظ ما هو العمدة في الهيئة المشبه بها، أعني الإحاطة، والبواقي من الألفاظ منوية في الإرادة.

وإحاطة الله سبحانه عند الصوفية بالكافرين - بل بالموجودات كلها - عبارة عن تجليه بصور الموجودات، فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه سار في الموجودات كلها ذاتا وعلما وقدرة، إلى غير ذلك من الصفات.

والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية، أنه لا يعزب عنه ذرة في السماوات والأرض، إذ كل ما يغرب عنه يلتحق بالعدم.

وقالوا: هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف، ولا كإحاطة الكل باجزائه، ولا كإحاطة الكلي بجزئياته، بل كإحاطة الملزوم بلوازمه، فإن التعينات اللاحقة لذاته المطلقة، إنما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة وبشرط أو بغير شرط، ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها.

يكاد البرق يخطف أبصرهم: استئناف ثان، كأنه قيل: ما حالهم مع تلك الصواعق؟فأجيب.

و " يكاد " مضارع كاد، وهو من كدت تكاد كيدا ومكادة.

وحكى الأصمعي كودا، فيكون كخفت تخاف خوفا، والأول أشهر (42).

وكاد من أفعال المقاربة، وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه، لكنه لم يوجد، إما لفقد شرط أو لعروض مانع.

والشرط في خبره أن يكون فعلا مضارعا بدون (أن) وقد يكون معها، بخلاف (عسى) فإنه لرجائه، وقد يدخل على خبرها (إن) وقرئ (يخطف) بكسر الطاء، ويختطف ويخطف بفتح الياء والخاء.

وأصله (يختطف) نقلت حركة الطاء إلى الخاء ثم أدغمت في الطاء، ويخطف بكسرهما بحذف حركة الطاء للادغام، وبتحريك الخاء بالكسر إما لالتقاء الساكنين، وإما لمتابعة الطاء، ويجعل حرف المضارعة تابعا للخاء، و (يخطف) مضارع خطف من باب التفعيل، و (يتخطف) مضارع تخطف من باب التفعل.

كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا: استئناف ثالث، جواب لمن يقول: كيف يصنعون عند خطوف البرق وخفيته؟.

وكلمة (كل) في (كلما) منصوب على الظرفية باتفاق، وناصبها الفعل الذي هو جوابها، أعني (مشوا) وإفادتها الظرفية من جهة (ما) فإنها محتمله لوجهين: أحدهما: أن تكون حرفا مصدريا، والجملة صلة له، فلا محل لها، فالأصل كل وقت إضاءته، ثم عبر عن المصدر ب? (ما) والفعل، ثم أبينا عن الزمان بتقدير الوقت.

والثاني: أن تكون اسما نكرة بمعنى وقت، فلا يحتاج على هذا إلى تقدير وقت، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة، فيحتاج إلى تقدير عائد منها، أي كل وقت أضاء لهم البرق فيه.

هكذا قيل.

وأقول: (ما) المصدرية قسمان: مصدرية صرفة، ومصدرية ظرفية، وكلمة (ما) المركبة مع كل مصدرية ظرفية، فعلى هذا لا حاجة إلى تقدير، ولا إلى حذف عائد.

و (أضاء) إما متعدد والمفعول محذوف، والتقدير: كلما أضاء طريقا لهم مشوا فيه، وضمير (فيه) حينئذ إما عائد إلى المفعول المحذوف، وإليه ذهب المبرد، أو إلى البرق، وعليه الجمهور.

وإما لازم بمعنى كلما لمع لهم مشوا فيه، ويتعين عود الضمير إليه.

وإذا عاد الضمير إلى البرق على التقديرين، فلابد من (في) الظرفية، أو تقدير مضاف، أي في ضوئه.

وكذلك (أظلم) إما لازم أو متعد، من ظلم الليل بالكسر، ويؤيده قراءة (أظلم) على البناء للمفعول.

ورد باحتمال أن يكون (عليهم) قائما مقام الفاعل، فيكون تعدية أظلم بعلى إلا بنفسه.

وأجيب بأن (عليهم) يقابل (لهم) في أضاء لهم، فإن جعلا مستقرين لم يصلح (عليهم) أن يقوم مقام الفاعل، وإن جعلا صلتين للفعل على تضمين معنى النفع والضر، لم يصلح (عليهم) لان يقوم مقام الفاعل المضمن ولا المضمن فيه، وعلى تقدير صلوحه فعطف (إذا أظلم) على (كلما أضاء) مع كونها جوابا للسؤال عما يصنعون في تارتي خطوف البرق وخفيته، يقتضي أن يكون (أظلم) مسندا إلى ضمير البرق كأضاء، على معنى كلما نفعهم البرق باضاءته افترصوه، وإذ أضرهم بإظلاله واختفائه دهشوا.

وقد يجاب - أيضا - بأن بناء الفعل للمفعول من المتعدي بنفسه أكثر، فالحمل عليه أولى وأنسب.

وإنما قال في الإضاءة (كلما) وفي الاظلام (إذا) لأنهم حراص على المشي، فكلما صادفوا فرصة انتهزوها، ولا كذلك التوقف، ومعنى (قاموا) وقفوا، بدليل وقوعه في مقابلة مشوا، ومنه قام الماء، جمد، وقام السوق إذا كسد، وقد مر استعماله بمعنى نفق، مأخوذا من القيام بمعنى الانتصاب، فهو من الأضداد.

ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم: معطوفة إما على الجملة الاستئنافية أعني (يجعلون) وإما على جملة (كلما أضاء لهم مشوا فيه).

وكلمة " لو " عند المحققين تدل على ثلاثة أمور: عقد السببية والمسببية بين الجملتين بعدها، وكونهما في الماضي، وانتفاء السبب.

ولا دلالة لها على امتناع الجواب، ولكنه إن كان مساويا للشرط الواقع، أو عند المتكلم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا، وقولك: لو جئتني لأكرمتك، لزم انتفاؤه.

وإن كان أعم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان الضوء موجودا، فلا وإنما يلزم انتفاء القدر المساوي منه للشرط، يعني الضوء المستفاد من الطلوع في المثال المذكور مثلا.

ثم إنه يحتمل أن يكون المقصود هنا بيان مسببه ذهاب سمعهم وأبصارهم لمشيئة الحق سبحانه كما هو شأن الحوادث كلها، لا الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر، فلذلك قال بعضهم: (لو) هنا مستعمل لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر، فهو بمنزلة (إن) وقد يقال: إنها باقية على أصلها.

وقصد بها التنبيه على أن مشقتهم بسبب الرعد والبرق وصلت غايتها، وقاربت إزالة الحواس، بحيث لو تعلقت بها المشيئة لا زالت بلا حاجة إلى زيادة في وصف الرعد وضوء البرق كما ذكر أولا.

والنكتة في اختيار ذهب بسمعهم وأبصارهم على أذهب سمعهم وأبصارهم قد مر بيانها في ذهب الله بنورهم بلسان أهل الظاهر والباطن.

والمعنى: لو شاء الله أن يذهب بسمعهم بشدة صوت الرعد وأبصارهم بقوة لمعان البرق لذهب بهما، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه.

ولهذا تكاثر حذف المفعول في (شاء) و (أراد) ومتصرفاتهما إذا وقعتا في حيز الشرط، لدلالة الجواب على ذلك المحذوف مع وقوعه في محله لفظا، ولان في ذلك نوعا من التفسير بعد الابهام، لا في الشئ المستغرب، فإنه لا يكتفي فيه بدلالة الجواب عليه، بل يصرح به اعتناء بتعيينه، ودفعا لذهاب الوهم إلى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به و استغرابه، كقوله: ولو شئت أن أبكي دما لبكيته * عليه ولكن ساحة الصبر أوسع (43) - وقرئ: لا ذهب بسمعهم وأبصارهم، بزيادة الباء، كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (44).

إن الله على كل شئ قدير: تقرير لما قبلها.

و (الشئ) يختص بالموجود في الأصل، مصدر شاء، اطلق بمعنى شاء تارة، و حينئذ يتناول الباري كما قال: (أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد) (45)، وبمعنى شيئا أخرى، أي مشئ وجوده، وما شاء الله وجوده، فهو موجود في الجملة.

قال المعتزلة: الشئ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.

وقيل: والمشيئة على قسمين: ثبوتية وهي ثبوت المعلومات في علم الله تعالى متميزا بعضها عن بعض.

وهي على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجب وجوده في العين كذات الواجب.

وثانيها: ما يمكن بروزه من العلم إلى العين، وهو الممكنات.

وثالثها: ما لا يمكن وهو الممتنعات.

والثبوتية في الأول، والثالث باعتبار الوجود العلمي، وفي الثاني باعتباره و باعتبار الثبوت العيني أيضا، فإنهم قسموا الكون في الخارج إلى ما تترتب عليه الآثار الخارجية وسموه وجودا عينيا، وما لا تترتب عليه الآثار الخارجية وسموه ثبوتا خارجيا.

ومتعلق قدرة الله من تلك الأقسام هو الثاني دون الأول والثالث.

ومشيئة وجودها، هي وجودها خارج العلم والموجودات الخارجية من حيث تعلق القدرة بإخراجها من العلم إلى العين، لا تتعلق بها قدرة أخرى، لاستحالة تحصيل الحاصل، فإن تعلقت قدرة بها فباعتبار إعدامها، فذات الواجب تعالى وصفاته والممتنعات والموجودات الممكنة من حيث أنها تعلقت القدرة بها، مستثناة عقلا من الحكم على الله تعالى، بأنه على كل شئ قدير.

والقدرة في اللغة: التمكن، وقدرة الله عند الحكيم بمعنى أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لكن شاء ففعل بالمشيئة القديمة.

وحاصله، إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات، ووجوب الفعل وامتناع الترك بالنظر إلى الإرادة.

وعند الأشاعرة: صفة يقتضي التمكن.

وقيل: قدرة الانسان: هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله: نفي العجز عنه.

والقدير: الفعال لما يشاء، ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى.

وإنما سمي القدير قديرا، لأنه يوقع الفعل على مقدار قوته، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، أو على مقدار علمه.

وعلى ما حققناه في الآية دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران، وأن مقدور العبد مقدور الله، لأنه شئ وكل شئ مقدور.

وهذا التمثيل كالتمثيل الأول، يحتمل أن يكون من قبيل تشبيه المفرد، وأن يكون من قبيل تشبيه المركب.

فشبه على الأول ذوات المنافقين بأصحاب الصيب في اشتمال كل منهما على أمر كثير النفع، وشبه إسلام المنافقين من حيث مطلق الأقسام، لا من حيث أنه مضاف إليهم بالصيب، في أن كل واحد منهما سبب للحياة، فالأول سبب لحياة القلوب، والثاني سبب لحياة الأرض.

وشبهت شبههم التي يتمسكون بها في الاستمرار على كفرهم ونفاقهم بالظلمات، ورعدهم في الظاهر على إسلامهم بالرعد، فإنه صياح بلا طائل، ووعيدهم في نفس الامر بالبرق فإنه نار محرقة، وما يصيبهم من الافزاع والبلايا من جهة المسلمين بالصواعق، وإظهارهم الايمان حذرا عن إصابة هذه المصيبات بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت، واحتيارهم لما يلمع لهم رشد يدركونه بمشيهم في مطرح ضوء.


1- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 42، ذيل قوله تعالى: " في قلوبهم مرض ".

2- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 56، في تفسير الآية 12 من سورة البقرة، وتفسير البرهان: ج 1، ص 61، مع اختلاف يسير في العبارة.

3- سورة القيامة: الآية 40.

4- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 44، ذيل قوله تعالى: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ".

5- سورة آل عمران: الآية 159.

6- سورة البقرة: الآية 198.

7- لم أظفر بقائله، ووجدت أصحاب التفاسير يستشهدون به، لاحظ منهج الصادقين: ج 1، ص 84، وتفسير أبي السعود: المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: ج 1، ص 44.

8- سورة آل عمران: الآية 90.

9- لاحظ الوسائل: ج 18، باب 1 و 3، من أبواب حد المرتد، ص 545 - 549.

10- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 56، في ذيل قوله تعالى: " وإذا لقوا الذين آمنوا ".

11- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 25.

12- سورة التوبة: الآية 79.

13- سورة البقرة: الآية 15.

14- سورة آل عمران: الآية 54.

15- سورة النساء: الآية 142.

16- كتاب التوحيد: باب 21، ص 163، ح 1.

17- تفسير الكشاف: ج 1، ص 67.

18- تفسير الكشاف: ج 1، ص 70.

19- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 48، ذيل قوله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ".

20- الكتاب المقدس: الأمثال، ص 641، وكتاب مقدس: كتاب أمثال سليمان نبي، ص 948.

21- ويروى (الصيف ضيعت اللبن) والتاء من ضيعت مكسورة في كل حال، إذا خوطب المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، لان المثل في الأصل خوطبت به امرأة وهي (ختنوس) بنت لقيط بن زرارة، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخا كبيرا ففركته فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، و أجدبت فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة فقال عمرو: في الصيف... الخ فلما رجع الرسول وقال لها ما قال عمرو ضربت يدها على منكب زوجها وقالت: (هذا ومذقه خير) تعني أن هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو، فذهبت كلتاهما مثلا. مجمع الأمثال للميداني. ط بيروت 1374، ج 2، الباب العشرون فيما أوله فاء تحت رقم (2725).

22- سورة التوبة: الآية 69.

23- سورة يونس: الآية 5.

24- وقد تمثل به الشعراء في أبياتهم، منها ما لساعدة بن جؤية الهذلي يصف فيها الرمح: لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه، كما عسل الطريق الثعلب - أراد: عسل في الطريق فحذف وأوصل. لسان العرب، ج 11، ط بيروت، ص 446، في عسل. قوله (لدن) خبر مبتدأ محذوف، أي هو لدن، أي الرمح الخطي. واللدن بالدال المهملة والنون كفلس اللين الناعم، والباء سببية، و (الهزة) بفتح الهاء وتشديد الزاء المعجمة، الاضطراب، و (يعسل) بالمهملتين كيضرب مضارع من عسل الرمح عسلانا، إذا اهتز واضطرب، ومنه عسل السيف بصيغة الماضي و (المتن) بالمثناة والنون كفلس من الرمح صدره وجمهوره، أي ما بين مقبضه إلى كل واحد من طرفيه، و (في) بمعنى مع، والكاف للتشبيه، و (ما) مصدرية، و (الطريق) السبيل (والثعلب) كجعفر معروف، وعسلانه في الطريق خبنته، وهو أن يراوح بين يديه ورجليه، بأن يضع رجليه في المشي موضع يديه. جامع الشواهد باب اللام بعده الدال.

25- الروضة من الكافي: ج 8، ص 380، قطعة من ح 574.

26- الكشاف: ج 1، ص 77.

27- لامرئ القيس، يصف العقاب، وهي تأكل صغار الطير إلا قلوبها. فلذلك كثرت عندها. و يصف نفسه بالشجاعة حيث وصل إلى رؤية ذلك، فقال: كأن قلوب الطير حال كونها رطبا بعضها و يابسا بعضها، حال كونها عند وكر العقاب - أي عشها -: العناب وهو ثمر أحمر رطب، فهو راجع للبعض الرطب، والحشف: الجاف الردئ من التمر، البالي: الهالك، فهو راجع للبعض اليابس، ففيه لف ونشر مرتب، وفيه طباق التضاد بين الرطب واليابس. ويجوز أن رطبا ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير، أي كأن الرطب واليابس منها: العناب والحشف. هامش الكشاف، ج 1، ص 80.

28- هو من أبيات لأبي طالب الرقي. الاجرام جمع جرم كحبر: الجسم، واللوامع جمع لامعة من لمع البرق إذا أضاء، والدرر كصرد جمع در وهو اللؤلؤ النفيس، ونثرن من نثر الشئ أي رماه متفرقا، والبساط ككتاب الفرش، والأزرق كأحمد أفعل من الزرقة وهو لون معروف. جامع الشواهد، باب الواو بعده الكاف، ص 323.

29- سورة يونس، الآية 24.

30- سورة فاطر: الآية 19 - 20 - 21 - 22.

31- راجع الكشاف: ج 1، ص 81.

32- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 29.

33- سورة الأنعام: الآية 1.

34- سورة إبراهيم: الآية 30.

35- سنن ابن ماجة: ج 1، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب 152، ما جاء في صلاة الكسوف، ص 402، حديث 1265، ولفظ الحديث (ورأيت امرأة تخدشها هرة لها، فقلت: ما شأن هذه؟قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا. لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض).

36- تفسير الكشاف: ج 1، ص 217.

37- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 99.

38- تفسير القرآن الكريم: ج 3، ص 319.

39- سورة الملك: الآية 2.

40- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 56.

41- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 56.

42- لم نعثر عليه.

43- لأبي يعقوب إسحاق بن حسان الخذيمي، وقبله. ملكت دموع العين حين رددتها * إلى ناظري والعين كالقلب تدمع - ذكر مفعول المشية مع أنه صار في استعمالهم نسيا منسيا، لأنه شئ مستغرب، فحسن ذكره. نقلا عن هامش الكشاف: ج 1، ص 87.

44- سورة البقرة: الآية 195.

45- سورة الأنعام: الآية 19.