الآية 1 - 10

سورة البقرة

أي سورة تذكر فيها قصة البقرة.

وإنما سميت بها لغرابة قصتها، وامتياز هذه السورة بها عن سائر السور.

وهي مدنية، بل أول سورة نزلت بالمدينة إلا آية نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الآية (1).

وآيها مائتان وسبع وثمانون.

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة البقرة وآل عمران، جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغيابتين (2) و (3).

وفيه: عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قرأ أربع آيات من أول البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وما له شيئا يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسى القرآن (4).

وفي مجمع البيان: وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي سور القرآن.

﴿بسم الله الرحمن الرحيم ألم ( 1) ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين ( 2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 3)﴾

أفضل؟قال: البقرة، قال: أي آيي القرآن أفضل؟قال: آية الكرسي (5).

بسم الله الرحمن الرحيم ألم: وسائر الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها، وقد روعيت في التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت كأساميها، وهي حروف وحدان، والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى، فلم يغفلوها وجعلوا المسمى صدر كل اسم كما ترى في الألف، فإنهم استعاروا لهمزة مكان مسماها، لأنه لا يكون إلا ساكنا، وإنما كانت أسماء لدخولها في حد الاسم، و اعتوار ما يختص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبو علي (6).

وما روى ابن مسعود أنه (عليه السلام) قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف (7).

فالمراد فيه من الحرف الكلمة، فيحتمل أنه سبحانه أراد بها الحروف الملفوظة على قصد تعديدها أو تسمية بعض السور، أو القرآن، أو ذاته سبحانه بقسم أو غير قسم.

فالنكتة في ذلك التعديد أو التسمية على هذا الوجه أمران: الأول: أنه لما كانت مسميات هذه الأسماء بسائط الكلام التي يتركب منها، افتتحت السور بطائفة منها على وجه التعديد أو التسمية بها، تنبيها لمن تحدى بالقرآن على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن الاتيان بما يدانيه.

والثاني: أن تكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مخصوص بمن خط ودرس، فأما الأمي الذي لم يخالط أهل الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالتلاوة والكتابة، وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الاريب الفائق في فنه، من إيراد نصف أسماء الحروف بحيث ينطوي على أنصاف مسمياتها تحقيقا وتقريبا في تسعة وعشرين سورة على عدد الحروف، مع نكات اخر.

قيل: ويمكن أن تكون تلك الحروف الملفوظة باعتبار مخارجها إشارة إلى معان دقيقة لطيفة، كما يشيرون بالألف باعتبار مخرجها الذي هو أقصى الحلق إلى مرتبة الغيب، وبالميم باعتبار مخرجها الذي هو الشفة إلى مرتبة الشهادة، وبمخرج اللام الواقع بينهما إلى ما يتوسط من المراتب، فالمشار إليه (ألم) مرتبة الغيب والشهادة وما بينهما، وذلك المشار إليه هو الكتاب الوجودي الذي لا يخرج منه شئ.

ويمكن حملها على معانيها الحسابية إشارة إلى مدد أقوام وآجال أو غير ذلك بحساب ذلك.

ويدل عليه ما روي أنه (عليه السلام) لما أتاه اليهود تلا عليهم (ألم) البقرة، فحسبوا وقالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة؟فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: وهل غيره؟فقال: المص والر والمر.

فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ ؟! (8).

فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك.

وقيل: يمكن حمله على الإشارة بصورها الكتابية الرقمية إلى معان أخر، كما يشيرون بالألف إلى الوجود النازل من علو غيب الاطلاق إلى مراتب التقييد من غير انعطاف.

وباللام إليه مع انعطاف من غير أن يتم دائرته، وبالميم إلى تمام دائرته، فيعم مراتب الوجود.

ويمكن أن يجعل تلك الحروف إشارة إلى كلمات هي منها اقتصر عليها، فالألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه.

وروي أن (ألم) معناه أنا الله أعلم (9).

وأن الألف من الله، واللام من جبرئيل، والميم من محمد، أي القرآن منزل من الله على لسان جبرئيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله) (10).

وقال الصادق (عليه السلام): الألف حرف من حروف قولك: (الله) دل بالألف على قولك: (الله)، ودل باللام على قولك: (الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين)، ودل بالميم على أنه (المجيد المحمود في كل أفعاله) (11).

وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ألم) وكل حرف في القرآن منقطعة من حروف اسم الله الأعظم الذي يؤلفه الرسول والامام (عليهما السلام) فيدعو فيجاب (12).

ويحتمل أن يكون الكل مع احتمالات أخر لا تنافي الشرع، ليس هنا موضع ذكرها مرارا، والله أعلم بحقيقة الحال.

وهذه الأسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وبكر، حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه.

والدليل على أن سكونها وقف آية يقال: صلى الله عليه وآله و (ق) و (ن) مجموعا فيها بين الساكنين، وإذا وقفت على آخرها قصرت، لأنها في تلك الحالة خليقة بالأخف الأوجز.

ومدت في حال الاعراب، وهي إما مفردة ك? (ص)، أو على زنة مفرد ك? (حم) فإنه كهابيل، أو لا، الأول يجوز فيه الاعراب والحكاية، والثاني ليس فيه إلا الثاني، فقوله (ألم) في محل النصب على حذف حرف القسم وإعمال فعله، أو الجر على تقديمه، أو الرفع على أنه مبتدأ ما بعده خبره، أو خبر محذوف المبتدأ.

ذلك: اسم إشارة مركب من اسم وحرفين، فالاسم (ذا) للمذكر الواحد.

أما ذكورة المشار إليه، فلتأثيره في نفس المخاطب، وإنتاجه فيها معرفة الحق وصفاته سبحانه.

وأما إفراده فلان المشار إليه وإن كان متعددا في نفسه، لكنه ملحوظ من حيث أحدية الجمعية، كما يدل عليه الاخبار عنه بالكتاب المنبئ عن الجمعية أو توصيفه به.

وأحد الحرفين (اللام) الدال بتوسطه بين اسم الإشارة والمخاطب على بعد المسافة بينه وبين المشار إليه، ووجه البعد عدم إمكان إحاطة فهم المخاطب بما يقصد به.

والآخر (الكاف) الدال على ذكورة المخاطب وإفراده.

أما ذكورة المخاطب فلان المخاطب أولا هو النبي (صلى الله عليه وآله) بحسب حقيقة مرتبة الأبوة بالنسبة إلى جميع أفراد الآدميين.

كما قيل بلسان مرتبته: وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى شاهد بأبوتي وأما إفراده فلانمحاء كثرته النسبية في الوحدة الحقيقية.

الكتب: الكتب الجمع، يقال: كتبت القربة أي جمعتها، ومنه الكتيبة للجيش، والكتاب بمعناه سمي به المفعول مبالغة، وقيل: بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على العبارات المنظومة قبل الكتابة، لان من شأنها أن تكتب، والحقائق العلمية إن كانت معتبرة لا بأحوالها تسمى حروفا غيبية، ومع أحوالها كلمات عينية.

والوجودية بلا أحوالها حروفا وجودية، ومع أحوالها كلمات وجودية.

والدالة على جملة مفيدة آية، والبعض الجامع لتلك الجمل سورة، ومجموع تلك المعقولات والموجودات كتابا وفرقانا وقرآنا - أيضا - باعتباري التفصيل والجمع.

وفي تركيب قوله: (ألم) مع ما بعده أوجه: إن جعلت (ألم) اسما للسورة أو للقرآن، أن يكون (ألم) مبتدأ، و (ذلك) مبتدأ ثانيا و (الكتاب) خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول.

ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضي الخصال.

وأن يكون (ألم) خبر مبتدأ محذوف، أي هذه ألم.

ويكون (ذلك) خبرا ثانيا، أو بدلا، على أن (الكتاب) صفة.

وأن يكون (هذه ألم) جملة، و (ذلك الكتاب) جملة أخرى.

وإن جعلت (ألم) بمنزلة الصوت كان (ذلك) مبتدأ خبره (الكتاب) أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو (الكتاب) صفة وما بعده خبره.

أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو، يعني المؤلف من هذه الحروف (ذلك الكتاب).

وقرأ عبد الله: ألم تنزيل الكتاب، وتأليف هذا ظاهر.

وليس شئ منها آية عند غير الكوفيين.

وأما عندهم: فالم في مواقعها، والمص وكهيعص وطه وطسم ويس وحم آية، و (حم عسق) آيتان والبواقي ليست بآيات.

قيل: إن المفسرين متفقون على أن (ذلك) في موضع الرفع، فإما أن يكون خبرا عن (ألم) أو عن محذوف، أو مبتدأ وخبره (ألم) (13).

وأقول: المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، وجب تقديم المبتدأ، فالخبر في هذه الصورة مع كونه معرفة، كيف يجوز تقديمه.

لا ريب فيه: الريب في الأصل مصدر (رابني) الشئ إذا حصل فيه الريبة.

وهي قلق النفس واضطرابها، قال (عليه السلام): " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (14)، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة، أي يكون الامر مشكوكا فيه مما تقلق النفس له ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن، ومنه ريبة الزمان لما يقلق النفوس من نوائبه، فالمراد به الشك، لا معناه المصدري.

وضمير (فيه) راجع إلى الحكم السابق إن كان هناك حكم، أو إلى (الكتاب) أو إلى (ذلك).

وإنما نفى الريب مع كثرة المرتابين، لان الريب مع وضوح مزيحه كلا ريب.

ويحتمل أن يكون المراد أن القرآن ليس مظنة للريب، بمعنى أن العاقل إذا رجع إلى عقله وترك العناد، ظهرت حقيقته وصدقه عليه غاية الظهور، ولم يبق معه شك وريب أصلا.

وأن يكون أن (لا ريب فيه) (للمتقين) و (هدى) حالا عن الضمير المجرور.

وأن يكون الريب المنفى هو الريب بمعناه المصدري، أي ليس فيه إيقاع شك، بأن يكون فيه شئ يوقع في الشك، كالاختلاف المذكور في قوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (15).

وأن يكون أنه لا ريب فيه في الواقع، وإن كانوا مظهرين للريب، كما روي عن أبي محمد العسكري أنه قال (عليه السلام): لا ريب فيه، لا شك فيه، لظهوره عندهم كما أخبر أنبياؤهم أن محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، يقرؤه هو و أمته على سائر أحوالهم (16).

ولم يقدم الظرف كما قدم في قوله: " لا فيها غول " (17) لأنه لم يقصد هنا انحصار نفي الريب فيه، كما قصد هناك انحصار نفي الغول في خمور الجنة.

وقرأ أبو الشعثاء: لا ريب فيه بالرفع (18)، والفرق بينها وبين القراءة المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه.

والوقف على (فيه) هو المشهور.

وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على (لا ريب) ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ليتم الكلام الأول، ونظيره قوله تعالى: " لا صير " (19)، و قول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه فيه (20).

فعلى التقدير الأول يحتمل أن يكون (فيه) صفة للريبة والخبر محذوفا، وأن يكون هو الخبر والمجموع جملة وقعت مؤكدة ل? " ذلك الكتاب " أو جزاء بعد خبر ل? (ذلك) أو لقوله (ألم).

وعلى التقدير الثاني يحتمل أيضا تلك الاحتمالات، وأن يكون فيه الثاني خبر الهدى مقدما عليه.

هدى: هو مصدر على فعل كالسرى والبكى.

وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابله، قال الله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " (21) ويقال: مهدي في موضع المدح كمهتد، ولان اهتدى مطاوع هدى وأن يكون المطاوع في خلاف معناه، ألا ترى إلى نحو غمه فاغتم وكسره فانكسر وأشباه ذلك.

وهو إما مبتدأ خبره مقدم عليه، أو محذوف، وعلى التقديرين فهو على حقيقته، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، أو حال كما سبق، إما على المبالغة كأنه نفس الهدى، أو على حذف المضاف أي ذو هداية، أو على وقوع المصدر بمعنى اسم الفاعل.

قال أبو جعفر (عليه السلام): الكتاب أمير المؤمنين، لا شك فيه أنه إمام هدى (22).

للمتقين: المتقي: اسم فاعل من قولهم وقاه يقي.

والوقاية فرط الصيانة وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه فرس واق، إذا يقي حافره أذى شئ يصيبه.

وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عما يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب: الأولى: التوقي عن الشرك المفضي إلى العذاب المخلد، وعليه قوله تعالى: (و ألزمهم كلمة التقوى) (23).

والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وقيل: الصحيح أنها لا يتناولها لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر.

والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره، عن الحق ويتبتل إليه بكلية، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: (واتقوا الله حق تقاته) (24).

قيل: ومن جملة معاني باب الافتعال، الاتخاذ، فمعنى إتقى على هذا اتخذ الوقاية، ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم " (25): اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم وهو ربكم وقاية، فإن الامر ذم وحمد، فكونوا وقايته في الذم واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين، فإن توحيد الافعال يقتضي إسناد المحامد والمذام إلى الله، فالسالك إذا أسندهما إليه قبل ذكاء النفس وطهارتها تقع في الإباحة وبعد طهارتها يكون مسيئا للأدب، فعلى هذا المتقون هم الذين يتخذون ربهم وقاية لأنفسهم وينسبون الكمالات إلى ربهم، لا إلى أنفسهم ليكون لهم إخلاص من ظهور أنياتهم وأنفسهم، ويتخذون أنفسهم وقاية لربهم وينسبون النقائص إلى أنفسهم لا إلى ربهم، ولو كانت في حقيقة التوحيد منسوبة إلى الله تعالى، لئلا يسيئوا الأدب إليه سبحانه.

وإنما قال: (هدى للمتقين) مع أن المتقين مهتدون، إما بناء على أن المراد بالمتقين المشارفون على التقوى، أو المقصود زيادة وقايتهم، بأن يراد بالهدى زيادة الهدى إلى مطلب لهم، أو التثبت على ما كان حاصلا لهم.

ويحتمل أن يراد بالمتقي: الموحد مطلقا.

روى الصدوق في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) (26) قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا، وأنا أهل إن لم يشرك بي عبدي أن أدخله الجنة (27).

قال صاحب الكشف: الأظهر أنه لا يحتاج إلى أحد التجوزين، من حمل الهدى على الازدياد، والمتقي على المشارف، لأنه إذا قيل: السلاح عصمة للمعتصم أو عصا له، والمال غنى للمغني، على معنى سبب غنائه، لم يلزم أن يكون سببي عصمة وغناء حادثين غير ما هما، أي المعتصم والغنى فيه، إذ لا دلالة له على الزمان.

وأجيب بأن المتبادر إلى الفهم من تعلق الفعل بشئ، هو اتصاف ذلك المتعلق بما عبر عنه عند اعتبار المتعلق حتى يقال: فيه شفاء للمريض ومرض للصحيح، ولو عكس لم يصح إلا بتأويل.

وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن معناه بيان وشفاء للمتقين من شيعة محمد وعلي (عليهما السلام).

اتقوا أنواع الكفر فتركوها، واتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتقوا أسرار الله وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمد صلوات الله عليهم فكتموها، واتقوا سر العلوم عن أهلها المستحقين لها ففيهم نشروها (28).

الذين يؤمنون: يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، على أنه صفة للمتقين كما هو الظاهر، أو بدل أو عطف بيان.

فأما الرفع فإما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين يؤمنون، أو مبتدأ خبره (أولئك على هدى).

وأما النصب فعلى المدح بتقدير أعني.

وإذا كان صفة فهي إما مقيدة، إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي كما هو المناسب لمعناه اللغوي، وهو الاحتراز، فحينئذ يراد بالمتقي من يحترز عن المعاصي أي فعل القبائح والمنهيات، سواء يمتثل الأوامر ويأتي بالحسنات أم لا، فعلى هذا تكون الصفة مقيدة مخصصة.

فإن قلت: اجتناب المعاصي كلها يستلزم الاتيان بالطاعات، لان ترك الطاعة معصية.

قلت: إن المراد بالمعاصي كما هو المتبادر ما يتعلق به صريح النهي، وترك المأمور به منهي عنه ضمنا أو أن مبنى هذا الكلام على أن المعصية فعل ما نهي عنه، وأن الترك ليس بفعل.

وكذا إن أريد بالتقوى الأولى من مراتبها الثلاث، فإن المراد بالمتقين حينئذ من يجتنبون عن الترك، فتوصيفهم بالذين يؤمنون لا يكون إلا تقييدا أو تخصيصا، أو كاشفة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات، وحمل الذين يؤمنون إلى آخره على ما يساويه، والتقوى بهذا المعنى بعينه هي المرتبة الثانية من مراتبه، وهي حقيقة معناه عند الجمهور.

وأما إذا أريد بها المرتبة الثالثة التي لا يتحقق بها إلا الخواص، فيمكن أن تكون أيضا صفة كاشفة، يظهر وجهه للمتأمل الصادق فيما سيأتي من بعض بطون الآية.

أو مادحة ذكرت لمجرد المدح والثناء، وتخصيص ما ذكر إظهارا لفضله على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى.

وقد فرق بين المدح صفة والمدح اختصاصا، بأن الوصف في الأول أصل والمدح تبع، وفي الثاني بالعكس.

وبأن المقصود الأصلي من الأول إظهار كمال الممدوح والاستلذاذ بذكره، ومن الثاني إظهار أن تلك الصفة أحق باستقلال المدح من باقي صفاته الكمالية، إما مطلقا أو بحسب ذلك المقام.

والايمان: إفعال من الامن من المتعدي إلى مفعول واحد، والهمزة للتعدية إلى مفعولين، تقول: أمنت عمروا وأمننيه زيد، أي جعلني آمنا منه.

وقيل: الهمزة للصيرورة نحو أعشب المكان، بمعنى صار ذا عشب، فمعنى أمن، صار ذا أمن.

وقيل: المطاوعة نحو كبه فأكبه، أي أمنه فأمن، ثم نقل إلى التصديق ووضع له لغة، ثم إنك إذا صدقت زيدا فقد اعترفت بكلامه فعدي بالباء على تضمين معنى الاعتراف.

وفي عرف الشرع: هو التصديق بما علم بالضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وآله) كالتوحيد والنبوة والإمامة والبعث والجزاء كما هو ظاهر.

وقيل: مجموع ثلاثة أمور، اعتقاد الحق، والاقرار به، والعمل بمقتضاه، وهذا مذهب المعتزلة والخوارج، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالاقرار فكافر، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا، وكافر عند الخوارج، خارج من الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.

واختلف القائلون بأن الايمان هو التصديق وحده، في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف في المقصود، أو لابد من انضمام الاقرار للمتمكن منه؟ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر.

وللمانع أن يجعل الذم للانكار لا لعدم الاقرار.

ولا بأس علينا أن نذكر معنى التضمين هنا فإنه يناسبه، فنقول: التضمين أن يقصد بفعل معناه الحقيقي ويلاحظ معه فعلا آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شئ من متعلقات الاخر، كقولك: " أحمد إليك فلانا "، فإنك لما جعلت فيه مع الحمد معنى الانهاء ودللت عليه بذكر صلته، أعني كلمة (إلى) كأنك قلت: أنهي حمده إليك.

ثم إنهم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلا والمحذوف قيدا على أنه حال، وتارة يعكس.

وذهب آخرون إلى أن كلا المعنيين مراد بلفظ واحد على طريق الكناية، إذ يراد بها معناه الأصلي ليتوصل بفهمه إلى ما هو المقصود الحقيقي، فلا حاجة إلى تقدير، إلا لتصور المعنى.

وفيه ضعف، لان المعنى المكنى به في الكناية قد لا يقصد ثبوته، وفي التضمين يجب القصد إلى ثبوت كل من المضمن والمضمن فيه.

والأظهر أن يقال: إن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعية معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ و يقدر له لفظ آخر، فلا يكون من باب الكناية ولا من الاضمار، بل من قبيل الحقيقة التي قصد بمعناها الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة.

فاحفظ هذه المسألة فإنها مفيدة.

بالغيب: الغيب مصدر غاب غيبا، حمل على الغائب مبالغة، أو على حذف مضاف، أو على جعل المصدر بمعنى اسم الفاعل، وإما مخفف فيعل كهين وهين و أمثاله.

ورد ذلك بأن هذا لا يدعى إلا فيما يسمع مثقلا كنظائره، وذلك ليس من هذا القبيل، والمراد به الخفي الذي لا يكون محسوسا ولا في قوة المحسوس كالمعلومات ببديهة العقل، وذلك كذاته سبحانه وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأحوال الآخرة، إلى غير ذلك من كل ما يجب على العبد أن يؤمن به وهو غائب عنه لا يشاهد ولا يعاينه، فالايمان لا يكون عن المؤمن إلا عن غيبه، سواء كان تقليدا أو نظرا أو استدلالا، فإذا ارتفع عن درجة الايمان كان عارفا مشاهدا.

ولهذا فرق جبرئيل بين درجة الايمان وما فوقه عند سؤاله النبي (صلى الله عليه وآله)، حيث قال: يا محمد، أخبرني ما الايمان وما فوقه؟قال (عليه السلام): الايمان أن تؤمن بالله والملائكة والكتب والنبيين وتؤمن بالقدر كله.

ثم قال: يا محمد، أخبرني ما الاحسان؟قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (29) فقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه " أي تعبده، حين تراه بعين بصيرتك وقوة يقينك كأنك تراه، فكما أن المبصر بعين البصر لا يحتاج إلى الاستدلال، فكذلك بعين البصيرة وقوة اليقين لا يحتاج إليه، فهو بالنسبة إليك بمنزله المشهود المحسوس، فدرجة الاحسان فوق الايمان.

وإنما سمي ذلك إحسانا، لأنه إنعام من الله تعالى وفضل، ليس للعبد فيه تسبب، بخلاف الايمان فإنه مكتسب.

ويمكن أن يراد بالغيب غيب الغيوب، الذي هو ذاته المطلقة وهويته الغيبية السارية في الكل علما وعينا.

والباء على هذه التقادير: للتعدية، متعلقه المتضمن للايمان، ويمكن أن تكون للمصاحبة متعلقة بمحذوف يقع حالا.

والغيب بمعناه المصدري، أي يؤمنون حال كونهم متلبسين بغيبتهم عن المؤمن به، أو بغيبة المؤمن به عنهم.

أو المعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم، لا كالمنافقين الذين (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) (30) وأن تكون للاستعانة أي يؤمنون باستعانة غيوبهم التي هي نفوسهم الناطقة و أرواحهم المجردة التي هي غيب وجوداتهم، فإن نسبة الحق سبحانه إلى العالم كنسبة النفس الناطقة إلى البدن، فبالقياس إليها يعرفون الحق سبحانه ويؤمنون به و بصفاته الكمالية، وعلى هذا حمل بعضهم قوله (عليه السلام): (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (31).

وقيل: المراد بالغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لا كمن (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (32) ومفعول يؤمنون على هذه التقادير محذوف يعم جميع ما يجب أن يؤمن به.

ويحتمل أن يكون المراد بالغيب قيام القائم (عليه السلام)، ويدل عليه ما روي عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) قال: من أقر بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق (33).

وروى أيضا بإسناده عن يحيى بن أبي القاسم قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) فقال: المتقون شيعة علي (عليه السلام) والغيب هو الحجة الغائب (34).

ويقيمون الصلاة: القيام في الأصل الانتصاب، وإقامة الشئ جعله منتصبا، فكأنهم يجعلون الصلاة منتصبة من حضيض ذل العدم أو النقصان إلى ذروة عز الوجود أو الكمال، أي يحصلونها - أو يأتون بها - على ما ينبغي، وأيضا قيام الشئ وجوده، ومنه قولهم: إنه قائم بنفسه أو بغيره، وقولهم القيوم: هو القائم بنفسه المقيم لغيره، والقوام: لما يقام به الشئ أي يحصل.

فعلى هذا معنى إقامة الصلاة تحصيلها وإيجادها كما في الوجه الأول من الإقامة بمعنى الانتصاب، ويلائم الوجه الثاني جعله من أقام العود، إذا قومه أي سواه، على أن يستعار من تسوية الأجسام كالعود ونحوه لتعديل الأركان، نقلا من المحسوس إلى المعقول.

ويحتمل أن يجعل من قامت السوق إذا نفقت - أي راجت - وأقامها أي جعلها نافقة رائجة، ويقصد بها الدوام والمحافظة عليها، لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشئ النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشئ الكاسد الذي لا يرغب فيه.

وأن يجعل من قولهم: قام بالامر، أي تجلد وتشمر له، فإقامة الصلاة على هذا جعلها متجلدة متشمرة، أي كالمتجلدة المتشمرة لاخراج المصلي عن عهدة أدائها، أو إنقاذها عن تبعة تركها، ولا يتيسر ذلك إلا بتجلد المصلي وتشمره لها، فجعل كناية عنه.

وبالجملة: فالمراد بإقامتها تحصيلها الذي هو أداؤها مطلقا، أو تعديل أركانها الظاهرة، وتقويم حقائقها الباطنة، أو الدوام والمحافظة عليها، أو التجلد والتشمر لأدائها.

والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، كتبت بالواو على لفظ المفخم اسم الفاعل، والتفخيم هنا إمالتها نحو الواو، وقيل: للدلالة على أنها واوية.

والمشهور أنها في اللغة بمعنى الدعاء، وورود الصلاة بمعنى الدعاء في كلام العرب قبل شرعية الصلاة المشتملة على الأركان المخصوصة، وفي كلام من لا يعرفها دليل على ذلك، ثم نقلت إلى ذات الأركان لاشتمالها على الدعاء، أو لأنها دعاء بتمامها بالألسنة الثلاثة، القول والفعل والحال، ووجه إطلاق المصلي على الداعي ظاهر.

وقيل: إنها من صلى بمعنى حرك الصلوين، أي طرفي الأليين (35) وذلك لان أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصلوين للركوع، فإن القيام لا يختص بالصلاة.

وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخضعه بالراكع والساجد.

وإقامة الصلاة أعم من المفروضات والمسنونات.

ومما رزقناهم ينفقون: الرزق في الأصل الاخراج، لان التركيب وقلبه أعني زرق يدلان عليه، وشاع في اللغة أولا على إخراج خط إلى آخر ينتفع به.

وهذا يلائم ما يذهب إليه بعضهم حيث يجعلون الرزق عاما، بحيث يتناول كل غذاء جسماني كالأطعمة والأشربة وغيرهما، وروحاني كالعلوم والمعارف، ثم شاع استعمالا وشرعا على إعطاء الحيوان ما ينتفع به، ويستعمل بمعنى المرزوق كثيرا، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام - لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه - قالوا: الحرام ليس برزق.

وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال، فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح.

وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله بقوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) (36).

والأشعرية جعلوا الاسناد للتعظيم، والتحريض على الانفاق، والذم لتحريم ما لم يحرم، واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة، وتمسكوا في شمول الرزق له بقوله (عليه السلام) في حديث عمرو بن قرة: لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله (37).

وبأنه لو يكن رزقا لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقا، وليس كذلك لقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " (38).

وأنفق الشئ وأنفده أخوان، وكذا كل ما كان فاؤه نونا وعينه فاء يدل على معنى الذهاب والخروج.

والمراد من إنفاق ما رزقهم الله: صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل.

ومن فسر بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها.

وتقديم المفعول للاهتمام، أو لتخصيص الانفاق ببعض المال الحلال، تأكيدا لما يفيده من التبعيضية، أو للمحافظة على رؤوس الآي.

وما المجرورة موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف، والتقدير رزقناهموه، أو رزقناهم إياه.

وإنما حذف العائد الذي هو كناية عن الرزق، لا العائد إلى المرزوقين، ليكون الوجود اللفظي على طبق الوجود العيني، لانطواء الرزق في المرزوق واختفائه فيه.

ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول، وأن تكون (من) لابتداء الغاية لا للتبعيض.

أقول: إنما كني بضمير الجمع عن نفسه وهو واحد لا شريك له، لأنه خطاب الملوك، وهو مالك الملوك.

ووجه ذلك عند بعضهم أن ما يصدر عن الله سبحانه من الافعال إنما هو بواسطة الأسماء، وللأسماء جهتان: جهة وحدة حقيقية من حيث الذات، وجهة كثرة نسبية من حيث النسب والاعتبارات، فإذا اقتضى المقام اعتبار الجهة الأولى أتى بما يدل على الوحدة، وإذا اقتضى المقام اعتبار الجهة الثانية أتى بما يدل على الكثرة.

ولما اعتبر هنا جانب المرزوقين روعيت الجهة الثانية، فإن لكل مرزوق استعدادا خاصا بطلب رزقه من اسم خاص يناسبه.

قيل: ولا يبعد أن يقال: المراد بالانفاق أنهم يتصدقون للفطر حين يصومون، و لأداء الزكاة عند وجود النصاب وحولان الحول، وينفقون لأداء الحج للزاد والراحلة لأنفسهم ولرفقائهم، فيكون قوله تعالى: (بالغيب) إشارة إلى أول ركن من أركان الاسلام، وقوله: (ويقيمون) إلى ثانيها، وقوله: (ومما رزقناهم) إلى الثلاثة الباقية.

وروي في معنى الآية: أن (المتقين) هم الشيعة (39).

﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ( 4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( 5)﴾

الذين يؤمنون بالغيب: وهو البعث والنشور وقيام القائم والرجعة (40).

ومما رزقناهم ينفقون: مما علمناهم من القرآن يتلون (41).

والذين يؤمنون بما أنزل إليك: مرفوع أو منصوب عطفا على الذين يؤمنون بالغيب، أو مجرور عطفا عليه أو على المتقين.

فعلى الأول يكون دخوله تحت المتقين دخول أخص تحت أعم، إذ المراد بأولئك: الذين آمنوا عن شرك وإنكار، و بهؤلاء مقابلوهم، فتكون الآيتان تفصيلا للمتقين.

وعلى الثاني لا يكون مندرجا تحت المتقين، والمعنى: هدى للمتقين عن الشرك والذين آمنوا من أهل الملل، فعلى هذا يكون المراد بالأولين: المؤمنين من الشرك، وبالآخرين: المؤمنين من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، وعلى التقديرين يحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم ووسط العاطف، كما وسط في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (42) - وقوله: يا لهف زيابة للحارث * الصابح فالغانم فالآيب (43) - والمعنى أنهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل جملة، والاتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الايمان بما لا طريق إليه غير السمع.

وكرر الموصول، تنبيها على تباين السبيلين، أو طائفة منهم وهو مؤمنو أهل الكتاب ذكرهم مخصصين عن الجملة، كذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم.

ويحتمل أن يكون مع ما عطف عليه مبتدأ وأولئك خبره.

والانزال تحريك الشئ من العلو إلى السفل، فالمراد بالمنزل إن كان الكلام الذي هو صفته، فإنزاله تحريكه بالحركة المعنوية إلى مظاهره السفلية بعد ظهوره في المظاهر العلوية، فإنه يظهر أولا في المظاهر العقلية ثم النفسية ثم المثالية ثم الحسية.

وإن كان كلامه هو القرآن المنتظم من الحروف والكلمات، فإنزاله تحريكه من المعاني العلمية الإلهية إلى العقلية ثم النفسية ثم إلى صور الحروف والكلمات المثالية ثم الحسية، وعلى هذا يكون الانزال مستعملا في معناه المجازي، فيكون من قبيل المجاز في المفرد.

ولك أن تجعله من قبيل المجاز في الاسناد، بأن يكون الانزال مستعملا في معناه الحقيقي، ويسند إلى القرآن باعتبار حامله الذي هو جبرئيل (صلوات الله عليه).

وإنما جاء بصيغة الماضي وإن كان بعضه مترقبا، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ونظيره قوله تعالى: " إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى " (44)، فإن الجن لم يسمعوا جميعه، ولم يكن الكتاب كله حينئذ منزلا، والمعنى الذين يؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليك بعد ظهورك بالوجود الجسماني الشهادي.

وإنما قيدنا بذلك، لأنه بحسب الوجود الروحاني العيني مقدم على الكل، قال (صلى الله عليه وآله): (كنت نبيا) أي مبعوثا من عند الله في العالم الروحاني إلى الأرواح البشريين والملكيين (وآدم بين الماء والطين) (45) أي لم يكمل بدنه الجسماني الشهادي بعد، فكيف من دونه من أنبياء أولاده؟والايمان به - جملة - فرض عين، وتفصيلا - من حيث أنا متعبدون بتفاصيله - فرض لكن على الكفاية، لان وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش.

وما أنزل من قبلك: مجرور معطوف على ما أنزل قبله، اي قبل وجودك الجسماني الشهادي، والمراد به التوراة والإنجيل وغيرهما، والايمان به - جملة - فرض عين.

وقرأ يزيد بن قطيب: بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، على لفظ ما سمي فاعله (46).

أقول: من جملة ما أنزل إلى النبي وإلى الأنبياء قبله (عليهم السلام) - بل العمدة والأصل - خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه بلا واسطة أحد غيره.

يدل على ذلك ما روي أنه قد حضر رجل عند علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل على محمد وما أنزل من قبل، ويؤمن بالآخرة، ويصلي، ويزكي، ويصل الرحم، ويعمل الصالحات، لكنه يقول مع ذلك: لا أدري الحق لعلي أو لفلان؟فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها إلا أنه يقول: لا أدري النبي محمد أو مسيلمة؟هل ينتفع بشئ من هذه الأفعال؟فقال: لا.

فقال: فكذلك صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالآخرة، أو منتفعا بشئ، من لا يدري أمحمد النبي أم مسيلمة؟فكذلك، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالآخرة أو منتفعا بشئ من أفعاله، من لا يدري أعلي المحق أم فلان (47).

وبالآخرة هم يوقنون: معطوفة على (يؤمنون) أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، واختلافهم في نعيم الجنة أو هو من جنس نعيم الدنيا أو غيره، وفي دوامه وانقطاعه؟والآخر اسم فاعل من (أخر) بالتخفيف، بمعنى تأخر، إلا أنه لم يستعمل، والآخرة تأنيثها، وهي صفة الدار والنشأة، بدليل قوله: (تلك الدار الآخرة) (48)، و (ينشئ النشأة الآخرة) (49) وهي صفة غالبة على تلك الدار، والنشأة كالدنيا على هذه، حتى قلما تستعملان في غيرهما.

وقد جرتا مع تلك الغلبة مجرى الأسماء بترك موصوفيهما حتى كأنهما ليستا من قبيل الصفات.

وإنما سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، كما سميت الدنيا دنيا لكونها أدنى و أقرب إلينا من الآخرة أو لكونها أقرب النشئات إلى الآخرة، وذلك لان للنفس الناطقة حالتين: حالة تقلقلها بالبدن واشتغالها بتدبيره، والاتيان بواسطته بالاعمال الحسنة والسيئة، وحالة انقطاعها عن البدن وعدم التمكن من الاشتغال بتدبيره، وترتب الا جزية على أعمالها من اللذات والآلام.

ولا شك أن الانتقال من الحالة الأولى التي هي الدنيا إلى الثانية التي هي الآخرة، آني دفعي، لا زماني تدريجي، بخلاف سائر النشئات فإنه يتخلل بينها وبين الآخرة النشأة الدنيوية.

وعن نافع أنه خفقها بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام.

والايقان: إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه بالاستدلال، ولهذا لا يوصف به علم الباري تعالى والعلوم الضرورية، لا يقال: أيقنت أن السماء فوقي، يقال: يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى.

وهو في أصل اللغة ينبئ عن السكون والظهور.

يقال: يقن الماء إذا سكن فظهر ما تحته، وقرئ (يؤقنون) بقلب الواو همزة لضم ما قبلها، إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقنت، ونظيره: لحب المؤقدان إلي مؤسى * وجعدة إذ أضاءهما الوقود (50) - وفي هذا الكلام تقديمان يفيد كل منهما القصر: أحدهما: تقديم الظرف، أعني (بالآخرة) للقصر عليه، كما في قوله تعالى: (لالى الله تحشرون) (51) يعني أنهم يوقنون بحقيقة الآخرة، لا بما هو على خلاف حقيقتها كما يزعم بعض اليهود.

وثانيهما: تقديم المسند إليه، أعني (هم) وبناء الفعل إليه، كما في قولك: " أنا سعيت في حاجتك " - يعني أن الايقان بالآخرة مقصور إليهم لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب.

وفي هذين القصرين التعريض ببعض أهل الكتاب، وبما هم عليه من أمر الآخرة.

أولئك على هدى من ربهم: الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له، وكأنه لما قيل: (هدى للمتقين) قيل: ما بالهم خصوا بذلك؟فأجيب بقوله: (الذين) إلى آخره، وإلا فاستئناف لا محل لها، وكأنه نتيجة الاحكام والصفات المتقدمة، أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ويحتمل أن يكون الموصول الأول موصولا بالمتقين، والثاني مفصولا عنه مبتدأ، و (أولئك) خبره.

و (أولئك) اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذكور والإناث، وهي هنا إشارة إلى المتقين الموصوفين بتلك الصفات، لا إلى ذواتهم المجردة، لأنه مأخوذ في حد اسم الإشارة أن يكون المشار إليه محسوسا أو في حكم المحسوس، وإنما صار المشار إليه هنا في حكم المحسوس بإجراء هذه الأوصاف عليه وتميزه بها عما عداه، فيجب أن تكون ملحوظة في الإشارة، فإذن يكون قوله: " أولئك على هدى من ربهم " كالبناء على المشتق، ففيه إعلام بأن الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، علة لكون المذكورين على الهدى.

وكلمة (أولئك) يمد ويقصر والمد أولى.

وكلمة (على) هذه استعارة تبعية، وإنما كانت استعارة، لأنه شبه تمسك المتقين بالهدى باستقلال الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، كما شبه استعلاء المصلوب على الجذع باستقرار المظروف في الظرف لجامع، فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية.

وإنما كانت تبعية، لان الاستعارة في الحرف تقع أولا في متعلق في معناه، كالاستعلاء والظرفية مثلا ثم تسري إليه بتبعية كما حقق في موضعه.

ولك أن تعتبر تشبيه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به، بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها، أو تعتبر تشبيهه بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتجعل كلمة (على) قرينة لها.

وتنكير (هدى) للتعظيم، أي هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، وكيف يبلغ؟وقد منحوه من عند ربهم وأتوه من قبيله، أو للنوع.

و (من) للابتداء، وإنما قال: (من ربهم) لا من الله تنبيها على أن لكل أحد اسما خاصا من أحدية جمع الأسماء، هو ربه، ومنه يصل إليه ما يصل، وليس لاحد أحدية جمع الأسماء إلا للانسان الكامل، فإن ربه الخاص به هو الاسم الجامع، فمعنى قوله: (من ربهم) أن لكل أحد هدى من ربه الخاص لا من غيره.

والنكتة في إضافة الهدى إلى الكتاب أولا وإلى ربهم ثانيا، أن المتقين قبل كشف حجب المظاهر عن نظر شهودهم، كانوا يشاهدون الهدى عن مظاهر الاسم التي كان ذلك الكتاب واحدا منها، فلذلك أضيف إليه الهدى أولا، فلما تمكنوا في التقوى وتحققوا بالصفات الجارية عليهم كشف عنهم حجب المظاهر وشاهدوا فيها الظاهر، فلهذا أضيف إليه ثانيا.

وهو، أي قوله: " من ربهم " إما في محل الجر صفة لهدى، أو النصب على أنه حال من هدى.

وأولئك هم المفلحون: عطف على الجملة الأولى، وأصل الفلاح القطع والشق، ومنه سمي الزارع فلاحا، لأنه يشق الأرض، والزراعة فلاحة، ومنه المثل الحديد بالحديد يفل (52).

بل كل ما يشاركه في الفاء والعين يدل على ذلك المعنى، نحو فلق وفلذ وفلي وفلج بالجيم.

والمفلح هو الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الفوز والظفر ولم تستغلق عليه.

وكرر اسم الإشارة، للتنبيه على أن كل واحد من المسندين على انفراده يكفي في إثبات الفضيلة للمسند إليهم، فلا احتياج إلى انضمام الآخر ليعد من الفضائل، بخلاف ما لو اقتصر على واحد منهما، فإنه يمكن أن يتوهم حينئذ أن الفضيلة في الجمع بينهما لا في كل واحد.

و " هم ": فصل، وفيه ثلاث فوائد وثلاث مذاهب: أما الفوائد: فالأولى منها: الدلالة ابتداء على أن ما بعده خبر، لا نعت، ولذلك سمي فصلا.

والثانية: تأكيد الحكم لما فيه من زيادة الربط.

وقيل: تأكيد المحكوم عليه، لأنه راجع إليه فيكون تكريرا له.

والثالثة: إفادة قصر المسند على المسند إليه.

فإن قلت: إن هذا إنما يتم إذا ثبت القصر في مثل زيد هو أفضل من عمرو مما الخبر فيه نكرة، وإلا فتعريف الخبر بلام الجنس يفيد قصره على المبتدأ، وإن لم يكن هناك ضمير فصل، مثل زيد الأمير.

قلت: ندعي القصر في صورة النكرة - أيضا - فإن قولك زيد هو أفضل من عمرو، معناه بالفارسية (زيد أو است كه أفضل است از عمرو) فعلى هذا قد اجتمع في قولك: زيد هو الأمير، أمران يدلان على قصر المبتدأ، أحدهما تأكيد للآخر: تعريف المسند وضمير الفصل.

ونوقش: بأن تعريف المبتدأ بلام الجنس، يفيد قصره على الخبر دون قصر الخبر عليه وإن كان مع ضمير الفصل، كقولك: الكرم هو التقوى، أي لا كرم إلا التقوى.

وأجيب: بأن القول بإفادة الفصل قصر المسند على المسند عليه، إنما هو على تقدير أن لا يكون هناك معارض كتعريف المسند إليه، لإفادة قصره على المسند، في هذه الصورة.

وأما المذاهب: فأحدها: أن ضمير الفصل حرف لا محل له، وفائدته ما مر.

وثانيهما: أنه اسم لا محل له، وهو سخيف، لأنه ليس له نظير في كلام العرب من اسم لا يكون له محل.

وثالثها: أنه اسم مرفوع المحل، فعلى هذا يجوز أن يكون (هم) مبتدأ و (المفلحون) خبره والجملة خبر (أولئك).

واللام: إما للعهد، أي المتقون هم الذين بلغك أنهم يفلحون واشتهروا بذلك، فإنهم حصة معينة من جنس المفلحين مطلقا.

وإما للجنس، أي جنس المفلحين مقصور على المتقين لا يجاوزهم إلى غيرهم، والمبالغة في الثاني، لان قصر الجنس يستلزم قصر الحصة من غير عكس.

وهاهنا معنى آخر أدق وألطف ذكره الشيخ (53) في دلائل الاعجاز وهو أن نشير باللام إلى حقيقة، ثم نصور تلك الحقيقة في الوهم بصورة تناسب ما يحكم بها عليه، ثم نحكم بالاتحاد بين تلك الحقيقة المصورة بهذه الصورة الوهمية وبين المبتدأ، من غير ملاحظة الحصر من أحد الجانبين.

وإنما اعتبرت الصورة الوهمية المناسبة، لان الحقيقة لو تركت على حالها لم يكن ادعاء كون المبتدأ متحدا بها مستحسنا مقبولا، فالمراد بالمفلحين على هذا المعنى جنس المفلحين مصورا بصورة وهمية تلائم المتقين، يحكم بالاتحاد بينها وبين المتقين (54).

لا يقال: على هذا التقدير لم يتصور هناك حصر أصلا فكيف يستعمل فيه ضمير الفصل؟قلنا: يجرد حينئذ لتميز الخبر من النعت وتأكيد الحكم دون القصر.

فإن قلت: قوله: " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " جملتان مصوغتان لمدح المتقين، فلم وقعت إحداهما بطريق القصر والحكم بالاتحاد، والأخرى بدونه؟قلنا: لظهور التلازم بين مسنديهما، فقصر إحداهما في قوة قصر الأخرى، و كذلك الحكم بالاتحاد في إحداهما في قوة الحكم بالاتحاد في الأخرى.

وإنما اختير ذلك في الجملة الأخيرة ليقع خاتمة صفاتهم على وجه أبلغ.

وفي التفسير المنسوب إلى أبي محمد العسكري (صلوات الله عليه وعلى آبائه)، قال الإمام (عليه السلام): ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات الشريفة، فقال: " أولئك " أهل هذه الصفات " على هدى " وبيان وصواب " من ربهم " وعلم بما أمرهم به " وأولئك هم المفلحون " الناجون مما منه يوجلون الفائزون بما يؤملون، قال: وجاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إن بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه وفلان يعرب ويضحك من بلال! فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا عبد الله، إنما يراد إعراب الكلام وتقويمه لتقويم الأعمال وتهذيبها، ماذا ينفع فلانا إعرابه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن! وماذا يضر بلالا لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقومة أحسن تقويم مهذبة أحسن تهذيب! قال الرجل: يا أمير المؤمنين، وكيف ذلك؟قال (عليه السلام): حسب بلال من التقويم لأفعاله والتهذيب لها أنه لا يرى أحدا نظيرا لمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لا يرى أحدا بعد محمد نظيرا لعلي بن أبي طالب، ويرى أن كل من عاند عليا فقد عاند الله ورسوله، ومن أطاعه فقد أطاع الله ورسوله، وحسب فلان من الاعوجاج واللحن في أفعاله التي لا ينتفع معها بإعرابه لكلامه بالعربية وتقويمه للسانه، أن يقدم الاعجاز على الصدور والاستاه على الوجوه، وأن يفضل الخل في الحلاوة على العسل، والحنظل في الطيب والعذوبة على اللبن، يقدم على ولي الله الذي لا يناسبه بشئ من الخصال في فضله، هل هو إلا كمن قدم مسيلمة على محمد في النبوة في الفضل، ما هو إلا من الذين قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " (55).

قال بعض الفضلاء: وإذا انتهى الكلام إلى ها هنا فحري بنا أن نشير إلى بعض بطون هذه الآيات، فنقول: هذا كلام من باطن الجمع إلى ظاهر الفرق، يخاطب أكمل صورة.

﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6)﴾

أولا (صلى الله عليه وآله) ومتابعيه آخرا، فيقول: (ألم) أي أقسم بالأول وذي الامر والخلق أن (ذلك) الموجود المعلوم المشهود، أعني العالم، هو الكتاب، الجامع لحروف وكلمات مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، للدلالة على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا ينتهي " لا ريب فيه "، لان تلك الدلالة قطعية عقلية أو كشفية لا مجال للشك والريب فيها، (هدى) للمشارفين على التوقي من الحجب المانعة عن التحقق بشهود الوحدة والكثرة، (الذين يؤمنون) بغيب الهوية وسريانها: أولا في الصور العلمية الباطنة التي هي الأعيان الثابتة ولها الأولية، وثانيا في الصور العينية الظاهرة التي هي أعيان الخارجية، ولها الآخرية، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن.

وبعد الايمان بها يسلكون طريق الوصول إلى شهودها في تلك الصور بوحدتها، ف? (يقيمون الصلاة) التي هي العبادة التامة الجامعة الموصلة إلى شهود الجمعية الإلهية، بتحريك صلويهم الروحانية والجسمانية للسير إليها والفناء فيها، ومما أفيض عليهم بعد الفناء من أنوار المعرفة وأسرار الوحدة يفيضون على من سواهم، لجعلهم بالتربية والكمال مستعدين لفيضانها، والذين يصدقون لصفاء استعدادهم بما انزل إليك وبما انزل إلى الأنبياء والمرسلين من تلك الأنوار والاسرار، حيث يفهمونها بلسان الإشارة عنك فيرغبون فيها و يسلكون للوصول إليها.

و (بالآخرة) أي بعاقبة سلوكهم ومآل أمرهم إلى فيضان تلك الأنوار والاسرار في أثناء سلوكهم لظهور آثارها، متيقنون، " أولئك على هدى من ربهم " الظاهر بالاسم الهادي في مظاهره، لا يحتجبون بالمظاهر عن الظاهر " وأولئك هم المفلحون " الذين خرقوا حجب المظاهر وشقوها فيشاهدون مشهودهم كفاحا.

إن الذين كفروا: لما ذكر خاصة أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم، وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه وإنذار الرسول وسكوته.

وروي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في معنى الآية: أنه لما ذكر المؤمنين ومدحهم، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم، فقال: إن الذين كفروا بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى، وبنبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبوصية علي أمير المؤمنين ولي الله ووصي رسول الله، وبالأئمة الطيبين الطاهرين خيار عباده الميامين القوامين بمصالح خلق الله " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " أي خوفتهم أو لم تخوفهم، أخبر عن علم بأنهم " لا يؤمنون " انتهى كلامه (عليه السلام) (56).

ولم يوسط العاطف بين الجملتين، لتباينهما في الغرض والأسلوب.

أما الغرض: فلان الغرض من الأولى بيان كون الكتاب بالغا في الهداية حد الكمال، ومن الثانية وصف الكفار بأنه لا يؤثر فيهم الانذار.

وأما في الأسلوب: فلان طريق الأولى الحكم على الكتاب بجملة محذوفة المبتدأ موصولة بغيرها من ذكر المتقين وأحوال المؤمنين، وطريق الثانية الحكم على الكافرين قصدا بجملة تامة، مصدرة ب? (إن) المشعرة بالأخذ في فن آخر لتجرد الأول عنها، بخلاف قوله: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " (57) لتوافقهما في الغرض والأسلوب، وهو ظاهر.

ويحتمل أن يقال: لما كانت النسبة بين المؤمنين والكافرين كمال المباينة، و بين الكافرين والمنافقين كمال المناسبة، قطع ما كان في شأن الكافرين عما كان في شأن المؤمنين، وعطف ما كان في شأن المنافقين على ما هو في شأن الكافرين، تنبيها على تينك النسبتين.

و (إن) من الحروف التي شابهت الفعل في عدد الحروف، والبناء على الفتح، و لزوم الأسماء، وإعطاء معانيه، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين، ولذلك أعملت عمله الفرعي، وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل.

وقال الكوفيون: الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية، وهي بعد باقية مقتضيه للرفع، قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف.

ورد بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف.

و فائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يتلقى بها القسم، وتصدر بها الأجوبة، و تذكر في معرض الشك (58).

روي أن الكندي (59) المتفلسف ركب إلى المبرد (60)، وقال: إني أجد في كلام العرب حشوا، أجد العرب تقول: عبد الله قائم، ثم تقول: إن عبد الله قائم، ثم تقول: إن عبد الله لقائم! فقال المبرد: المعاني مختلفة، فقولهم: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل وقولهم: إن عبد الله قائم، جواب عن إنكار منكر القيام (61).

والكفر لغة: ستر النعمة، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر، ومنه سمي الليل كافرا لستره الأشياء بظلمته، والزارع كافرا لأنه يستر الحب في التراب، وكمام الثمرة كافورا لسترها الثمرة.

وفي الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول (عليه السلام) به، كوجوب الصوم والصلاة والزكاة وغير ذلك.

وإنما عد لبس العيار (62) وشد الزنار كفرا؟لأنهما تدلان على التكذيب، فإن من صدق الرسول (عليه السلام) لا يجترئ عليهما، لا لأنهما كفر في أنفسهما.

واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه، لاستدعائه سابقة مخبر عنه، وحيث لا يصح الحكم على الكافرين مطلقا باستواء الانذار وتركه لتحقق الايمان من بعضهم، فتعريف الموصول: إما للعهد، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فإن هؤلاء وأضرابهم أعلام الكفرة فهم كالحاضرين في الذهن، فإذا اطلق اللفظ التفت الخاطر إليهم أو لاستغراق الجنس، وهو الشائع في الاستعمال، إما مطلقا فيستغرق المصرين وغير المصرين وخص منه المصرين بقرينة الخبر، وإما مقيدا بالاصرار بهذه القرينة، فإنه أيضا جنس، فيستغرق أفراد جنس المصرين فقط، أو لبعض أفراد الجنس من غير عهد واستغراق، ويكون تعيين المصرين بقرينة الخبر.

أقول: ويحتمل أن يكون المراد به مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وتابعي أبي لبابة بن المنذر، يدل على إرادة ذلك ما روي عن محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد و قصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها وحجته ليبطلوها، فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه مالك بن الصيف وكعب بن أشرف وحيي بن أخطب، وأبو لبابة بن المنذر، وشيعته.

فقال مالك لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد، تزعم أنك رسول الله؟قال رسول الله: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين.

قال: يا محمد، لن نؤمن أنك لرسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتي، ولن نشهد لك أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط.

وقال أبو لبابة بن المنذر: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولا نشهد لك به، حتى يؤمن لك ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي.

وقال كعب بن أشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به، حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس للعباد الاقتراح على الله، بل عليهم التسليم لله، والانقياد لامره والاكتفاء بما جعل كافيا، أما كفاكم أن التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم حكم بنبوتي ودل على صدقي، وبين فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي في أمتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، وأنزل علي هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وإن تكلفوا شبهه، وأما الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عز وجل، بل أقول إن ما أعطاني ربي عز وجل من دلالة هو حسبي وحسبكم، فإن فعل عز وجل ما اقترحتموه فذلك زائد في تطوله علينا و عليكم، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا، قال: فلما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كلامه هذا أنطق الله البساط، والحديث طويل، مضمونه أن كلا من البساط والسوط والحمار شهدوا بالوحدانية والنبوة والولاية، وظهر من كل منها آيات عجيبة، ولم يؤمن أحدهم إلا أبو لبابة فإنه أظهر الاسلام ولم يحسن إسلامه، ثم قال (عليه السلام): فلما انصرف القوم من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يؤمنوا أنزل الله: يا محمد، " إن الذين كفروا سواء عليهم " في العظة، " أأنذرتهم " ووعظتهم وخوفتهم " أم لم تنذرهم لا يؤمنون "، لا يصدقونك بنبوتك وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا، فكيف يؤمنون (63).

سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم: سواء اسم مصدر بمعنى الاستواء، أجري على ما يتصف بالاستواء كما تجري المصادر على ما يتصف بها.

وهو مرفوع على أنه خبر (إن) وقوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بتأويل المصدر، مرفوع على الفاعلية، أي إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه.

أو هو مرفوع بالابتداء وسواء خبره مقدما عليه، والفعل إنما يمتنع الاخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو اطلق و أريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع، فلا، وإنما عدل عنه إلى الفعل لما فيه من إبهام التجدد، وحسن دخول الهمزة.

قيل: لا يجوز أن يكون سواء خبرا، لان الجملة لما كانت مصدرة بالاستفهام لا يجوز تقديم ما في خبرها عليها.

ورد بأن الهمزة ولم دخلتا عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، بل هو أولى من أن يكون فاعلا للاستواء لأنه لما كان اسما غير صفة فالأصل أن لا يعمل، وإذا جعله بمعنى اسم الفاعل فاتت المبالغة المقصودة من الوصف بالمصادر.

ووجه إفراده على الأول ظاهر، وعلى الثاني لجهة مصدريته، ولما كان الاستواء المستفاد من الحرفين غير الاستواء المفهوم من سواء فلا تكرار.

وذهب بعض النحاة إلى أن سواء في مثل هذا المقام خبر مبتدأ محذوف، أي الأمران سواء عليهم، وأن الهمزة بما بعدها بيان للامرين، والفعلان في معنى الشرط، على أن تكون الهمزة بمعنى أن الشائع استعمالها في غير المتيقن، وأم بمعنى أو، لان كليهما لاحد الامرين، والجملة الاسمية، أعني: الأمران سواء، دالة على الجزاء، فعلى هذا يكون خبر إن هو الجملة الشرطية، والمعنى: إن الذين كفروا إن أنذرت أو لم تنذر فهما سواء عليهم، وعليهم متعلق بالاستواء.

والانذار: التخويف، أريد به التخويف من عقاب الله.

وإنما اقتصرت عليه دون البشارة، لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس، من حيث أن دفع الضرر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى.

وقرئ: أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين وقلبها ألفا، وهو لحن، لان المتحركة لا تقلب، ولأنه يؤدي إلى التقاء الساكنين على غير حده و بتوسيط ألف بينهما محققين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف الاستفهامية، و بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.

﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم ( 7)﴾

لا يؤمنون: تأكيد أو بيان للجملة التي قبلها، أعني سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، وحينئذ يكون محله الرفع إن جعل ما قبله جملة من مبتدأ وخبر، لا صفة مع الفاعل، فإنه على هذا التقدير لم يكن لقوله (يؤمنون) محل، أو خبر بعد خبر، أو جملة مستأنفة، أو حال من مفعول أنذرتهم.

قيل: أو خبر، وقوله: (سواء) إلى آخره اعتراض بين المبتدأ والخبر، ورد بأن الاخبار عن المصرين على الكفر بعدم الايمان لا فائدة فيه.

واحتجت المجوزة لتكليف ما لا يطاق بالآية، بأنه سبحانه أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالايمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا، وشمل إيمانهم الايمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان.

والجواب: أن الاخبار بوقوع الشئ أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره تعالى عما يفعله هو والعبد باختياره.

وفائدة الانذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الابلاغ، ولذلك قال: (سواء عليهم) ولم يقل سواء عليك، كما قال لعبدة الأصنام: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " (64).

وقد حقق الكلام في هذا الجواب العلامة النحرير القزويني (65) في حاشيته الشريفة على العدة.

ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة: بيان وتأكيد للحكم السابق، أو تعليل له، والختم قريب من الكتم، لفظا، لتوافقهما في العين واللام، ومعنى، لان الختم على الشئ يستلزم كتم ما فيه، فيناسبه في اللازم.

والغشاوة فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشئ، كالعصابة والعمامة، ولا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، بل على سبيل المجاز والاستعارة.

فإن كان المشبه به في " ختم الله على قلوبهم " المعنى المصدري الحقيقي للختم، والمشبه إحداث حالة في قلوبهم مانعة من نفوذ الحق فيها، كان طرفا التشبيه مفردين والاستعارة مصرحة.

وإن جعل المشبه به هيئة مركبة منتزعة من الشئ والختم الوارد عليه، ومنعه صاحبه من الانتفاع به، والمشبه هيئته منتزعة من القلب والحالة الحادثة فيه، و منعها صاحبها من الانتفاع به في الأمور الدنيوية، كان طرفا التشبيه مركبين، والاستعارة تمثيلية قد اقتصر فيها من ألفاظ المشبه به على ما معناه عمدة في تصوير تلك الهيئة واعتبارها، أعني الختم، وباقي الألفاظ منوي مراد وإن لم يكن مقدرا في نظم الكلام، والاقتصار على بعض الألفاظ للاختصار في العبارة، وتكثير محتملاتها بأن تحمل تارة على التشبيه، وتارة على التمثيلية، وأخرى على غيرهما، ولو صرح بالكل تعينت التمثيلية، وإن قصد تشبيه قلوبهم بأشياء مختومة وجعل ذكر الختم الذي هو من روادف المشبه به المسكوت عنه تنبيها عليه و رمزا، كان من قبيل الاستعارة بالكناية، وقس عليه قوله: " وعلى أبصارهم غشاوة ".

والمعتزلة لما اضطرت في معنى ظاهر الآية، ذكروا له وجوها من التأويل: منها: إن القوم لما أعرضوا وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.

ومنها: إن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم و يتنفرون عنهم.

وعلى هذا يحمل كل ما يضاف إلى الله من طبع وإضلال.

يدل على هذا التأويل ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما دعا هؤلاء المعنيين في الآية المقدمة، وأظهرهم تلك الآيات فقابلوها بالكفر، أخبر الله عز وجل بأنه ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ختما يكون علامة الملائكة المقربين القراء لما في اللوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم، حتى إذا نظروا إلى أحوالهم وقلوبهم و أسماعهم وأبصارهم شاهدوا ما هنالك من ختم الله عز وجل عليها ازدادوا بالله معرفة وعلموا ما يكون قبل أن يكون يقينا.

قال: فقالوا: يا رسول الله، فهل من عباد الله من يشاهد هذا الختم كما يشاهده الملائكة؟فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بلى، محمد رسول الله يشاهدها بشهادة الله عز وجل، ويشاهده من أمته أطوعهم لله عز وجل وأشدهم في طاعة الله وأفضلهم في دين الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟وكل منهم تمنى أن يكون هو، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعوه يكن من شاء الله، فليس الجلالة في المراتب عند الله عز وجل بالتمني ولا بالتظني ولا بالاقتراح، ولكنه فضل من الله عز وجل على من يشاء يوفقه للأعمال الصالحة يكرمه لها، فيبلغه أفضل الدرجات وأشرف المراتب، إن الله سيكرم بذلك من يريكموه في غد، فجدوا في الأعمال الصالحة فمن وفق الله له ما يوجب عظيم كرامته، فلله عليه بذلك الفضل العظيم.

قال: فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغص مجلسه بأهله، وقد جد بالأمس كل من خيارهم في خير عمله وإحسانه إلى ربه، وقدم يرجو أن يكون هو ذلك الخير الأفضل، قالوا يا رسول الله: من هذا؟عرفناه بصفته وإن لم تنص لنا على اسمه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا الجامع للمكارم الحاوي للفضائل المشتمل على الجميل، ثم بعد ذكر كلام طويل مشتمل على كرامات ومجاهدات وقعت في تلك الليلة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنظر إلى عبد الله بن أبي وإلى سبعة من اليهود، فقال: شاهدت ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت يا علي أفضل شهداء الله في الأرض بعد محمد رسول الله، قال: فذلك قوله: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، ويبصرها رسول الله محمد، و يبصرها خير خلق الله بعده علي بن أبي طالب (66).

وعلى سمعهم: يحتمل أن يكون معطوفا على قلوبهم، ومعطوفا عليه ل? " على أبصارهم ".

ورجح الأول بقوله: " وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة " و بالوقف على سمعهم اتفاقا، ولأنهما لما كان إدراكهما من جميع الجوانب جعل المانع عنه بما يكون كذلك، لظهور أن الغشاء يكون بين المرئي والرائي، و كرر الجار للدلالة على أن الختم يتعلق على كل واحد منهما بالاستقلال، فيكون أشد، ولان تعلق فعل بمجموع أمرين لا يستلزم تعلقه بكل واحد.

وإفراد السمع للأمن من اللبس مع الخفة والتفنن، أو لأنه مصدر وهو لا يجمع، أو على تقدير مضاف أي مواضع سمع، أو لرعاية المناسبة بين المدرك والمدرك، فان مدرك السمع واحد وهو الصوت ومدركاتها أنواع.

وقرئ " وعلى أسماعهم ".

ووجه الترتيب: أنه تعالى لما ذكر هذه الطائفة بالكفر، وثانيا باستواء الانذار عليهم، فالختم على قلوبهم ناظر إلى كفرهم، لان الكفر والايمان من صفات القلب، والختم على سمعهم ناظر إلى ذلك الاستواء لان محل ورود الانذار ليس إلا السمع.

ولما حكم عليهما بالختم، فصار مكان أن يقال: علمنا وقوع الختم عليهما، ألم تكن لهم أبصار يبصرون بها الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، فقال: وعلى أبصارهم غشاوة، ولما لم يكن في نظم الكلام ما ينظر إليه التغشية، غير الأسلوب.

والبصر: قوة أودعت في ملتقى العصبتين المجوفتين النابتين من مقدم الدماغ.

وقد يطلق على العضو.

وكذلك السمع، وهو قوة أودعت في باطن الصماخ.

وغشوة: مرفوع مبتدأ، و " على أبصارهم " خبره عند سيبويه (67)، وفاعل الظرف عند الأخفش (68) لاعتماده على ما قبله، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية.

وقرئ بالنصب على معنى: وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الفعل نفسه إليها.

والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة.

وقرئ بالضم والرفع، وبالفتح والنصب، وغشوة بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة.

وعشاوة بالعين الغير المعجمة من العشا مصدر الأعشى، وهو الذي لا يبصر بالليل.

ولهم عذاب عظيم: وعيد وبيان لما يستحقونه.

والعذاب كالنكال بناء ومعنى، يقال: أعذب عن الشئ ونكل إذا أمسك عنه، ومنه الماء العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، فسمي العذاب عذابا، لأنه يردع الجاني عن المعاودة إلى الجناية، ثم اتسع فأطلق على كل ألم شديد وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.

وقيل: اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب كالتغذية والتمريض، أو من العذبة وهي القذاة، وماء ذو عذب أي كثير القذى، فكما أن القذاة تنقص الماء كذلك العذاب ينقص العيش، أو من أعذب حوضك أي أنزع ما فيه من قذى، فكذلك العذاب نزع من الجاني ما فيه من الجناية، أو من العذوبة لان عذاب كل أحد يستعذبه ضده، فعذاب الكافر مما يستعذبه المؤمنون.

(والعظيم): ضد الحقير، والكبير: ضد الصغير، فالعظيم فوق الكبير، قيل: ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه، ومعنى التنكير في الآية: أن على أبصارهم غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع يعلم كنهه الله تعالى أي في الآخرة.

وقال بعضهم: إن لهم عذابا في الدنيا والآخرة، لان عذابهم الأخروي ليس إلا صور اعتقاداتهم ونتائج أعمالهم من دركات النيران وما فيها من الآلام، كان في الدنيا معاني ; فصار في الآخرة صورا، فهم دائمون فيها لكنهم لا يتألمون بها في الدنيا لكثافتهم.

والذين صاروا في الدنيا أهل الآخرة يرونهم داخلين في النار وما فيها من أنواع العذاب.

قال بعض الصوفية: وإذ قد علمت ما بين لك من المعاني الظاهرة فالق سمعك تسمع بطنا من بطونها، فنقول: إن الذين كفروا أي خرجوا من الايمان الرسمي المنوط بغيبهم عن المؤمن به، ودخلوا في الكفر الحقيقي بستر وجوداتهم في الفناء في الله، إن أنذرتهم بسوء عاقبة ارتدادهم من هذا الكفر إلى ذلك الايمان أم لم تنذرهم، فهما سيان عليهم لأنهم لا يؤمنون، أي لا يرجعون إلى الايمان الرسمي أبدا، لان الفاني لا يرد، وكأنه إلى هذا الايمان والكفر أشار من قال: كفرت بدين الله والكفر واجب * لدي وعند المسلمين قبيح (69) - ختم الله على قلوبهم: فلا يدخل فيها شئ مما سوى الله، وإن دخل فيها شئ فهو صورة من صور تجلياته انخلعت من لباس الغيرية، وختم على أسماعهم فلا يسمعون شيئا مما سواه، فإنه المتكلم على ألسنة الموجودات، فكلما يسمعونه بلسان الحال أو المقال فهو من صور كلامهم لا غير، وعلى أبصارهم غشاوة مانعة من رؤية غيره سبحانه فكلما يرونه ليس إلا من صور تجلياته، تجلى به على نظر شهودهم، ولهم عذاب، أي أمر يعده المحجوبون عذابا، وهو استهلاكهم في الوجود الحق، وإمساكهم عن اللذات العاجلة والراحات الآجلة، عظيم، أي.

﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين ( 8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)﴾

جليل قدره لا يعرفه إلا من ذاقه.

ومن الناس من يقول آمنا: لانشاء الايمان أو للاخبار بوقوعه فيما مضى.

و إفراد الضمير في (يقول) بالنظر إلى اللفظ وجمعه فيما بعد بالنظر إلى المعنى، لأنهم في قولهم آمنا بمنزلة شخص واحد لاتفاقهم عليه من غير اختلاف، وأما إتيانهم بما ينافي الايمان فالتعدد فيه ممكن، بل واقع، فلذلك لو حظ فيه جهة كثرتهم بإيراد ضمير الجماعة.

و (الناس) اشتقاقه من الاناس، حذفت همزته تخفيفا، ومنه إنسان وأناس و إنس.

وحذفها مع لام التعريف واجب، لا يكاد يقال: الاناس.

وهو مأخوذ من الانس بالضم ضد الوحشة، لأنهم مدنيون بالطبع يستأنسون بأمثالهم أشد استئناس.

أو من الانس بالكسر بمعنى الايناس وهو الابصار.

قيل: وهذا أشبه ليناسب المقابل أعني الجن، لأنهم سموا به لاجتنانهم، ويوافق اسمه الآخر أعني البشر، لأنه من البشرة: ظاهر الجلد.

وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والأصل نوس، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنوس الحركة (70).

وقيل: من نسي فقلبت اللام إلى موضع العين فصار نيسا، ثم قلبت الياء ألفا، سموا بذلك لنسيانهم.

فوزنه على الأول: عال، وعلى الثاني: فعل، وعلى الثالث: فلع.

قيل: لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من شئ آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الانسان مشتقا من شئ آخر.

ورد: بأن المقصود من ذلك تقليل اللغات بحسب الوسع، ولا شك، أن الألفاظ المتعددة إذا ردت إلى أصل واحد صارت اللغات أقل.

واللام فيه لتعريف الجنس، أو العهد، إشارة إلى الذين كفروا، أي المصرين على الكفر مطلقا، أو مقيدا بكونهم غير ماحضين، أو جماعة معهودين منهم، فلها أربع احتمالات.

و (من) في من يقول، إما موصولة أو موصوفة، إما لتعريف الجنس، أو العهد، إشارة إلى جماعة معهودين كابن أبي وأضرابه، ففيها ثلاث احتمالات يحصل من ضربها في الأربع احتمالات، إثنا عشر وجها، فعليك بالتأمل حتى يظهر وجهها.

ثم المراد " بالذين كفروا " إن كان ناسا معهودين ماحضين للكفر غير منافقين، أو الجنس المخصوص مما عدا المنافقين، إما بقرينة المقابلة، أو لتبادر الفهم إليه من إطلاق المعرف بلام الجنس، فالمقصود من هذه الآيات استيفاء الأقسام، حيث ذكر أولا المؤمنين ثم الماحضين ثم المنافقين.

وإن كان المراد بهم ما يعم الماحضين والمنافقين، فذكر المنافقين من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لكمال الاهتمام بالنداء على تفاصيل صفاتهم الذمية وأعمالهم الخبيثة، لكونهم أخبث الكفرة وأبغضهم إليه تعالى.

لأنهم خلطوا الايمان بالكفر تمويها وتدليسا، وبالشرك استهزاء وخداعا.

والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس، والمعبر عنه باللفظ والرأي والمذهب مجازا.

وقصة المنافقين معطوفة على قصة الذين كفروا، وليس ذلك من باب عطف جملة على جملة، ليطلب مناسبة الثانية مع السابقة، بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض إلى أخرى مسوقة الآخر، وشرطه المناسبة بين الغرضين، فكلما كانت المناسبة أشد وأمكن، كان العطف بينهما أشد وأحسن.

قال بعض المفسرين (71): هذه الآية مع الاثني عشر الآيات التي بعدها أنزلت في ذم المنافقين الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر لمصالح دعتهم إلى ذلك، ثم قال: ودخل فيهم من كان على صفة النفاق حالة نزول الآية واشتهر به، أو كان ولم يشتهر وظهر بعد ذلك نفاقه وخبثه، أو حدث النفاق بعد ذلك في زمان النبي عليه وآله السلام أو بعد زمانه، فإن كل هؤلاء مصداق هذه الآيات، ثم قال: ولا يتوهم أنه يلزم في الدخول تحت المخاطبات التي ذكرت في الآيات الآتية، فيخرج من لم يتحقق فيه تلك الأقوال، فلا يمكن أن يقال: إن الآيات نزلت فيهم، لان الشرطية لا تقتضي وقوع الطرفين.

أقول: يظهر من كلام ذلك الفاضل أن (إذا) الواقعة في تلك الآيات شرطية، ويرد احتمالها التأمل الصادق في تلك الآيات.

ويحتمل أن يكون المراد منه الخلفاء الثلاثة مع شيعتهم.

يدل على ذلك ما روي عن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أوقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله انسبوني، فقالوا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ثم قال: أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم وأنا مولاكم وأولى بكم منكم بأنفسكم؟قالوا: بلى يا رسول الله، فنظر إلى السماء وقال: اللهم اشهد، يقول ذلك ثلاثا، ويقولون ذلك ثلاثا، ثم قال: ألا من كنت مولاه وأولى به فهذا علي مولاه وأولى به، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.

ثم قال: قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع له، ثم قال: قم يا عمر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع.

ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة، ثم لرؤساء المهاجرين والأنصار فبايعوه كلهم، فقام بين جماعتهم عمر بن الخطاب فقال: بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن ومؤمنة.

ثم قال تفرقوا عن ذلك وقد أكدت عليهم العهود والمواثيق، ثم إن قوما من متمرديهم وجبابرتهم وطؤوا بينهم، لئن كانت لمحمد كائنة لندفعن هذا الامر عن علي ولا نتركه له، فعرف الله تعالى من قلوبهم وكانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون: لقد أقمت عليا أحب الخلق إلى الله و إليك وإلينا فكفيتنا به مؤونة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا، وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الامر عن مستحقه مؤثرون فأخبر الله عز وجل محمدا عنهم، فقال: يا محمد، ومن الناس من يقول آمنا بالله الذي أمرك بنصب علي إماما وسائسا ولامتك مدبرا، وما هم بمؤمنين بذلك ولكنهم يتواطؤون على هلاكك وهلاكه، ويوطؤون أنفسهم على التمرد على علي إن كانت بك كائنة (72).

بالله وباليوم الاخر: أي بالمبدأ والمعاد الذين هما المقصود الأعظم من الايمان، ولهذا اختصا بالذكر.

والمراد باليوم الذي هو اسم لبياض النهار، زمان ممتد من وقت الحشر إلى الأبد وإلى زمان استقرار كل في مستقره من الجنة والنار، وهذا أشبه باليوم الحقيقي في تحقق الحد من الطرفين.

وأما كونه آخرا، فلتأخر هذين الزمانين عن الأيام الدنيوية المنقضية.

وقيل في الثاني: لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا وقت بعده.

ورد بأنه لا شك أن في كل من الجنة والنار أحوالا وحوادث كلية يمكن تحديد الأوقات بها، وقد شهدت الكلمات النبوية بوجودها (73).

اللهم إلا أن يقال: المنفي هو الحد المشهور غاية الاشتهار.

وفي تكرير الباء، ادعاء الايمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام.

وما هم بمؤمنين: نفي لما ادعوا، والأصل يقتضي أن يقول: وما آمنوا، ليطابق قولهم، لكنه قدم المسند إليه وجعل المسند صفة فصارت الجملة اسمية غير دالة على ذات زمان، لان في ذلك سلوكا لطريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في سلك المؤمنين وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم دل على انتفاء الملزوم، ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء.

وأيضا فيه مبالغة في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضا، وأطلق الايمان لزيادة التأكيد، على معنى أنهم ليسوا من الايمان في شئ، أو أراد وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، بقرينة ما أجيب به عنه.

ولما اعتبر التأكيد والاستمرار بعد ورود النفي لم يفد إلا تأكيد النفي.

واستدل من ذهب إلى أن الايمان ليس هو الاقرار فقط بالآية.

وأقول: الآية تدل على أن من ادعى الايمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا، ولا تدل على أن من تكلم بالشهادتين بدون الاعتقاد لم يكن مؤمنا، وهو المتنازع فيه.

وقوله: " وما هم بمؤمنين " جملة متعلق خبره محذوف، والتقدير وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر أو بشئ من الأشياء.

فعلى الأول: وجهه ظاهر (74).

وعلى الثاني: توجيهه أن نفي الايمان منهم مطلقا مع أن منافقي أهل الكتاب كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، بناء على إيمانهم كلا إيمانهم، لاعتقاد التشبيه، و اتخاذ الولد، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسسهم إلا أياما معدودة.

فلو قالوا ما قالوه لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم هذه، لم يكن إيمانا، كيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم.

فظهر من ذلك أن إطلاق رفع الايجاب الكلي والسلب الكلي في هذه الحملية مسامحة ارتكبها العلامة السبزواري.

حيث قال في توجيه التقدير الثاني: إن قولهم: هذا كناية عن تصديقهم بجميع الشرائع، فإذا لم يؤمنوا ببعض صدق رفع الايجاب الكلي، مع أنه يمكن أن يقال: عدم الايمان بالبعض كاشف عن عدم الايمان بالكل فيصح السلب الكلي، على أنه يرد احتمال أن لا يكون قولهم هذا كناية عن الايمان بالجميع، وأيضا لو قدر المتعلق خاصا بقرينة سابقة كان رفعا للايجاب الكلي، فلا حاجة حينئذ إلى تقدير عمومه، فليتأمل.

وأقول: يحتمل أن يكون قوله: " بمؤمنين " غير متعد إلى شئ أصلا، والمعنى ليس لهم وجد حقيقة الايمان.

يخدعون الله والذين آمنوا: الخدع أن توهم صاحبك خلاف ما تريد به من المكروه وتصيبه به مع خوف واستحياء من المخادعة به.

وقيل: للإصابة، لان مجرد الإرادة لا يكفي في تحقق الخدع، وقوله: " مع خوف أو استحياء " ليخرج الاستدراج الذي هو من أفعال الله تعالى، لعدم جواز الخوف أو الحياء عليه سبحانه.

وهو من قولهم: ضب خادع، أو خدع، إذا أحس بالحارش (75) أي الصائد على باب جحره أوهمه إقباله عليه من هذا الباب، ثم خرج من باب آخر، وأصله الاخفاء، ومنه المخدع، على صيغة المفعول، للخزانة.

والأخدعان لعرقين خفيين في العنق.

وصيغة المخادعة تقتضي صدور الفعل من كل واحد من الجانبين متعلقا بالآخر، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره، لأنه لا يخفى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته، بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث أنه خليفته، كما قال تعالى: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " (76) " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " (77).

ويدل على ذلك ما روي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام): لما اتصل ذلك من مواطأتهم وقبلهم في علي وسوء تدبيرهم عليه برسول الله (صلى الله عليه وآله)، دعاهم وعاتبهم فاجتهدوا في الايمان، فقال أولهم: يا رسول الله، والله ما اعتددت بشئ كاعتدادي بهذه البيعة، ولقد رجوت أن يفسح الله بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزال والسكان.

وقال ثانيهم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة، والله ما يسرني أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت، ولو أن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلي رطبة وجواهر فاخرة.

وقال ثالثهم: والله يا رسول الله، لقد صرت من الفرح بهذه البيعة والسرور والفسح من الآمال في رضوان الله، وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلها علي لمحضت عني بهذه البيعة، وحلف على ما قال من ذلك، ولعن من بلغ عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلاف ما حلف عليه، ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين، قال الله عز وجل لمحمد: يخادعون الله، يعني يخادعون رسول الله بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم، والذين آمنوا كذلك أيضا، الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) (78) ويحتمل أن يقال: المقصود أن بينهما حالة شبيهة بالمخادعة، لا حقيقة المخادعة.

فإن صورة صنعهم مع الله من إظهار الايمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار استدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الاسلام عليهم صورة صنع المخادعين، فشبهت تلك الصورة بهذه الصورة، فاستعمال لفظ هذه فيها إن وقع كان استعارة تصريحية، واشتقاق يخادعون منه استعارة تبعية.

أو يقال: المخادعة محمولة على حقيقتها، لكنها ترجمة عن معتقدهم الباطل وظنهم الفاسد، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون، وأنه يخدعهم، وكذلك المؤمنون يخدعونهم.

أو يقال: المراد يخدعون الذين آمنوا، وذكر الله ليس لتعليق الخدع به، بل لمجرد التوطئة، وفائدتها التنبيه على قوة اختصاص المؤمنين بالله وقربهم منه، حتى كان الفعل المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا.

وكذا الحال في أعجبني زيد وكرمه، فإن ذكر زيد توطئة وتنبيه على أن الكرم قد شاع فيه وتمكن بحيث يصح أن يسند إليه أيضا الاعجاب الذي في كرمه، ومثل هذا العطف يسمى جاريا مجرى التفسير.

ووجه العدول عن خدع إلى خادع، قصد المبالغة، لان المفاعلة في الأصل المغالبة، وهي أن يفعل كل من الجانبين مثل صاحبه ليغلبه، وحينئذ يقوى الداعي إلى الفعل ويجيئ أبلغ وأحكم.

و (يخادعون) بدل أو بيان ل? (يقول) لأنه وإن كان واضحا في نفسه، ففيه خفاء بالنسبة إلى الغرض، ولما كان خفاؤه باعتبار الغرض منه، اكتفى في بيانه بذكره، وهو الخداع.

ويجوز أن يكون مستأنفا، كأنه قيل: ولم يدعون الايمان كاذبين؟فقيل: يخادعون.

وكأن غرضهم من المخادعة إما دفع المضرة عن أنفسهم كالقتل والأسر، أو جذب المنفعة كأخذ الغنائم، أو إيصال المضرة إلى المؤمنين كإفشاء أسرارهم إلى أعدائهم من الكفار.

أقول: ويحتمل أن يكون معنى يخادعون، يريدون أن يخدعوا، إما لدلالة جوهر الصيغة عليه، وإما باعتبار أن الافعال التي من شأنها أن تصدر بالإرادة والاختيار إذا نسبت إلى ذوي الاختيار فهم إرادتها.

وما يخدعون إلا أنفسهم: قراءة نافع (79) وابن كثير (80) وأبي عمرو (81).

والمعنى أن دائرة المخادعة التي سبقت، وهي المخادعة المستعارة للمعاملة الجارية بينهم وبين الله والمؤمنين المشبهة بمعاملة المخادعين، أو المخادعة المحمولة على حقيقتها لكن في ظنهم الفاسد، أو المخادعة الواقعة بينهم وبين الرسول، أو بينهم وبين المؤمنين، راجعة إليهم وضررها يحيق بهم لا يعدوهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك، وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة، وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية.

فعلى الأول: تكون العبارة الدالة على قصة المخادعة مجازا، أو كناية عن انحصار ضررها فيهم.

ويحتمل أن يجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الأولى أو الثانية.

وعلى الثاني: تكون المخادعة مستعملة في معناها حقيقة.

وقرأ الباقون (وما يخدعون) قيل: لان المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين.

أقول: نعم، لكن الاثنين أعم من أن يكون اثنين حقيقة أو اعتبارا، اللهم إلا أن يقال: الاثنينية الحقيقية مشروطة بحسن المخادعة.

وقرئ (يخدعون) من خدع.

ويخدعون بفتح الياء، والأصل يختدعون، بمعنى يخدعون، كيقتدرون بمعنى يقدرون، فأدغم.

ويخدعون ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله، وحينئذ يكون (إلا أنفسهم) معناه إلا أنفسهم على حذف حرف الجر، يقال: خدعت زيدا نفسه، أي عن نفسه، نحو " واختار موسى قومه " (82).

ويحتمل النصب على التمييز عند من يجوز كونه معرفة، واستعمال الخدع بناء على تضمينه معنى الصدور، أي ما يخدعون إلا خدعا صادرا عن أنفسهم منشئ عنهما.

والنفس: الذات.

ويقال للقلب بمعنى العضو الصنوبري: نفس، لان قوام النفس بمعنى الذات، بذلك.

ولهذا المعنى أيضا يقال للروح الدم: نفس، وللماء لفرط حاجتها إليه.

وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه، أي يشاورها، لأنه ينبعث عنها، تسمية للمسبب باسم السبب، أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه، فيكون استعارة مبنية على التشبيه.

والمراد بالأنفس هنا ذواتهم.

ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم.

قيل: إن المختار عند المحققين من الفلاسفة وأهل الاسلام من الصوفية وغيرهم، أنها أي النفس - جوهر مجرد في ذاته، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف.

و متعلقه أولا هو الروح الحيواني القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه، ويفيد قوة لها تسري في جميع البدن فيفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه.

وقد يطلق على هذا الجوهر المجرد القلب والروح أيضا.

فعلى هذا يمكن أن يراد بالأنفس، النفوس المتعلقة بأبدانهم على سبيل الحقيقة، بأن يكون موضوعا لهذا الجوهر المجرد، كما للذات.

وعلى تقدير وضعه للذات فقط.

إطلاقه عليه إما بالحقيقة أو المجاز، فإن الذات لو كانت عبارة من مجموع الجثة والروح المجرد، فإطلاق النفس عليها من إطلاق اسم الكل على الجزء.

وإن كانت عبارة عن الجثة فقط، فإطلاقه عليها لعلاقة واقعة بينهما.

وإن كانت عبارة عن الروح المجرد فقط، وهو الظاهر، فإن الذات في الحقيقة ما يعبر عنه بلفظ (أنا) وهو الباقي من أول العمر إلى آخره، وما عداه كالعوارض بالنسبة إليه، ولا شك أن هذا الامر هو الروح المجرد، لا الجثة فإنها كل يوم تبدل.

فعلى هذا إطلاق النفس بمعنى الذات عليه، حقيقة، وفيما عداه مجاز.

وإذا أريد ب? " أنفسهم " النفوس الناطقة المتعلقة بأبدانهم، أو القلوب، أو الأرواح بمعناه، فلا شك أن ضرر المخادعة الواقعة بينهم وبين الله والمؤمنين، راجع إليها، مقصور عليها، لكن قصرا إضافيا، فإن ذلك الضرر يعود إلى جثتهم وقلوبهم الصنوبرية وأرواحهم الحيوانية أيضا، فإن عذابهم لا يكون روحانيا فقط.

وما يشعرون: معطوف على قوله: " وما يخدعون " أو على قوله " يخادعون ".

وقيل: معترضة من الشعور، وهو إدراك الشئ بالحاسة، مشتق من الشعار، وهو ثوب على شعر الجسد، ومنه مشاعر الانسان، أي حواسه الخمس التي يشعر بها، لأنها متلبسة بجسده كالشعار.

أو من الشعر وهو إدراك الشئ من وجه يدق و يخفى.

والأول أبلغ وأنسب بالمقام، لان فيه إشعارا بانحطاطهم عن مرتبة البهائم حيث لا يدركون أجلى المعلومات، أعني المحسوسات التي تدركها البهائم، ولذلك اختاره على ما يعلمون.

ومفعوله محذوف، فإما أن يقدر العلم به، والمعنى وما يشعرون أن وبال خداعهم راجع إلى أنفسهم، أو اطلاع الله عليهم.

أو ينزل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول، وحينئذ إما أن لا يجعل كناية عنه متعلقا بمفعول خاص، أو بجعل، والثاني أبلغ، والثالث أبلغ منه.

في قلوبهم مرض: جملة مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق.

ويحتمل أن تكون مقررة لعدم شعورهم.

وقرئ " مرض " بسكون الراء، وهو صفة توجب الخلل في الافعال الصادرة من موضع تلك الصفة، ويمكن اتصاف القلب به.

وذلك لان الانسان إذا صار مبتليا بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك صار سببا لتغيير مزاج القلب وتألمه، واتصاف قلوب المنافقين بهذا التفسير غير معلوم، فالمراد به هنا المعنى المجازي هو آفته كسوء الاعتقاد والكفر، أو هيئة باعثة على ارتكاب الرذائل كالغل والحسد والبغض، أو مانعة عن اكتساب الفضائل كالضعف والجبن والخور (83)، لان قلوبهم كانت متصفة بهذه الاعراض كلها.

وفي تقديم الخبر فائدتان، تخصيص المبتدأ النكرة، وإفادة الحصر ادعاء.

فزادهم الله مرضا: معطوف على الجملة السابقة، والمعنى أنه لما كان في قلوبهم مرض واستعداد للمرض، فزيد مرضهم.

والمراد بالزيادة الختم على قلوبهم حتى لا يخرج شئ من هذه النقائص، ولا يدخل شئ مما لها من الفضائل، بل وإنما أتى بالجملة الفعلية في المعطوف دون المعطوف عليه لتجدد ذلك الزائد يوما فيوما، بخلاف أصل المرض، فإنه كان ثابتا مستقرا في قلوبهم.

ويمكن أن يراد بالزيادة زيادته بحسب زيادة التكاليف وتكرير الوحي و تضاعف النصر، فحينئذ يكون إسناد الزيادة إلى الله من حيث أنه مسبب من فعله أو دعائية، والمتعين حينئذ هو المعنى الأول.

والزيادة يجئ لازما ومتعديا إلى مفعولين كما في الآية أيضا، فحينئذ يكون مفعوله الثاني مرضا، أو محذوفا، أي فزادهم الله مرضهم، وقيل: الأول محذوف، وهو تكلف.

ولهم عذاب أليم: قال البيضاوي: (84) أي مؤلم، يقال: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة، كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع (85).

ورد بأن فعيل بمعنى مفعل اسم فاعل غير ثابت، على ما سيجئ في قوله: " بديع السماوات والأرض " (86) فهو بمعنى المؤلم اسم مفعول، كوجع فهو وجيع بمعنى الموجع.

وإنما أسند إلى العذاب لأنه من ملابسات فاعله الذي هو المعذب، كما أسند الربح إلى التجارة في قوله تعالى: " فما ربحت تجارتهم " (87) لأنها من ملابسات التاجر.

وفيه مبالغة وتنبيه على أن الألم بلغ الغاية، بحيث عرض لصفة المعذب كما عرض له، وعلى هذا يكون المجاز في الاسناد.

ولو جعل بمعنى ما يلابسه الألم، لأنهما متلاقيان في موصوف واحد، فيكون المجاز في المفرد، لكن تفوت المبالغة.

ووجه أنه تعالى قال في حق المصرين على الكفر: " ولهم عذاب عظيم " ولم يذكر له سببا، وفي حق المنافقين " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وبين أن سببه الكذب - إن الكافرين المصرين هم المطرودون، فينبغي أن يكون عذابهم عظيما، لكنهم لا يجدون شدة ألمه، لعدم صفاء قلوبهم، كحال العضو الميت أو المفلوج إذا وقع عليه القطع.

والمنافقون لثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم في الجملة، يجدون شدة الألم، فيكون عذابهم مؤلما مسببا من الكذب و لواحقه بخلاف عذاب المصرين، فإنه ذاتي لهم لا لأمر عارض.

وفي تقديم الخبر ها هنا أيضا فائدتان: زيادة تخصيص المبتدأ النكرة، وإفادة الحصر ادعاء.

بما كانوا يكذبون: قراءة عاصم وحمزة والكسائي (88).

والكذب: الاخبار عن الشئ بغير ما هو عليه.

وقرئ: يكذبون، من كذبه، نقيض صدقه، أو من كذب الذي هو للمبالغة والتكثير، أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا ووقف لينظر ما وراءه، فإن المنافق متحير متردد.

" والباء " للسببية أو البدلية متعلقة بالظرف في قوله: " لهم عذاب أليم "، و " ما " مصدرية، ويحتمل الموصولية والموصوفية.

واستدل الذاهبون إلى قبح الكذب مطلقا بالآية، بأنه جعل عذابهم الأليم مسببا لكذبهم.

وتخصيصه بالذكر من بين جهات استحقاقهم إياه، مع كثرتها، مبالغة في قبح الكذب لينزجر السامعون منه.

وقيل: نمنع قبحه مطلقا، فإنه قد يمكن أن يتضمن عصمة دم مسلم، بل نبي، ولا يتيسر التعريض، فيحسن.

ورد بأن الحسن العارضي لا يمنع القبح الذاتي، وهو المراد بالقبح ها هنا، فعلى هذا يحرم الكذب سواء تعلق به غرض أو لم يتعلق.

أما إذا لم يتعلق فظاهر.

وأما إذا تعلق فلان في المعاريض لمندوحة عنه، والتعريض: ليس بكذب إذا كان المعرض به مطابقا للواقع، فإن مرجع الصدق والكذب إلى المراد من الكلام الخبري، لا إلى مطلق مدلوله.

وما ينسب إلى إبراهيم (عليه السلام) من الكذبات الثلاث: من قوله: " إني سقيم " (89) وأراد سأسقم، وقد علمه بأمارة من النجوم، أو إني سقيم الآن بسبب غيظي وحنقي من اتخاذكم الآلهة.

وقوله: " بل فعله كبيرهم " (90) والمراد به: أنه إذا لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه وغيره فكيف يصلح إلها، أو أن تعظيمه كان هو الحامل له على كسرها.

وقوله لملك الشام: إن سارة أختي، ومراده الاخوة في الدين.

وقيل: كذباته الثلاث، قوله في الكواكب: " هذا ربي " (91) ثلاث مرات، وقصد به الحكاية، أو الفرض ليرشدهم إلى عدم صلاحيتها للألوهية.

فمحمول على التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به.

ووجه إيراد كان " الدالة " على المضي، ويقولون: " ويخادعون ويخدعون " للحال، ووقوع كلام المنافقين قبلها، ليس بمعلوم أن كذبهم سبب لثبوت العذاب لهم في الاستقبال، أو للحكم به في الحال، فينبغي أن يكون متقدما على ما هو سبب له، فالمراد بالمضي هذا التقدم سواء كان بالزمان أو بالذات.

قال بعض الفضلاء: وإذ قد أوقعتنا المباحث اللفظية في وادي التفرقة، فلابد أن نستريح باستشمام روائح الجمعية.

فنقول: ومن الناس الناسي اعترافهم في معهد ألست بربكم بربوبية ربهم بتجليه العلمي أولا بصور أعيانهم الثابتة على نفسه، وتجليه الوجودي ثانيا بصور أعيانهم الخارجية، وترتيبه إياهم طورا بعد طور، ومرتبة بعد مرتبة إلى أن وصلوا إلى هذه النشأة الجسمانية العنصرية من يقولون بألسنة أفواههم: آمنا بالله أحدية جمع الأسماء الإلهية السارية بالكل في الكل، فلا فاعل، بل لا موجود في الوجود إلا هو، فهو الفاعل في كل عين، إذ لا فعل للعين، بل الفعل له ولكن فيها، وباليوم الآخر، أي بتجليه النوري الوجودي آخرا بالاسم المجازي لجزاء الأعمال، فلا مجازي إلا هو فهو العامل، وهو المجازي على العمل، فهم وإن كانوا مؤمنين بالقول صورة، فما هم بمؤمنين بالحال حقيقة، إذ حقيقة الايمان بالله سبحانه تقتضي أن لا تسند الآثار إلا إليه، بل لا يرى في الوجود إلا هو، فحيث قالوا آمنا وما قالوا تجلى الحق في صورة منوطة باسمه المؤمن، اشتقوا الايمان لأنفسهم، وهذا شركة في التوحيد، " يخادعون الله " أي يظهرون بألسنة أقوالهم الظاهرة ما لم يتحققوا به في بواطنهم وهو الايمان بالله، فلا يوافق ظاهرهم باطنهم.

وكذلك يخادعون الذين آمنوا، أي الذين تجلى عليهم بالاسم المؤمن، فسرى هذا التجلي في ظاهرهم وباطنهم، فآمنوا صورة وحقيقة.

" وما يخدعون إلا أنفسهم " إذ الأشياء في الحقيقة الوحدة الجمعية الإلهية متحدة بعضها مع بعض، ومع تلك الحقيقة أيضا، فكل شئ نفس الأشياء الاخر، ونفس تلك الحقيقة أيضا من هذه الحيثية، ولكنهم ما يشعرون بذلك الاتحاد، لاغتشاء مشاعرهم بصورة التعينات الحجابية، والتعددات المظهرية.

في قلوبهم التي من صفتها صحة التقلب مع الشؤون الإلهية بحيث لا يحجبها شأن من شهوده تعالى، مرض يضاد هذه الصحة ويمنعها عن الظهور، فزادهم الله مرضا، على مرض بازدياد أضداد تلك الصحة وتتابعها، ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم في قولهم: آمنا، وتكذيبهم إياه بحسب حالهم.

والغرض من نقل أمثال هذه المباحث الاطلاع على الآراء الكاسدة والأهواء المضلة، فإن الحق يعرف بضده.

وقد جاء في هذه الآية منقبة عظيمة وفضيلة جسيمة لمولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)، قال: قال موسى بن جعفر (عليهما السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما اعتذر إليه هؤلاء المنافقون بما اعتذروا، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم وأوكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبرئيل أتاه فقال: إن العلي الاعلى يقرأ عليك السلام ويقول: أخرج هؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في علي ونكثهم لبيعته، وتوطينهم نفوسهم على مخالفته ما اتصل، حتى يظهر من عجائب ما أكرمه الله به من طاعة الأرض والجبال والسماء له وسائر ما خلق الله لما أوقفه موقفك وأقامه مقامك، ليعلموا أن ولي الله علي غني عنهم، وأنه لا يكف عنهم انتقامه إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الذي هو بالغه، والحكمة التي هو عامل بها وممض لما يوجبها.

فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجماعة بالخروج، ثم قال لعلي لما استقر عند سفح بعض جبال المدينة: يا علي، إن الله عزو جل أمر هؤلاء بنصرتك و مساعدتك والمواظبة على خدمتك والجد في طاعتك، فإن أطاعوك فهو خير لهم يصيرون في جنان الله ملوكا خالدين ناعمين، وإن خالفوك فهو شر لهم يصيرون في جهنم خالدين معذبين.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتلك الجماعة: اعلموا أنكم إن أطعتم عليا سعدتم، وإن خالفتموه شقيتم وأغناه الله عنكم بمن سيريكموه.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، سل ربك بجاه محمد وآله الطيبين الذي أنت بعد محمد سيدهم، أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت، فسأل ربه فانقلبت الجبال فضة، ونادته الجبال يا علي يا وصي رسول رب العالمين، إن الله قد أعدنا لك، فإن أردت إنفاقنا في أمرك فمتى دعوتنا أجبناك لتمضي فينا حكمك، وأنفذ فينا قضاءك.

ثم انقلبت ذهبا كلها، فقالت مثل مقالة الفضة، ثم انقلبت مسكا وعنبرا وجواهر ويواقيت، وكل شئ ينقلب منها يناديه: يا أبا الحسن يا أخا رسول الله، نحن المسخرات لك ادعنا متى شئت لتنفقنا فيما شئت نجبك ونتحول لك إلى ما شئت.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي سل الله بمحمد وآله الطيبين الذين أنت سيدهم، أن يقلب لك أشجارها رجالا شاكين الأسلحة، وصخورها اسودا ونمورا وأفاعي، فدعا الله علي (عليه السلام) بذلك، فامتلأت الجبال والهضبات وقرار الأرض من الرجال الشاكين الأسلحة الذين لا يفي الواحد منهم عشرة آلاف من الناس المعدودين، ومن الأسود والنمور والأفاعي، وكل ينادي يا علي يا وصي رسول الله، ها نحن قد سخرنا الله لك وأمرنا بإجابتك كلما دعوتنا إلى اصطلام كل من سلطتنا عليه، فسمنا ما شئت، وادعنا نجبك، وأمرنا نطعك، يا علي يا وصي رسول الله، إن لك عند الله من الشأن إن سألت الله أن يصير لك.


1- سورة البقرة: الآية 281.

2- العرب تسمي ما لم تصبه الشمس من النبات كله، الغيبان بتخفيف الياء، والغيابة كالغيبان، لسان العرب: ج 1، ص 655، في لغة (غيب).

3- ثواب الأعمال: ص 130، وفيه: جاءتا يوم... مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين. وفي بعض النسخ (العبايتين).

4- ثواب الأعمال: ص 130.

5- مجمع البيان: ج 1، ص 32 وفيه " آي البقرة ".

6- تفسير الكشاف: ج 1، ص 19، وفيه: " كما ترى الا في الألف ".

7- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول: ج 4، ص 6.

8- معاني الأخبار: ص 23، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ح 3، والظاهر أن الحديث نقل ملخصا.

9- معاني الأخبار: باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 22، ح 1، وفيه: أنا الله الملك.

10- مجمع البيان: ج 1، ص 32، قال: وعنه أيضا أن (ألم) الألف منه تدل على اسم الله، واللام تدل على جبرائيل، والميم تدل على اسم محمد (صلى الله عليه وآله).

11- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 22، والحديث طويل.

12- معاني الأخبار: باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 23، ح 2، والحديث عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ولفظ الحديث قال: ألم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله) والامام، فإذا دعا به أجيب.

13- في هامش بعض النسخ: القائل مولانا محمد مؤمن السبزواري في تفسيره، منه (قدس سره).

14- الوسائل: ج 18، كتاب القضاء، باب 12، من أبواب صفات القاضي، ص 122، ح 38، نقلا عن الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره الصغير، وص 127، ح 56، نقلا عن الشهيد في الذكرى، ومسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 153، والحاكم في المستدرك: ج 2، ص 13، كتاب البيوع، وتمامه (فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة) وفي عوالي اللئالي: ج 1، ص 394، و ج 3، ص 330.

15- سورة النساء: الآية 82.

16- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 22.

17- سورة الصافات: الآية 47.

18- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 19.

19- سورة الشعراء: الآية 50.

20- التفسير الكبير: ج 1، ص 19.

21- سورة البقرة: الآية 16.

22- لم نعثر على حديث بهذه الألفاظ، ومما يناسبه ويماثله ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكتاب علي (عليه السلام) لا شك فيه. لاحظ تفسير القمي: ج 1، ص 30.

23- سورة الفتح: الآية 26.

24- سورة آل عمران: الآية 102.

25- سورة الحج: الآية 1.

26- سورة المدثر: الآية 56.

27- التوحيد: باب 1، ثواب الموحدين والعارفين، ص 19، ح 6.

28- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 24.

29- رواه جل أئمة الحديث بعبائر مختلفة وأسانيد متعددة، ونحن ننقل بعض أحاديثه مبسوطا من جامع الأصول لابن الأثير، ففيها إشارة إلى الأحاديث الاخر. يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت وحميد بن عبد الرحمن الحميري - حاجين أو معتمرين - فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه داخل المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتفقرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الامر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم: أني برئ منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه (وآله) وسلم) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد، أخبرني عن الاسلام؟فقال رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم): الاسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الايمان؟قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الاحسان؟قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها؟قال: أن تلد الأمة رتبها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبث مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم. جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، الفصل الأول من الباب الأول من الكتاب الأول، في الايمان والاسلام ص 128.

30- سورة البقرة: الآية 14.

31- عوالي اللئالي: ج 4، ص 102، ح 149، وفي الجواهر السنية في الأحاديث القدسية: ص 116.

32- سورة آل عمران: الآية 167.

33- كمال الدين وتمام النعمة: باب 33 ما روي عن الصادق (عليه السلام) من النص على القائم (عليه السلام) ص 340، ح 19.

34- كمال الدين وتمام النعمة: باب 33، ما روي عن الصادق (عليه السلام) من النص على القائم (عليه السلام)، ص 340، ح 20.

35- لسان العرب: ج 14، ص 465، قال أهل اللغة في الصلاة: انها من الصلوين، وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها وأول موصل الفخذين من الانسان، فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العصعص.

36- سورة يونس: الآية 59.

37- البحار: كتاب العدل والمعاد، ج 5، باب 5، الأرزاق والأسعار، ص 150، ذيل حديث 13، ولفظ الحديث: عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ جاء عمر بن قرة فقال: يا رسول الله، إن لله كتب علي الشقوة فلا أراني ارزق إلا من دفي بكفي، فأذن في الغناء من غير فاحشة. فقال (صلى الله عليه وآله): لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، أي عدو الله، لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا. ورواه الامام الفخر الرازي في التفسير الكبير: ج 2، ص 30، قال: " وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله إذ جاءه عمرو بن قرة " إلى آخره.

38- سورة هود: الآية 6.

39- البرهان: ج 1، ص 53، ح 2، والرواية: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: " ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه " قال: " كتاب علي لا ريب فيه هدى للمتقين، قال: المتقون شيعتنا.. الخ ".

40- البرهان: ج 1، ص 53، ح 5، والرواية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: " الذين يؤمنون بالغيب " قال: " والغيب فهو الحجة الغائب.. الخ ". وتفسير القمي: ج 1، ص 30، والرواية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: " الذين يؤمنون بالغيب " قال: " يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد.. الخ ".

41- البرهان: ج 1، ص 53، ح 1.

42- جامع الشواهد: ص 57، باب الألف بعده اللام. لم سم قائله، الجار والمجرور متعلق بالمحذوف، أي أسوق مطيتي، والملك ككتف: السلطان المقتدر، والقرم بالقاف والراء المهملة كفلس: السيد، والهمام كغراب: السيد الشجاع السخي، والليث بالياء والمثلثة كفلس: الأسد، والكتيبة بالمثناة والياء والموحدة كسفينة: الجيش، والمزدحم: اسم مفعول من الازدحام وهو بالزاء المعجمة والدال والهاء المهملتين: الجمعية.

43- هو من أبيات لابن زيابة، واسمه مسلمة بن زهل، وزيابة أمه، وكان الحارث قد أغار على قوم الشاعر ولم يكن حاضرا، فهو يتأسف من عدم ملاقاته، وقبله: أنا ابن زيابة إن تدعني * آتك والظن على لكاذب - وبعده: والله لو لاقيته وحده * لآب سيفانا مع الغالب - يعني أتأسف للحارث الذي صبح قومي بالغارة فغنم فرجع صحيحا بأن لا أكون أصادفه فأقتله، جامع الشواهد: ص 374، باب الياء بعده الألف.

44- سورة الأحقاف: الآية 30.

45- عوالي اللئالي: ج 4، ص 121، ح 200، ولاحظ أيضا ما علقنا عليه.

46- الكشاف: ج 1، ص 42.

47- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 32.

48- سورة القصص: الآية 83.

49- سورة العنكبوت: الآية 20.

50- الشعر لجرير على ما في الحواشي، وقيل: لأبي حية النميري، ومؤسى وجعدة ابناه، وقوله: لحب الخ يروى بفتح الحاء وضمها، وأصله حبب على وزن شرف، والمؤقدان أراد أيقاد نار القرى فإنه المتبادر في استعمالات العرب خصوصا في مقام المدح، نقلا عن حاشية الكشاف للسيد شريف الجرجاني.

51- سورة آل عمران: الآية 158.

52- مجمع الأمثال: ج 1، ص 11، وفيه: الفلح: الشق، ومنه الفلاح للحراث لأنه يشق الأرض: أي يستعان في الامر الشديد بما يشاكله ويقاويه. وفي لسان العرب: ج 2، ص 548، في لغة (فلح)، الفلح الشق والقطع، فلح الشئ يفلحه فلحا: شقه، قال: قد علمت خيلك أني الصحيح * إن الحديد بالحديد يفلح.

53- هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي، كان من كبار أئمة العربية والبيان. صنف كتبا عديدة منها: إعجاز القرآن الكبير، والصغير، والجمل، ودلائل الاعجاز، وغيرها، توفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة. بغية الوعاة: ص 310.

54- راجع دلائل الاعجاز في المعاني والبيان: ص 141 وما بعدها.

55- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 33، ذيل قوله تعالى: " أولئك على هدى من ربهم ".

56- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 33، في ذيل قوله تعالى: " ان الذين كفروا ".

57- سورة الانفطار: الآية 13 و 14.

58- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 36.

59- هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، و يسمى فيلسوف العرب، له كتب في علوم مختلفة. توفي سنة 246 ه?. الكنى والألقاب: ج 1، ص 153.

60- هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد البصري، اللغوي - الفاضل الامامي، صاحب كتاب الكامل، والروضة، ومعالي القرآن، وكتب أخرى نافعة، توفي سنة 285 ه? ببغداد. الكنى والألقاب: ج 3، ص 110.

61- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 36.

62- العيار من الرجال: الذي يخلي نفسه وهواها، لا يردعها ولا يزجرها. المعجم الوسيط (معجم اللغة العربية بالقاهرة) ج 2، ص 639.

63- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 33، في ذيل قوله تعالى: (إن الذين كفروا).

64- سورة الأعراف: الآية 193.

65- هو المولى خليل بن الغازي القزويني المولود سنة 1001 ه?، والمتوفى سنة 1089 ه?. انظر الذريعة: ج 6، ص 148.

66- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 36 - 41 في ذيل قوله تعالى: " ختم الله على قلوبهم ".

67- تفسير أبي السعود: ج 1، ص 38.

68- تفسير أبي السعود: ج 1، ص 38.

69- لم نعرف قائله.

70- تفسير القرآن الكريم، للشهيد مصطفى الخميني: ج 3، ص 12.

71- وهو مولانا محمد مؤمن السبزواري، منه (قدس سره) كذا في هامش النسخ التي عندنا.

72- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 41، في ذيل قوله تعالى: " ومن الناس من يقول آمنا ".

73- مسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 70، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخر من يخرج من النار رجلان، يقول الله لأحدهما: يا بن آدم ما أعددت لهذا اليوم؟الحديث.

74- في هامش بعض النسخ ما لفظه (لان المراد بهم حينئذ من يقول: آمنا بالله واليوم الآخر ولم يؤمن بهما بقرينة إخباره تعالى عنهم بذلك، وأما على التقدير الثاني، فلشموله ذلك وغيرهم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فقط، فنفي الايمان عنهم رأسا يحتاج إلى التوجيه، منه).

75- وخدع الضب يخدع خدعا: استروح ريح الانسان فدخل في جحره لئلا يحترش. ومعنى الحرش أن يمسح الرجل على فم جحر الضب يتسمع الصوت فربما أقبل وهو يرى أن ذلك حية، وربما أروح لا ريح الانسان فخدع في جحره ولم يخرج، لسان العرب: ج 8، ص 65، في لغة (خدع).

76- سورة النساء: الآية 80.

77- سورة الفتح: الآية 10.

78- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 42، ذيل قوله تعالى: " يخادعون الله والذين آمنوا ".

79- مجمع البيان: ج 1، ص 46.

80- مجمع البيان: ج 1، ص 46.

81- مجمع البيان: ج 1، ص 46.

82- سورة الأعراف: الآية 155.

83- خار يخور: ضعف. المصباح المنير: ص 183.

84- هو القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد الفارسي الأشعري الشافعي، المفسر المتكلم الأصولي، صاحب التفسير المسمى بأنوار التنزيل. توفى بتبريز سنة 685 هجرية. الكنى والألقاب: ج 2، ص 100.

85- تفسير البيضاوي: ج 1، ص 24.

86- سورة البقرة: الآية 117.

87- سورة البقرة: الآية 16.

88- تفسير القرآن الكريم: للشهيد مصطفى الخميني: ج 3، ص 79، وفيه: عن الكوفيين وهم حمزة و عاصم والكسائي تخفيف الذال يكذبون.

89- سورة الصافات: الآية 89.

90- سورة الأنبياء: الآية 63.

91- سورة الأنعام: الآية 76 - 77 - 78.